لا ضحايا ولا مذنبين في حقيبة حنان عزيز

hanan azeez
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

د. أشرف الصباغ

مجموعة قصص “حلم في حقيبة” لحنان عزيز تضم نماذج إنسانية تتأرجح بين الهشاشة وقلة الحيلة من جهة، وبين الحيرة والارتباك، وربما الاغتراب، من جهة أخرى. ما يجعلها مستسلمة لمصائرها وكأن ذلك من طبائع الأمور. هذه النماذج الإنسانية تخلصت، على ما يبدو، من أي رغبة في تغيير واقعها. وإذا شئنا الدقة، فقد تم تجريد هذه النماذج من القدرة على مواجهة القبح والهدم، بل وتجريدها تماما من الرؤية التي قد تكون مقدمة لفهم ما يجري معها وحولها. 

المجموعة تضم خمس عشرة قصة، تمثل مقاطع بانورامية خاطفة لحياة أشخاص يسيرون مع تيار الحياة غير عابئين بتغيير شيء، إلا أنهم يطرحون في بعض الأحيان تساؤلات تبدو بسيطة وعابرة، وربما ساذجة، لكنها في الوقت نفسه تعبر تعبيرا دقيقا عن أوضاعهم وما آلت إليه حياتهم. وفي الحقيقة، فهذه التساؤلات تبدو من زاوية ما، إجابات على الكثير من الأسئلة التي لم تطرح. أو ربما التي يطرحها القارئ أثناء تأمله هذه النماذج الإنسانية الهشة التي أصبحت لا ترى أي احتمالات أخرى لتغيير حياتها، فاكتفت بالتساؤلات وبالتسليم والاستسلام. هنا، في هذه المقاطع الحياتية، التي تبدو هادئة وبسيطة من الخارج، ولكنها من داخلها تفور بالغضب والضعف وقلة الحيلة، لا شعارات كبرى ولا أسئلة فلسفية معقدة، بل حيرة وارتباك وانغلاق للأفق. ومن ثم استسلام وتسليم بالأمر الواقع.  

لا بدايات ولا نهايات للقصص. فهي مقاطع ولمحات من واقع صعب، يبدو أن هناك تصالحًا بدرجة أو بأخرى معه. أحداث القصص هي حلقة من أحداث سابقة لم ترد في السرد، ومن أحداث تالية، على القارئ نفسه أن يفكر فيها ويتأملها، بقدر تفاعله مع الحدث العابر الذي يمثل جوهر القصة أو المقطع الحياتي المعروض أمامه. ولكن من المنطقي أن تكون هناك أسباب ودوافع، سواء لما يحدث لهؤلاء البشر، أو لما يطرحونه من أسئلة تبدو عابرة وساذجة. لكنهم يطرحون الأسئلة بصيغ ناعمة وبسيطة للغاية، وبطريقة لا تشي إطلاقا بأي غضب أو تمرد، أو حتى استعداد للرفض.

ففي قصة “تاج”، كل ما استطاعت أن تفعله البطلة، أن تعود إلى نفسها، أن تدرك ذاتها. ولكنها تفعل ذلك وهي في مكانها: تتذكر وتحلق وتستعيد ذكريات الحنين والألم والسعادة، وهي في نفس مكانها. بينما في قصة “فرار”، لم يكن أمام البطلة إلا أن تصمت في ذهول وخوف، وربما غضب داخلي، ليتحول كل ذلك، في نهاية المطاف، إلى هروب سريع تحت وطأة دمعة ربما حملت كل أدران العالم لتطهر روحها في لحظة فارقة. أما في قصة “ثوب قماش جديد”، فالبطلة، رغم محاولاتها الحفاظ على آخر قلاع الذاكرة، تشعر بالعجز التام أمام آلة القبح التي تهدم وتفرم كل ما يعترضها. وتنتهي القصة بأن يتبادل الموتى والأحياء أماكنهما. فبدلا من إظهار مشاعر الحزن على الأموات من جانب الأحياء، نجد الجد الميت الذي شبع موتا، يظهر في المقعد الخلفي للسيارة لينظر إلى حفيدته “العاجزة” في حنو وشجن. لقد وصلت الأمور إلى أن يقدم الموتى عزاءهم للأحياء. هنا يطرح السؤال نفسه: أي حياة هذه التي يحياها هؤلاء الأحياء، إذا كان الموتى أنفسهم قرروا تقدم العزاء لهم؟!

في قصتي “أم كلثوم تنبعث من مكان ما” و”الاتفاق”، تظهر في الأولى تلك المعضلة الفلسفية الدائمة: هل يتغير الناس، هل يتغير الحب؟ وما هو الحب أصلا؟ هذه القصة رغم ما تبدو عليه من رومانسية، إلا أنها تحمل روح الفكاهة. وربما يكون هذا هو وجه المأساة فيها. لقد ولى الزمن، وتركت الحياة ندوبها على الأرواح والقلوب، رغم الإحساس ببقايا “حب ما”. لكن لحظة لقاء واحدة تتسع لكل شيء، لم يستطع أي من البطلين التحرك إلى الأمام، أو اتخاذ قرار بالفعل. وحتى عندما اتخذا القرار، لم يتمكنا من التحرك ولو لخطوة واحدة! بينما تضعنا القصة الثانية “الاتفاق” أمام قضية اجتماعية بامتياز: أمام الاختيارات الشحيحة، وغياب الوعي من أحد الأطراف، والمشاركة من الطرف الآخر. هنا لا ضحية ولا مذنب. هنا حالة من الافتراق في كل شيء. وفي نهاية المطاف، ينتهي الأمر في قصة “أم كلثوم تنبعث من مكان ما” بالعجز ومواصلة الضياع، وفي قصة “الاتفاق”، بموت البطلة، ليواصل البطل سيمفونية الحيرة والارتباك، والضياع أيضا.

