تعد قصة “بينج بونج” أوضح مثال عن لعبة الكتابة التي تتخذ من لعبة “البينج بونج” أفقا لتشكيل السرد القصصي، لأننا لا ندرك حقيقة حياة حازم وليلى إلا من خلال حكاية هدى (أخت الراوي) وزوجها أسامة في حركة مد وجزر شبيهة بحركة لاعبي البينج بونج، ومن خلال حركة الراوي بين بيت أخته والمقهى الذي يلتقي فيه بأسامة. ننقل من القصة هذا المشهد التصويري الدال، على الرغم من طوله، يقول السارد:
“.. وعاهدت نفسي ألا أعود- إذا التقيت أسامة- إلى هذا الحديث، لكن الليل طال في المقهى وأردنا -بلا اتفاق- أن نتجنب مشاكله مع شقيقتي، فلم يكن هناك بد من الكلام، وفاجأني أسامة بدوره: المرأة معذورة! ولم يترك لي الكثير لأخمنه “حازم كان “منظرا” بلا صحة، لا بد أنك تتذكر”.
قفزت إلى ذاكرتي مشاهد هائمة لحازم في مستشفى ما، لكني لا أذكر أنه كان أمرا خطيرا، وربما حتى لم يكن حازم. ويخفض أسامة صوته: لم يمر على زواجه أسابيع حتى بدأ يسألني- وسط الكلام- عن أقراص ووصفات، ثم لم يعد إلى هذا الأمر، لكني تيقنت من سوء حظ المرأة التعسة، تحدت أهلها من أجله، ثم ماذا؟ لا مال ولا صحة أيضا.
سكتنا، وأخذ أسامة يضبط شعلة الأرجيلة، ويتمتم: لا أنسى تلك المرة، رأيتها تحت البيت في سيارتها المتوقفة، رأسها مائلة على المقود، وتبدو كمن فقدت وعيها، نقرت على الزجاج، رفعت رأسها مفزوعة ورأيت وجهها، ماذا أقول لك؟ لم تكن لتصدق أن هذه ليلى. أخذ يهز رأسه دون أن يشرح السبب في عدم تصديقي المفترض، لكني تخيلت وجه ليلى الصبوح، وقد ملأته كدمات كبيرة، أو ربما محض دموع. وتابع أسامة وقد بدا عليه –للمرة الأولى- شيء من الإشفاق: واكتملت الطامة بالسكري، اللهم احفظنا.
لم أستطع أن أحدد الطرف الذي يشفق عليه أسامة، لكنه أوضح وهو يضبط مجددا شعلة الحجر: يعني، رجل مريض، فليسرحها بإحسان، لكنه ابتزها بالحب، ربطها حتى أمرضها.
(…) لكن هدى، في اليوم التالي، وضعت يديها في وسطها:
-هي التي أمرضته يا أخي، ألم تُدخله السجن؟
-سجن؟
رددت بذهول هذه المرة.
أكملت هدى: لم يبق هناك إلا أياما، لكنه انكسر، خرج رجلا آخر، كانوا يزوروننا- تشير نحو الكنبة العريضة فأكاد أراهما- ويمكنك رؤية الذل في عينيه، تتحكم حتى في ألفاظه، والرجل يحبها لكنه مكسور النفس، امرأته تعمل وهو يتعثر، وفي واحد من مشاريعه إياها سجنه شركاؤه، ونقول لها كلمي أهلك يا ليلى، المسكين مقطوع من شجرة، تقول لنا سأتصرف، كبرياؤها فوق كل شيء، اتصلتُ أنا بأهلها، دفعوا المال وأخرجوه، خرج من السجن وحل الهم، وما الذي ورطه في ذلك، أراد رفع رأسه أمامها، أذلته.
“لا يا حبيبي”. يقول أسامة، في لقائنا الأخير قبل عودتي إلى الغربة، “سجنه طمعه وكسله، لا يريد أن يعرق، امرأته تهلك في العمل وهو يريد الكسب من الهواء، طيب يا حبيبي هذه مسألة تحتاج الذكاء، وحازم يعني، أنت تذكر طبعا”. ويضحك..”( من ص. 33 إلى ص. 36)
هكذا إذا كانت المرأة تدافع -طوال القصة- عن حازم (المنتحِر)، فإن زوجها- المنفصل عنها- يدافع عن ليلى الميتة التي قتلها مرضها. ومن خلال ما ينقله السارد نرى مكر الحياة ولعبها يتشكل من خلال ما جرى لليلى وحازم، كما نرى في الخلفية حكاية صراع آخر بين أخت الراوي: هدى وزوجها أسامة تتشكل لتجعل لعبة الحياة لعبة “بينج بونج” بين طرفين متنافسين أبدا: حازم/ وليلي- أسامة/وهدى، وبينهما السارد الشاهد والحكم المحايد الذي لا يعرف أي طرف يقول الحقيقة، وأي منهما يسرد الواقع ولا يختلق من خياله ما يحكيه. وبهذه الكيفية يتشكل متخيل هذه القصة الماكرة التي تتخذ من لعبة الحياة ومن لعب الكتابة السردية منطلقا لبناء عوالمها السردية وتشكيل خطوط فنها القصصي الجميل. وهكذا يتناوب أسامة وهدى حكي مأساة صديقيهما –وصديقي الراوي- كل من وجهة نظره الخاصة، وما يدلي به أحدهما يكون منطلقا لاعتراض الآخر وكشف تفاصيل جديدة من حياة الصديقين الراحلين. وعبر هذه اللعبة القصصية يجعل الكاتب أسامة وهدى مشاركين للسارد المحايد في عملية السرد والتخييل، وفي عملية تحليل ظاهر الحياة قصد الكشف عن مخفيها. وبهذه التقنية السردية يتمكن محمد خير من إبداع عالمه القصصي المتفرد، وتوظيف ألاعيب الكتابة منطلقا لتشكيل متخيله.
