ماجد ع محمد
“كنتُ أنظر دوماً إلى الروايات كمنتوج تافه إلاّ
أنني اكتشفتُ أخيراً أنها مفيدة للغاية ضد الكآبة”
البرتو مانغويل
في رحلتنا الوجودية على حدبات هذه البسيطة، قد يقف واحدنا برهةً بعدَ طول السفرِ ويلتفت من شرفة بعض المحطات التي يأخذ قسطاً من الراحة فيها إلى الوراء، وينظر بعينٍ ثالثة إلى المكان الذي كان فيه مقارنةً بالذي صار إليه، حينها ربما لا يشعر بالارتياح طالما أنه لا يرى نفسه في المكان الذي سعى جاهداً للوصول إليه، ولكنه عندما يقارن حاله بحال بعض أقرانه والتغييرات التي طرأت عليه وعليهم خلال نفس المدة الزمنية، والثوابت التي لم يتزحزح عنها رغم صروف الدهر والكوارث الطبيعية المدمرة وتغيير الزمان والمكان، فقد يزوره آنئذٍ شعورٌ يُشبه طيفَ الرضا عن الذات.
وبعدَ التأمل مِن بعيدٍ هب تراهُ متحدثاً إلى نفسه وهو يقول: ما كنتَ تنظر إليه بكامل النفور في الأمس قد تراه بعد حين بخلاف رؤيتك السابقة، إذ عندما تدرك كفردٍ من المجتمع عقليات الملل التي تعايش فصول تغييرها من ناحيةٍ إلى أخرى هي بالضد منها خلال فترة من الزمن، أو عندما تلاحظ أنها مهيأة للانسياق من قِبل أي طرفٍ قادر على سوقها عبر إعلام الكراهية أو من خلال شراء الذمم، ستغيّر رأيكَ حتى بسياسة الحكومات التي تنتقدها ليل نهار بكونك كنتَ تراها على الدوام دون تطلعات ذلك الشعب، وذلك من خلال اقتناعك عبر التجارب الواقعية التي تجري أمامك، بأن هذه الفئات البشرية جاهزة لأن تتحول إلى بؤر حاضرة للانسياق الغريزي الصرف، وتغدو في متناول الجهة التي تقودها وهي على أهبة الانفجار للانقضاض على الغير ليس بناءً على ما يُشكل الغير من الخطر السياسي أو الاقتصادي أو الأمني أو الوجودي عليها، إنما بناءً على ما يتلقفه ذلك الحشد من معلوماتٍ وأوامر فحسب؛ وهو ما يدفع المراقِب ليتراجع عن تصوره الدائم بأن العلة فقط في الحكومات ولا شأن للرعية بكل المجريات في البلد.
وبخصوص المجريات والمواقف التي بدرت مننا قبل تفجير الأحداث وبُعيد انطلاق المظاهرات السلمية في سورية، أرى نفسي كفرد من أفراد المجتمع السوري بأني لم أكن على صواب في بعضها، ومنها إذ كنت يوماً ما أثناء فترة الجامعة أتململ من مبادرة زميلٍ لي في نشر الكتب الأدبية لبعض الأخوة الشباب منذ بدء تفتق مواهبهم الكتابية، حيثُ كنتُ أعتقد آنذاك بأن تجربة المرء ينبغى لها أن تصل مراقي البلوغ بعد البناء الذاتي والنضوج العمري والمعرفي وبعدها لا بأس إن سارع ذلك الشخص إلى نشر منتجه، ولكني اليوم أقر بأنني لم أكن دائماً حيال ذلك الأمر على صواب، بما أن المرء لا يضمن بقاءه حياً لشهرٍ أو اسبوعٍ أو حتى ليومٍ واحد، والتأجيل الدائم جريمة بحق ما يختزنه المرء ولا يقدمه، خصوصاً إن كان يرى المخبوءَ لديه جديرٌ بأن يغدو في متناول العامة، كما أن الاهتمام اليوم يميل إلى المنتج وكميته بغض النظر عن نوع المنتج، وتوصلت إلى استنتاج بأن المبدع المميز هو ليس بالضرورة مَن يرفض الظهور للعلن ويفضل البقاء في الظل ومن ثم يحتفظ بأفكاره في أعماق ذاكرته أو يكشفها للحلقة الضيقة القريبة منه مِن مجموع أقرانه فحسب، إنما صرنا نرى بأن ذلك الذي يطرح اللُّقى على الملأ فيتداولها الناس على ما هي عليه ليس أقل قيمةً من قرينه المبالغ في التأجيل والتأني.