في قصة “شقة اليهود”، ورغم ما فيها من رمزية يمكن تأويلها في أي اتجاه وكيفما اتفق، إلا أن السرد على لسان “طفلة”، ثم استمراره على لسانها عندما أصبحت أكبر عمرًا ووعيا وخبرة، يدخلنا إلى منطقة إنسانية “رمادية” مليئة بالازدواجية وانحراف المشاعر والأحاسيس، وتناقضات العقل. إن عبارة “كانت أمي تحبها وتكرمها”، على لسان طفلة، وبوعي طفلة، يكشف عن مدى عمق التناقضات والانحطاط على الرغم من بساطة العبارة. إنها ببساطة نفس الجملة التي تقال عن الأقليات، سواء الدينية أو العرقية عندما نقول “إنه إنسان جيد، رغم أنه كذا”، أو “هذه سيدة طيبة، رغم إنها كذا”. نفس العبارات الممجوجة التي تحمل قدرا من الحماقة والغباء من قبيل أن “الله أوصانا بحب هؤلاء وإكرامهم”، بينما هم مواطنون عاديون، وربما سكان أصليون يعيشون أبًا عند جد في نفس المجتمع.

هذه القصة تكشف عن وعي مبني على العنعنات والانحراف العقلي والوجداني، والعشوائية التي تؤدي إلى نتائج كارثية. إن عمق السرد رغم بساطته ونعومته، يفتح علينا “دُشَّا” باردا من الماء ليوقظنا، ويسلط الضوء على تلك البقعة السحيقة المظلمة التي نقف فيها مشوشي الإدراك والوعي. هنا لا يمكن الحديث عن التسامح وقبول الآخر، بقدر ما يمكننا الحديث عن حالة التردي، حتى وإن كان هناك شخص أو اثنان أو حتى عشرة يتصفون بالتسامح وقبول الآخر.

وفي قصة “ليلة” العمر”، نهبط من سماء النظريات والتنظير حول التسامح وقبول الآخر، لنسقط على أرض الواقع الصلبة، لنواجه حقيقتنا المرعبة في مجتمع يريد أن يواري جراحه وجرائمه ولو حتى لعدة ساعات، وليحدث ما يحدث بعد ذلك. فهل يستطيع أي صالون تجميل في العالم أن يواري حقيقتنا، بمن فينا “العروس” الحمقاء التي ترى أن ما حدث معها هو أحد أوجه الحب ودلائله؟! إنها عشوائية المشاعر، واختلاط المفاهيم التي تعمي العقل والقلب معا. “ليلة العمر” قصة كابوسية بامتياز رغم قصرها وبساطتها وموضوعها المتدَاوَل كثيرا وبصور مختلفة، تكشف لنا عن أحد أوجه جوهرنا الوضيع. وفي هذا المقام لا تختلف العروس عن العريس الذي يحبها بجنون، ولا عن أمها أو بقية أهل العريس.

في القصة الثامنة، حلم في حقيبة”، التي تتوسط الخمس عشرة قصة، وربما تم وضعها في منتصف القصص من حيث العدد، لتصبح مركز المجموعة، نعود إلى البداية، حيث القصة الثانية “أم كلثوم تنبعث من مكان ما”. نعود لنستكمل الحكاية. أو بالأحرى، نعود كما لو أننا نستكمل الحكاية التي لم تكتمل. لنكتشف أنه حتى لو نام البطل مع البطلة، لن يكتمل أي شيء. هنا نتأكد من عالم الفرص الضائعة، وانهيار الأحلام، وشُح الاحتمالات، احتمالات الفرح والسعادة وتحقيق الأحلام البسيطة في الحب والدفء والأمان. وربما نعثر بشكل جزئي على إجابة السؤال: هل يتغير الإنسان؟ هل يتغير الحب، وتخفت المشاعر، وتتلاشى الأحاسيس؟ كل شيء جائز في ظل الخوف والعمى واختلاط المفاهيم، وفي ظل العشوائية والضعف وقلة الحيلة.

في القصص السبع الأخيرة من مجموعة “حلم في حقيبة”، يتواصل السرد كاشفا عن “تيار الوعي” لدى الأبطال في قصص “أراهم”، و”ماذا لو واربتُ الباب”، و”ليلة هادئة”، و”بالونات ملونة”، و”نزهة نيلية” ليعمق حالة الاغتراب والوحدة والحيرة والعجز، ويفتح فضاءات لتأمل الذات وشح الاحتمالات في حياة طبيعية. غير أن السرد في قصتي “سحابة وعدت”، و”روح”، ينتقل إلى فضاء واقعي تماما ليعكس مدى تأزم الواقع والحياة معًا. ويؤكد على حضور الأسباب والدوافع، وربما الحلقات المفقودة، التي لا نجدها في أحداث القصص، بقدر ما يمكن ببساطة وخفة استنباطها من واقع خانق وضاغط.: من الحياة- حياتنا- نفسها.

 

مقالات من نفس القسم