وفي قصة “الخروج من الليل” تستند لعبة الكتابة إلى الفانتازيا وهلاوس راو يتعاطى الحشيش مع صديق له يدعى سيد لتشكيل متخيلها القصصي. والوقائع التي ترويها القصة يتداخل فيها الواقعي بالمتخيل تداخلا كبيرا بحيث لا ندرك حدود كل منهما. وعبر هذه اللعبة الكتابية الماكرة يجسد الكاتب عالم الليل بالتباساته وما يكتنفه من ظواهر لافتة للنظر: ممارسة رجال الشرطة، وما يجري في الشوارع تحت طائلتهم، أو في أقبية أمكنتهم “الرسمية المهمة جدا”، كما يسميها السارد. كما يجسد شخصية بطله في اختلاط الأشياء عليها والتباس واقعها بهلاوسها، وتقاطع مصير حياتها بحيوات الآخرين. نأخذ هذا المقطع التصويري الذي تنتهي به القصة مثلا للاستدلال على هذا النوع من اللعب السردي الذي يستند إلى تداخل الواقعي بالمتخيل والافتراضي:
“… كانت أمامي غرفة دون مداخل، دُرت حولها حتى وجدت الباب، فدفعته ودخلت، وبعد لحظتين كنت ممددا على الأرض وأمامي سيد يحاول أن يفهم سر الدماء التي تسيل من وجهي، تلفت حولي فوجدت أصدقاءه ينظرون لي بأعين غائمة، وكان هناك ماء يرشونه على وجهي، ثم شعرت بكمادة، واقتربت من أنفي روائح لاذعة، بدأ نبض قلبي ينتظم، لكنني كنت لا أزال بعيدا عن الإفاقة، وغفوت لثوان، ثم استيقظت فلم أجد أحدا في الغرفة سوى سيد، ينظر إلي بقلق قبل أن يقول إنه سيذهب ليأتي بطبيب صديق، أردت أن أسأله لم لا يتصل بالطبيب ليأتي، لكنني كنت واهنا، فراقبته يغادر بسرعة.
هدأت بعد قليل، وشعرت أنني أتحسن، فقررت الخروج لاستنشاق هواء السطح، فتحت باب الغرفة ثم تجمدت من الرعب، إذ انفتح الباب على فراغ يُطل على الأرض من ارتفاع شاهق، وكأنه باب شرفة ولكن دون شرفة، عدت مفزوعا إلى الخلف، واتجهت إلى الجدار الآخر حيث وجدت شباكا صغيرا يطل من ارتفاع مترين على أحد ممرات البناية، حشرت نفسي وقفزت بصعوبة، وارتطمت بالأرض بضجيج مكتوم، مشيت في الممر إلى نهايته، فوجدت زحاما من موظفين وأطباء ورجال شرطة، وقلت لا بد أنني في مكان رسمي ومهم جدا.
وقفت لثوان أتنفس بهدوء، وفكرت في أنني لو تحركت بهدوء وثبات وثقة، فسأخرج من هنا دون أن يشك بي أحد”.(ص. 50-51)
عن طريق لعبة التداعي الحر والسرد المتوتر السريع تشكل القصة قواسمها الفنية وعوالمها الحكائية الممتعة الماكرة. وبذلك تستطيع تصوير حالة بطلها (الراوي) النفسية، وما يعيشه من هلاوس وهواجس، تعكس جوانب من لعبة الحياة: لعبة تتماهى فيها الحدود بين الحقيقة والخيال، وبين ما تحياه الأنا وما تحياه الذوات الأخرى، كما تتمثلها الرؤية الغائمة الضبابية لهذا السارد الذي يعاني مما حوله، فلا يجد مفرا سوى هذا العالم غير الواقعي الهلامي ليرتمي فيه هربا من ليل الواقع الذي يلفه الشك والقهر والظلم إلى نهار مفترض: المتخيل بما يتيحه من قدرة على خلق يقينيات ذاتية وتحرر وعدل. وبهذه الكيفية تقول القصة أشياء كثيرة عن طريق مزجها بين لعبة الكتابة ولعبة الحياة في تقاطعهما وامتزاجهما لتصنع منظور الكاتب لما يجري من حوله.
