أحمد المديني
حين لا يستقر أمامي شيء، ولا تستقيم كتابة، أنظر إلى السماء إذا كانت قريبة أسعى عبثا أن ألامس السحاب، فإن تعالت، عني بعُدت، زدت صعودا ،أمدّ إليها ألف حبل أستوحش الغياب. لا أعرف ما ينقص ولا ما أحتاج، بينما عندي كل ما إليه الناس تحتاج. فما خطبي؟ ما الخبر؟
أرى الفصول تمضي، تجري. أراني إثرَها ألاحقُها تارة، أسابقُها أخرى، أبثُّها جهري وسرّي. هي لا تتبدل، بين شمسٍ وعصف وظِل، تتناوب أحوالَها حتى الأزل، ونحن حيارى متى سيرحل كلّ هذا الذل؟! أرى الشجرَ الوارِف، تحته أنا قلقٌ واجِف، من أخمص القدم إلى نحري.
أرفع أصابعي أعلى فيورق الخريف، أصفر أحمر أحور، وأسدلتْ على الليل صوتَها الحفيف. أمشي خلفه أدنو منه أناجيه أكاتِفه أُفاخِذه أتضوّعه أقول هو خلاصي ضوئي والرغيف. فإذا هو برق طار، خلف وهمي ليس إلا أمشي، في كفّي شعاع من أمسي، وبقية من حزن كلِّ نهار.
حين لا يستقر أمامي كلام، قد بار الشعر والنثر بين يدي، نَقْعٌ فوق هاوية، صليلُ سيوف صدئت، وصهيلٌ يحنّ إلى همام، بينا أنسُج من صمتي سبيبا للغمام علّها تمطر فينقشع الظلام. جفّ حلقي، بحّ هتافي بين قعود وقيام” أَعادِلُ ما هجرت الكأس يوما/ فلا تُكثِر ملامة مستهام”
* * *
قبل رحيله وقد طفح الكيل قال السيميائي والروائي الإيطالي أمبرتو إيكو ما علمنا ينطق عن الهوى: “أضحت وسائل التواصل الاجتماعي تعطي جحافل من الحمقى الحق في الكلام. فبعد أن كان[ هؤلاء] يثرثرون في البار فقط مع كأس نبيذ، دون أن يضرّوا المجتمع، ثم سرعان ما كان يتم إلقام أفواههم. أما الآن، فقد صار لديهم الحق في الكلام مثل الفائز بنوبل، إنه غزو الحمقى”. لا بأس أيها الراحل المجيد، إن الآلهة أكثر تواضعا منهم، والحضارات تستحي والجبال تخشع متصدِّعةً من خشية الله، إلا هؤلاء، من هؤلاء؟! غزو الحمقى، صدقت إيكو!
لكن ماذا عن العُقال أو أشباههم؟ منهم سياسيون مفوّهون. يحتاج بعضهم أن يوضع له مثل الدواب رِسن ويُشدّ بلجام كي تتحكم في جموحه أو رعونته، وتجرّه إليك كي يكفي الناس صوته أيّاً كان مسماه، وإلا أيّ معنى أن يثقب الشاشة بوجه ممتلئ ونظرتين نفّاذتين وصوت جَهْوري يعلن صاحبه قد ضرب كشحا عن حصاده الثمين، كأن العباد بلا آذان ولا بصيرة فكيف بالعينين، يقول لا يرفّ له جفن إن “عهد المرجعيات انتهى” وهي بلا شك عبارة سمعها عرضا في مجالس يطيش فيها الكلام، فلم يسعفه اللسان كي يشرح ما يعني، ولو فعل لجرّ على نفسه الويلات، فأيّ عالم هذا الذي بلا مرجعيات، أو تخسف به الأرض بفعل كلام كالترهات، أم أن هذا المغرب، مثلا، يوجد ويعيش ويساس معلقا في الهواء. مثل هؤلاء القوالين يظنون أنهم قادرون على مسح التاريخ ومسخ الذاكرة بثغاء، يرددون أقوالا كالببغاء، لا مرجعيات، الأحزاب أفلست، لا حزب ولا صوت إلا هم فصيل التائبين سقط المتاع، لن نذيع سرا فالخزي شاع؛ ويزيدون المناضلون انتكسوا، المثقفون يئسوا؛ المجد إذن للّقطاء!
