لا مفاتيح هناك.. أن تكون سرياليًّا، أن تكون أشرف الصباغ

ashraf al sabbagh
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

سعد القرش

في عام 2003 كتب فاروق عبد القادر عن رمز ستيني شهير، غزير الإنتاج والجوائز والأسفار: «هذا كاتب سوّد آلاف الصفحات، حرفيًّا دون مبالغة، ورغم ذلك لم تخلص لغته بعد». فليس سهلًا أن تخلص للكاتب لغة، أن ينتهي إلى لغة تدل عليه. فعلها أشرف الصباغ. أستشهد بعمله الأخير «لا مفاتيح هناك» (دار روافد 2025). هي قصة قصيرة طالت قليلًا، أو رواية قصيرة استطاع تخليصها من زوائد أسلوبية، ونزع منها شحومًا بلاغية، وأكسبها سخرية يندر أن نراها في الكتابة الروائية العربية.

قناع السخرية «يخفي كل الآلام والتجاهل والاحتقار، ويجرد صاحبه من الرغبة في الانتقام، يقيه من هلاك الروح» كما يقول الراوي. السخرية، بهذا المفهوم أو القَدْر المقتصد، أسلوب وقائي يصون صاحبه ولو مؤقتًا؛ فلا توجد «أيّ ضمانة في ألا ينقلب إلى وحش في أيّ لحظة». ومن تجليات لعبة، أو ثنائية، الحقيقة والقناع «أن الإنسان يحتاج فقط إلى أن يجعل جلده سميكًا بعض الشيء، ثم يتحدث عن المشاعر والأحاسيس». وقد يكون الإنسان أكثر صراحة، فيتمادى في الذهاب «إلى سوق الأقنعة ليختار منها الأجمل والأرقى والأكثر حساسية وثقافة وأخلاقًا».

وراء السخرية والصلابة شيء من هشاشة إنسانية، تجسدها دراما لا تميل إلى الوعظ، ولا تستسهل الإدانة الأخلاقية. يحتاج أبطال هذه الرواية، كما في الحياة، إلى الونَس. يلتمسونه في الحب، أو المشاركة في فهم ألغاز خبر كارثي أسطوري مثل سقوط سيارة أجرة من فوق كوبري الساحل ليبتلعها نهر النيل، أو في حكاية سريالية قبل النوم مثل حكاية الكتكوت.

الراوي دكتاتور يهيمن على السرد، كليّ المعرفة، يفرض وجهة نظره على القارئ، ينوب عن آخرين نراهم في مراياه، ولا يفلت من قبضة روايته إلا عيد ابن خالته؛ لأنه سريالي. أما بطلة الرواية طبيبة العيون السريالية نورهان هانم أباظة فلا تفيدها سرياليتها دائمًا، وتظل أسيرة رؤية بطل الرواية. سيدة جميلة وجذابة وجامحة، سليلة الأرستقراطية، تخالف ميراثها العائلي، وتقرر أن تعيش كما تريد. يحصي الراوي عدد مرات زواجها وطلاقها، ولا نعرف هل أخبرته بذلك؟ لكنه يوثق تفاصيل فترات وجودهما معًا، منذ مصادفة اللقاء، وفي بيتها بالزمالك، وفي مناسبات وزيارات لأصدقاء، وصولًا إلى مسكن متواضع يقيم فيه عيد ابن الخالة في حي عين شمس.

لا أميل إلى قراءة العمل الأدبي من زاوية تخييل الذات، والنقاد المتلصصون يصرون على ذلك. أقرأ الرواية باعتبارها عملًا تخييليًّا. لا يهم من قريب أو بعيد أن تتقاطع جملة حوارية هنا، أو مشهد هناك، مع ما قد يعرفه القارئ؛ فالرواية تستهدف قارئًا متخيلًا، الآن أو في جيل تالٍ لن ينشغل بمعرفة ما وراء حكاية رواية قد تنتهي منها ولا تتذكر اسم البطل. لكن البطلة طبيبة العيون السريالية نورهان هانم أباظة لن تغادر الذاكرة، يتمنى القارئ أن يصادف مثل هذا النموذج العاصف في تلقائيته وإدهاشه، المتمرد على تاريخ طبقته. يصدقها القارئ، وإن بدت أحيانًا مضحكة وهي ترتدي ثياب طبقة أخرى، وتقلد خطابها وخصوصًا السباب، من دون أن تُتهم بالاستشراق.