وتعد قصة “الأيام المفقودة” أطول قصص المجموعة وأشدها مكرا ولعبا. إنها قصة المنفلت من الحياة في زوايا النسيان أو أفق المأمول. وهي بذلك تنسج خيوطها السردية عبر عملية الافتراض، ومن خلال لحظات اندهاش متتالية يعيشها بطل القصة وراويها، وهي لحظات يُشرك القارئ في معايشة وقائعها الغريبة التي تتميز بإيقاعها المتوتر السريع وتدفقها الماكر الخادع مكر الحياة وخداعها. وهو الأمر الذي يجعل المتلقي يتعاطف مع الشخصية المحورية في هذه القصة وتُحركه هواجسها وقلقها، فيصاب مثلها بالتوتر والقلق ويسعى إلى محاولة فهم مكر الوجود وسر الحياة في لعبها الماكر وخداعها المستمر للناس. يقول السارد:
“… لكن الجنون استمر، في المكتب كنت أفتح بريدي الإلكتروني، وجدت رسالة من الشركة المنافسة لشركتنا:
“الأستاذ…
نهنئك باجتياز المرحلة الأولى من اختبار التقدم لوظيفة…،
تم تحديد موعد آخر للمقابلة الشخصية يوم…..
مع تمنياتنا بالتوفيق”.
حدقت مفتوح الفم في الرسالة، وأعدت قراءة اسمي مرارا، ثم فتحت صندوق الرسائل الصادرة، لم أجد أنني أرسلت أي رسالة إليهم، واقترب مني أحد الزملاء فأخفيت الصفحة، وبعدما ابتعد، قررت مسح الرسالة، لكني عدت في اللحظة الأخيرة ودونت البيانات والتاريخ في ورقة صغيرة، أودعتها محفظتي، ثم حذفت الإيميل.
وفي الطريق نظرت فتاة إلي فابتسمت لها، لكنها أعادت إلي نظرة غاضبة، واتضح أنها كانت تنظر إلى شخص خلفي، فأسرعتُ الخطى محرجا، وفي البيت أخذت أفحص أوراقي وجداولي، وأخرجت الصور القديمة، كنت دائما شخصا منظما إلى حد لا بأس به، ليس في حياتي فترات ضائعة أو مشردة أو مفقودة، في الأجندات والدفاتر أدون عادة مواعيدي، وبعض اليوميات من حين لآخر، ليس لي تاريخ مرضي أو شيء من هذا القبيل، فهل يبدأ الآن؟ أخذت نفسا عميقا، ثم تطلعت إلى الموبايل الساكن على الطاولة، تناولته، ثم فتحت مخزن العناوين وأخذت أستعرض الأسماء، أعرفها وأذكرها جميعا بوضوح، ليس فيها اسم غريب أو لقب منسي، عدا اسم واحد حاولت تذكر صاحبه، ثم تذكرت: الرجل الثلاثيني ذو الحلة السوداء، لكن لو كلمته سيعيد إلي سيرة المدرسة القديمة دون أن أتذكره، فلم أحرج نفسي بلا فائدة، أعدت الهاتف مكانه، ثم التقطته وأخذت نفسا آخر واتصلتُ بأمي، رن الهاتف مرات ثم أجابت، أغمضت عيني متحملا اللوم المعتاد، ومتوجسا من أن تفاجئني بشيء آخر لا أتذكره، لكن المكالمة انتهت بسلام..”(ص. 69-70)
هل فعلا هناك سلام في الحياة؟ وهل أحس بطل هذه القصة بالاطمئنان والراحة والهدوء؟ وهل الثبات على الذاكرة أو تخلخل وظائفها يفضي إلى تحقق السلام والاطمئنان أو انعدامهما؟
نجد القصة تروي -في إيقاع متسارع ومتدفق- أحداثا تكتنز قدرا كبيرا من الفوضى، وتصور حالات من الاضطراب والقلق والتوتر التي يعيشها البطل ناجمة عن دخوله منطقة التباس بين حقيقة ما يعيشه وبين خداع الذاكرة ومكرها. وبهذه الكيفية يركز السارد على هذا الجانب من جوانب حياة الإنسان: الإصابة بفقدان الذاكرة أو تشوشها نتيجة مرض ما ليشكل من خلالها عالما قصصيا لا يخلو من طرافة وقدرة على اللعب الفني الذي يجسد لعب الحياة بالإنسان ومكرها به. وعن طريق هذا النوع من المتخيل القصصي يلقي الكاتب نظرته على بعض ما تختزنه الحياة من غموض والتباس، وما يعرفه الإنسان من تقلبات أحوال وتبدلات في الذات إلى حد الإحساس بالجنون، والشعور بمكر الوجود وتفاهة الحياة ذاتها.
بهذه الكيفية يصنع محمد خير جمال قصصه في بناء سردي ينتصر إلى اللعب الفني المحكم، وهو لعب يستمد نسغه من لعب الحياة بالإنسان ومكرها به. وهل الفن إلا حياة أخرى تتغيا فهم أسرار الحياة والتباساتها؟ وهذا ما تقوم به الكتابة أساسا في مجموعة “رمش العين” من خلال إمكاناتها السردية المتعددة وأساليبها الفنية المتنوعة.