وعلى مستوى السلوكيات الاجتماعية كنا في مدينة حلب قبل 2011 نتعجب من الرجل الذي يقوم بقفل منزله على عائلته بالمفتاح عندما يخرج من البيت من باب الحرص الزائد على الشريك، وكنا نقول عن ذلك النموذج الذكري أنه لا يثق بأهل بيته كامل الثقة، أو أنه يعاني من داء التشدُّد، لذا لا يريد لأي كائن ذَكري أن يتحدث مع عائلته وخاصة بغيابه، إلاَّ أننا بعد أن انتشرنا في مغتربات المعمورة وصرتُ كغيري بما يشبه اللاجئ في مدينة اسطنبول التركية تغيرت وجهة نظري، وصرتُ مثلَ غيري حريص على قفل باب البيت إن خرجت منه وحتى قفله حين عودتي للبيت من الداخل، وذلك لعدة أسباب مهمة ألا وهي الأمن والسلم والاطمئنان، لأن في هذه البلاد حتى الدولة تطلب منك بأن تأخذ كامل احتياطاتك خشية مداهمات اللصوص.
وكذلك الأمر فبعد وصولنا إلى هذه المرابع استهجنتُ بدايةً عادة الأتراك في اللقاء بالمعارف والأصدقاء حصراً في المقاهي عوضاً عن البيوت، ولكنني بعد سنواتٍ من المكوث في هذه الديار رأيتُ بأنني لم أكن على صواب وصرتُ أراهم أكثر تنظيماً مننا في هذا المجال، لأنهم لا يستقبلون في البيوت أياً كان كما كان حال الكثير منا هناك في بلدنا، حيث أننا حولنا بيوت بعضنا إلى مقاهي في سورية، وكثيراً ما قُضمت مساحة الخصوصيات بشكلٍ كامل من وراء فيض الزيارات المنزلية.
وفي إطارٍ آخر كنتُ في فترةٍ ما قبل الزواج وتحديداً بعد أن تزوج صديق مقرب لي ألمح إليه بألا يُقّبل زوجته أو يلاطفها أمام والدته التي فقدت زوجها منذ سنوات طويلة، وذلك ليس لأن أمه تكره ذلك المشهد الحميمي، وليس من باب الاحترام عليهم تجنب تلك الحركات أمامها فحسب، إنما كنتُ أتصوّر بأنه قد يداهمها في لحظة ما الاحساس بالحسرة على شيء عاطفي أو بيولوجي انحرمت منه طويلاً، وذلك بعد أن غادر زوجها البيت والتحق بقافلة الحوريات منذ زمنٍ ليس بقليل، ولكني بعد أن تزوجتُ وباعتباري غير مهووس بتلبية الحاجات الغريزية على الطريقة الحيوانية، تذكرتُ تلك المواقف ورأيتُ بأني كنتُ مبالغاً في موضوع الحاجات البيولوجية للذكر والأنثى، وأن ثمة أناس ليس لديهم تلك الأهمية العظمى لمطارحات الجسد، وبمقدورهم العيش بدون كل ذلك الاهتمام الجم بالحاجات الإيروتيكية، وربما إهمالها لفترة لا بأس بها من الزمن بكل أريحية، ولئلا أعمّم الحالة فعلى الأقل أراني غير بعيد عن الذين أشرتُ إليهم.