بهذه الروح الطليقة تسيطر نورهان هانم أباظة على بطل الرواية المستند إلى ثقافته، وخبرته الحيوية في قاع المدينة. تقتحم حياته فيعيد اكتشاف ذاته، ويدرك سريعًا أنه يكتمل بها. اعتياد مدهش يمنحه شعورًا بأن «الجسد لا يفضّ أسراره إلا مع جسد قرين يشكل جزءًا منه وامتدادًا له». وفي نهاية الرواية، بعد اختفاء نورهان، يشعر بالخواء والغربة، لا تعرفه الأماكن القديمة، «لم تعد تتقبلني وحيدًا، وكأنها تمعن في رفضي حين أجلس منقوصًا بعيون شاردة مثل جثة حية… وكأنها تتعمد أن تعلن تجاهلها لنا وعدم معرفتها بنا، إلا إذا كنا مع بعضنا… أنكرتني الأماكن تمامًا».

طبيبة العيون السريالية نورهان هانم أباظة تصيب عدواها لغة الراوي؛ فيصير سرياليًّا. يحكي أن الناس في الإسكندرية، بعد نكسة 1967 بعامين أو ثلاثة، شاعت بينهم وقائع انشقاقات أرضية غامضة ابتلعت مواطنين وسيارات، «في هذه الأيام كنا في الإسكندرية لا نسمع من مطربينا المحبوبين إلا عفاف راضي وأم كلثوم وجمال عبد الناصر، خاصة وأن الأخير كان يعوضنا دائمًا عن غياب المشير عبد الحكيم عامر الذي أكد بعض جيراننا أنهم سمعوا بعض الأجانب في منطقة «جليم» يتحدثون عن أنه كان البطل الوحيد لحرب 67، بينما أكد آخرون أنهم سمعوا أثناء جلوسهم على جبل الرمل في أبو قير أنهم جميعًا كانوا في سهرة حمراء قبل الحرب بيوم واحد، وخرجوا منها ليصلوا الفجر حاضرًا».

ظهور عيد ابن خالة الراوي، في نهاية الرواية، يدخل البهجة، وينعش السرد فيجعله أكثر غرائبية، حتى إنه يحكي عن توجه المشير عامر، في سيارة أجرة، مع رفاقه إلى غرفة عمليات سرية في حرب 1967. وفي منطقة ألماظة بالقاهرة فرقعت فردة كاوتش؛ فانتظروا في الشارع واقفين، حتى قام سائق التاكسي بتغييرها. رواية عيد تنقض رواية رسمية تقول إن المشير كان موجودًا في الطائرة؛ فامتنعت القوات الجوية عن ضرب طيران العدو؛ خشية قصف طائرة المشير. ويستنكر عيد ذلك، ويجادل بأن «المشير ورفاقه كانوا يلبسون نظارات شمسية سوداء تغطي ملامحهم، ولم يكن بمقدور قوات العدو أن تتعرف عليهم وهم في طائرة مغلقة تحلق في الجو».

أما حكاية الكتكوت، التي يصعب اختصارها، فتنافس قصص ألف ليلة وليلة، باختراق حواجز الأمكنة والأزمنة. هي الحكاية الوحيدة التي أدمنت سماعها طبيبة العيون السريالية نورهان هانم أباظة. في المرة الأولى كادت تجنّ، وصرفها جنون الدهشة عن ملاحظة تكرار الحكي الدائري. وفي المرات التالية أنصتت، ولم تنتبه أيضًا إلى التكرار.