منذ أربع سنوات خامرتني وأنا في إقامتي بباريس فكرة مشروع يعيد إحياء ذاكرة الأجيال والرواد في الأدب المغربي، في فنون الشعر والرواية والقصة القصيرة، هي الأقوى التي تأسست في أدبنا الحديث وبنت صرحه. ما حفزني لهذه المبادرة بعد قيمة الفكرة، وأنا خارج المغرب، افتقادي لأعلام كانوا من خيرة أصدقائي، ورافقت بعض مسيرتهم الإبداعية الحق، فاشتعل حنيني إليهم وقد غابوا، وبدأت ألاحظ كيف النسيان بل التجاهل حد الإنكار ينسحب على آثارهم الرائدة المؤسسة، لم تجد من يحفظها ويرعى عهدها في ذاكرة الحاضر والأجيال القادمة. لا، بل هناك تنطع لتناسيها والقفز فوقها وكأن ما من جاء بعدها وُجد من عدم، وعموما فالنسيان آفة متوارثة في المحيط الثقافي العربي، بل عندنا نحن العرب جميعا.
أردت تجسيد فكرتي بكيفية رصينة وأكاديمية وتوثيقية. لذا اقترحتها على محافظ المكتبة الوطنية للمملكة المغربية(الأستاذ الموقر إدريس أخروز يومئذ) شرحتها في إصدار كتاب عن هؤلاء الأعلام، وكلهم من الراحلين، وزدت أنه عمل تطوعي مني( أي بلا مقابل مالي) وسيشترك فيه أدباء ودارسون مغربا ومشرقا، تطوعا دائما، والمكتبة الوطنية تتولى طبع الكتاب ووضعه ضمن إصداراتها وهذا مهم توثيقا وقيمة. وكذلك كان، مضى على المشروع إلى اليوم خمس سنوات، أنجزت بدعم مكين جدير بالتذكير والامتنان من الأستاذ عبد الإله التهاني إبان توليه إدارة المكتبة، ثلاثة أعمال عن ثلاثة أدباء مشهود لهم بقصب السبق وعلو الكعب في مجالهم، هم الراحلون: الشاعر أحمد المجاطي( شاعر في السماء) والقاص الرائي محمد زفزاف(صنعة الكتابة)، والثالث الأخير عن عبد المجيد بن جلون( الكاتب الوطني). لن يفوتني في هذه السانحة أن أسجل أيضا بأن الفضول حفزني مرة أخرى رغم جمّ الصعاب لخوض مغامرة إضافية وإعداد كتاب ارتأيت هذه المرة أن يختص بتكريم أديب حاضر بيننا بحيوية واقتدار الأستاذ الميلودي شغموم، وهو العمل الذي تبنته المكتبة الوطنية برعاية مديرها الأستاذ محمد الفران جازاه الله خيرا مع سابقيه، فليطمئن سائر المشاركين فيه إنه قيد الطبع.
للسرد شجرةُ أنساب، الخبرُ أولها، ومنها، منه تتفرع الشجيرات وتنمو الأغصان وتْينع الزهور وتولد الثمار: الحكاية، الخرافة، الأحجية، والتاريخ بمعناه الشامل والمتعدد، وفي الزمن الحديث باتت الرواية سيدة الأنواع. على الكاتب أن يختار، هل يستطيع دائما أن يختار، وكيف؟ قد تكون وجهة نظر في تسخير فنٍّ بعينه، لكنها أيضا وبالضرورة شرط اقتدار، وخلط الأوراق والأسماء ليس حتما شأنا حرا ودليل مهارة، فالفن بملء حرية تحليقه كالطير له طريقة وهو يفرد جناحيه في السماء وإلا يسقط في هاوية. على الكاتب أن يتعلم كيف يختار.
” لا تحسبوا رقصي من بينكم طربا / فالطير يرقص مذبوحاً من الألم” المتنبي.