وحيال التوق للتغيير العام للبلد ككل فعادةً كلما يتضاءل إيمان الشخص بالقضايا التي يؤمن بها، تراه يخفض تدريجياً من وتيرة شعاراته التي كانت في العلالي بداية الحماس الإيماني، بل ويبدأ المرء بالتهرب تدريجياً من كل الشعارات التي كان يعتصم بها أو يرددها في مجالسه، ليتحرر مع الزمن من عبء الكلمات والوعود التي قطعها على نفسه، ولعلها حالة عامة لدى الكثير من مواطني الشرق الذين تتصادم الوقائع مع توقعاتهم وتناهض الأقوال مجمل أفعالهم، وفي بيئتنا كثيراً ما ينخدع المرء وتأخذه الهتافات وينساق وراءها، بينما هناك أناس ملتصقون بالواقع وينطلقون مما هم عليه من دون ادّعاءات أو أوهام أكبر من قدراتهم، ولكن مع ذلك ترى الجمهور متحمس ومنبهر بمن يخاطب غرائزهم ولو كان على خطأ، ولا يتقبلون كلام الشخص الواقعي ولو كان حديثه مُطعَّم بالحقائق، ومن هؤلاء الذين كانوا يتجنبون الانضمام لأيِّ حراكٍ ثوري في سورية فنانٌ من سكان حيينا بمدينة حلب، إذ أنه ومنذ بداية الحراك الجماهيري في 2011 كان غير متحمس لذلك الحراك بالرغم من أنه تعرض للإهانة والضرب من قبل الأجهزة الأمنية، وفي إحدى الجلسات ومن دون أي غموض أو تغليف لمنطوقه، قال صراحةً: إنه تحمل فساد أوباش حزب البعث العربي الاشتراكي أزيد من 40 سنة وهو ليس على استعداد لأن يموت أو يستشهد لتأتي حفنة من الانتهازيين واللصوص وقطاع الطرق الجائعين ليتسلموا مقاليد الحكم بناءً على دمائه ودماء أقرانه وتصبح تلك الزمرة في السلطة بعد العبور من فوق جسده وجسد أمثاله؛ فوقتها كل من كان حاضراً استهجن الرأي والموقف الذي بدر منه، وأعتقدُ جازماً بأنه في حينها ثمة من شتمه في سره، مَن يدري فلربما حتى صاحب الملفوظات نفسه كان مستغرباً مما يصدر عنه من الكلمات في وقتٍ كانت السلمية ما تزال أجمل حُلةٍ خرجت بها الثورة السورية آنذاك، إلا أنني وبعد سنوات من ذلك الحدث الذي جرى في حي الشيخ مقصود بحلب عام 2011، وبعد مقارنته بما قام به من ادعوا بأنهم طلاَّب حرية في نفس الحي أي في 2013 ومن بعدها في منطقة عفرين في 2018 بتُ موقناً بأني لم أكن دائماً على صواب في الكثير من الأمور، ولا ذلك الشخص ومن هم على شاكلته كانوا على خطأ كلي في كل ما قالوه وصدر عنهم، حيث أنه لو جرى استفتاء حقيقي بإشراف مباشر من قِبل الأمم المتحدة، استفتاء ليس للكلاشنكوفات أي دور في مساراته، فأعتقد بأن غالبية سكان منطقتي كانوا سيفضلون حتى الشيطان على الذين حولوا حياتهم باسم الثورة إلى جحيم حقيقي.
وفي ما يتعلق بتقييمنا الشخصي لمن كانوا حولنا، ففي أعوام التسعينيات وفي أحد أحياء المدينة كان ثمة رجل وزوجته ولهم ثلاثة أطفالٍ صغار يتم تناقل أخبارهم بالسوء في الحي، وبما أننا كنا نقطن نفس الحارة كنا نسمع من هذا وذاك القصص الإباحية لزوجة الرجل، وأتذكر بأن الإهانات التي كانت تُدلق على رأس بعلها في حضوره أو غيابه لو نزلت على بيدرٍ ضخمٍ لغطته بالسخام، فيما الرجل بقي ملازماً عمله وبيته ومتحدثاً باللين مع زوجته عن ضرورة الكف عن امتهان الرذالة، إلاّ أن أحلام الزوجة كانت أعظم من حجج الرجل وبيادر الإهانات ونظرات المجتمع، وفي الوقت ذاته لا ذلك المجتمع المحلي الضيق رحم الرجل، ولا الزوجة قدَّرت حالة زوجها وتركت العمل في مجال بيع الهوى في فنادق المدينة، ولا الزوج استطاع