ستعيش شخصية نورهان هانم أباظة طويلًا. ولعل رواية «لا مفاتيح هناك» تصادف سينمائيًّا محبًّا للأدب؛ فتجد طريقها إلى عالم أكثر سعة. ياه، كبرنا وهرمنا. لم أفكر في ذلك، أو أتوقعه، في نهاية الألف الميلادي الثاني، حين نشر أشرف الصباغ مجموعته القصصية الأولى «قصيدة سردمدية في حانة يزيد بن معاوية»، وقابلني في 4 فبراير 1997 للمرة الأولى، وأهداني المجموعة المهداة إلى فريدة النقاش. أحببت عنوان القصص، وأحببت أشرف، قبل قراءة النصوص، وقبل قراءة إهدائه «نتعرف على بعضنا البعض الآن..! شيء مدهش رغم أن الجيل واحد. لكن الجميل في الأمر أننا تعارفنا بالفعل.. فهل سنجد وقتا لتعبيد هذه العلاقة..! ربما..». الآن أنتبه إلى أنه أنهى السؤال بعلامة تعجب، وليس استفهام.

ربما لم يجد وقتًا، لكنه ظل قريبًا، في القلب، وهو في روسيا لإكمال مشروع الدكتوراه، وإنجاز ترجمات مهمة من المشهد الروسي المعاصر في النقد والقصة والفن التشكيلي. كتب كثيرًا، وتوالى نشر أعمال تؤكد أننا بحضرة كاتب موسوعي، ليست موسوعية معلوماتية معلبة نعاني منها وتسدّ شرايين الحياة الثقافية، وإنما موسوعية واعية، وراءها عقل كبير يرصد ويتأمل ويقرأ ما ورء الظواهر، والأهم أنه جاهز لإعادة النظر في مسلّمات. لا أنسى أنه أصابني بصدمة، عام 2010، بنشر ترجمته لكتاب «الوصية السياسية.. أفكار بليخانوف الأخيرة.. انهيار التجربة السوفيتية»، وأهداه إلى «أحمد نبيل الهلالي.. إنسانًا نزيهًا ومناضلًا أخلاقيًّا».

نسيت الآن موضوع الكتاب، وإن بقي من أثر زلزاله أن مستقبل روسيا سوف «يتحدد بالفترة التي سيقضيها البلاشفة في السلطة. وإن عاجلًا أو آجلًا فسوف تعود إلى الطريق الطبيعي للتطور. ولكن كلما طال وجود الدكتاتورية البلشفية، أصبحت هذه العودة أكثر صعوبة».

ذاكرتي تقول إن صدمة الكتاب أكبر من هذه الجملة. يحدث أن يصيبك منظر، أو شخص في صباح ربنا، بحالة بهجة أو عكننة تحرق الدم. وفي زحمة اليوم تنسى السبب، وتلازمك البهجة أو قفلة النفس.

وضعت الكتاب بجوار كتاب لينين «مرض اليسارية الطفولي»، وعليّ إعادة قراءتهما. عندي الآن مناعة، بعد الصدمة الأولى.

انشغل أشرف منذ انطلاق الثورة، وتابع ارتداداتها في بلدان عربية، آملًا في التغيير، حالمًا بالعدل والحرية. في عزّ الجنون الأسدي والتنكيل بالشعب السوري، عام 2013، سألته، أشرف بالطبع وليس بشار: متى يمشي؟ قال ببساطة: لما يقعد أوباما وبوتين ويتفقان. ذهب أوباما، وجاء دونالد ترامب، ثم جو بايدن، ثم عاد ترامب، والأسد باق هو وبوتين المكين. وفي لحظة الاتفاق قرروا صرف العفريت، فانصرف.

في زمن أكثر عقلانية يفيدنا أشرف الصباغ في التعامل مع الملف الروسي. في زمن قادم، ربما يتاح لباحث دؤوب أن يقرأ هذا المنجز الإبداعي والفكري وانحيازاته في الترجمة، ويقول: ذلك زمن أشرف الصباغ، الكاتب الذي خلصت له لغته.

…………………

*عن “بوابة الأهرام”

 

اقرأ أيضا

أشرف الصباغ.. ملف خاص

أشرف الصباغ.. ملف خاص

مقالات من نفس القسم