أن يغير من استراتيجية زوجته في مجال الثراء السريع؛ ومضت الأيام والشهور وإذا بنا نسمع بأن الرجل ترك المنزل بما فيه وراءه وغادر سوريا وحط رحالة في أوروبا، فوقتها هناك من قال عنه خسيس، ومن نعته بالجبان ومن اعتبره ديوس وقوّاد بين العشيرة، وما مِن جملةٍ دنيئة إلاّ وقيلت بحق الرجل، ولا أدعي بأني كنتُ اليسوع المدافع عنه أو عن زوجته التى كانت ترى بأن بيع الهوى أسرع طريقة لتحسين الحال اقتصادياً، بما أنها لا تمتلك أية موهبة أو حرفة أو آلية تحسن ظروفها المادية غير ما تمتلكه من ذلك الجسد المصقول المثير، إنما كنتُ منساقاً مع القطيع في لوم الرجل والنظر إليه باحتقار رغم أني لم أكن متحمساً مثلهم لقتل الزوجة بداعي الشرف، حيث كانوا يعتبرونه الحل الأنجع له وللمجتمع برمته، ولكن بعد مضي سنوات على الحادثة تغيّرنا وغيّرنا الأماكن، وتغيّرت مفاهيمنا، فلم أعد كما كنت في السابق محتقراً الرجل، ولا أحمل الآن أيَّ موقفٍ سلبي تجاه زوجته تلك، بل ويبدو لي الآن أن تصرف الرجل محط تقدير لأنه وفق تصوري الحالي أنه لم يقدم على تلك الخطوة، أي في عدم قتلها وعوضاً عن ذلك فضّل خيار التخلي عن كل شيء والرحيل، إلاَّ لأنه كان عاشق محب حقيقي لزوجته مع كل أخطائها، أو أنه كان يُفكر بطريقة المتصوفين القادرين على تحمل المشقات والصعاب ولكنهم لم يُخلقوا لإلحاق الأذى بأي شخصٍ كان، أو لعله كان سلوكياً من مستوى جان بول سارتر في علاقته بزوجته، ولكنه لم يكن صاحب قلمٍ مثله لكي يدافع به عن فكرته أو عن نفسه فيؤلف كتباً عن وجهة نظره.
ومن المحطات التي لم أكن فيها على صواب أذكر بأني قبل 2010 كنتُ أمر بين الحين والآخر على مقهى الفندق السياحي بحلب، وفي تلك المشاوير كنتُ ألاحظ بأن أحد مترجمي الأعمال الإبداعية التركية إلى اللغة العربية لا يبدأ يومه بالترجمة إلاّ وهو محاط بقواميس اللغة وخاصة التركية العربية أو العربية التركية، فبيني وبين نفسي كنت أستغرب من وضعه، هذا إن لم أقل بأني كنتُ أستهجن آليته في العمل حينها، باعتبار أنني كنت أتصور بأن المترجم طالما يحفظ كلمات اللغتين غيباً فلا يحتاج الأمر إلى القاموس، ولكني فيما بعد عرفتُ بأني لم أكن محقاً آنذاك قط خاصةً بعد أن صرتُ أنا الآخر أترجم من لغة إلى أخرى، فأدركتُ بعدها بأن اللغة التي لا نستعملها يومياً وخاصةً إذا كانت غريبة عن حياتنا الاجتماعية أو الثقافية فإن الكثير من الكلمات بحاجة إلى مراجعة القاموس لمعرفة ما إن كان مدلولها صحيحاً أو كانت المفردة مكتوبة بشكلها السليم أم لا.
لذا فمن الوقت الذي رحتُ أسترجع فيه مجمل هذه المواقف في ذاكرتي وأديرها في جميع الوجوه، عاهدتُ نفسي على أن لا أسارع إلى اتهام المختلف، وألا أُكثر من المآخذ على الآخرين فيما يقومون به، ولا أتعجل في لومهم جراء القرارات التي يتخذونها، إلاّ بعد أن أقترب من عوالمهم، وأعرف المناخ الذي يعيشون فيه، أو أجد نفسي في مواضعهم، أو أتمثل نفس الدور الذي كانوا يقومون به، أو أعيش الحالة التي كانوا فيها قبل التعجل في إطلاق أيّ حكم عليهم؛ وفي هذا الإطار فمن أجل فهم الناس ومعرفة ظروفهم يقول المثقف والناقد الفرنسي الكبير سانت بوف: “لا توجد سوى طريقة واحدة لفهم الناس: وهي ألا نتعجل الحكم عليهم، وأن نتركهم يفسرون أنفسهم ويوضحونها لتتكشف معالمها في نفوسنا”.