لا جديد تحت الشمس فى.. “تاج شمس”

تاج شمس
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

شوقى عبد الحميد يحيى

         الكاتب، أو المبدع بصفة عامة- ليس إنسانا يعيش فى برج عاجى، ولكنه إنسان إجتماعى، يتفاعل مع الواقع، ويعيشه، ولا ينقله، وإنما هو يصنع عالما موازيا للواقع ، يتحدث فيه عن الجوهر، أى أنه يُصيغع بصورة جمالية، تدعو القارئ لأن يستمر معه حتى النهاية، ويصل به فى  النهاية إلى جوهر القضية، ثم يتركه (القارئ) ليتفاعل العمل بداخله، ويُحدث أثره. وهو ما نستطيع به أن ندخل إلى عالم رواية “تاج شمس”[1] التى تحولت إلى “الف ليلة وليلة” حديثة. حيث استدعى فيها الكاتب هانى القط، ذلك الشكل الذى استطاع به أن يعيش الواقع الحديث، ليس فى مصر وحدها –وإن كانت هى المصدر، والإشارة-  حيث تصلح أن تُقرأ فى كل البلاد العربية التى غاب فيها التعليم وتهمش، واصبحت الديمقراطية، كالعنقاء أو الخل الوفى. فكانت النتجية على منوال ما رسم وأبدع هانى القط. حيث أنشا مجتمعا –تصوريا- باسم “تاج شمس” متخليا عن ألف ولام التعريف، لتصبح شمس،وليست الشمس، حيث الأخيرة كل البشر على الأرض يعرفها، غير أن الأولى ستضع القارئ- فى أى مكان – أمام البحث، والدهشة، وليصبح ذلك أولى علامات التغييب للواقع، حتى لايقع الكاتب فى المحظور. وهو ذات ما اتبعه مع الشخصية المحورية فى الرواية، وإن كانت لا تفعل، غير أن وجودها ذاته، هو ما يجعل للرواية منطقا، بما حباها الكاتب من وصف، إنها “الجليلة”، تلك التى {تجلس على مقعدها العالى فى مهابة، وحيدة ناعمة بدفئ يسلمها إلى ذلك الشرود الجميل، امام دارها فوق الربوة المواجهة للنهر، تحجب أشعة الشمس كلما قاظت بكفها المخطوطة كم ظاهرها وياطنها، كأنها نقش يؤرخ للأبد}. حيث تكمن الإشارة إلى وجودها الرمزى، فيما نُقش على كمها ظاهرها وباطنها {كأنها نقش يؤرخ للزمن}. حيث توحى الإشارة إلى الخلود والبقاء عبر الزمن، فضلا عن النقوش التى ترجع بالذهن إلى عصور قديمة، محفور تاريخها على حيطان المعابد، والاثار الباقية. بما يضعنا مباشرة أمام مصر الباقية عبر الزمن. لكن الزمن يتغير، ولكل وسيلته فى تحويل الأمور لما يتوافق مع أهوائها، ودوافعها. فانشأ هانى القط، نموذجين، مستنسخين من الجليلة، تشير إلى تلك الراسخة عبر الزمن، كجوهر لا يُنال.

النسخة الأولى، هى العبدة السوداء التى اسمتها الجليلة بنفسها “أُنس” والتى أتى بها أحد أفراد اسرة “الجليلة، فرعتها الجليلة، وكانت نموذجا للبراءة والطيبة وعدم الخيانة .. ولم تُهّنْ بكلمة.. ملاصقة دائما ل”الجليلة” وتجلس تحت أقدامها، التى تعاملها بالحنان والعطف. وتحظى برضاها، وطلبت منها البقاء فى الدار. ولم تكن تعلم لغة اهل البلد، فتعلمتها. لم تتجمل يوما، تضحك وقتما تريد، وتلعب وقتما تريد، تبوح بكل ما فى صدرها، تجمع الأزهار وتغنى، لتنادى عصافير النهار. وإن وزع –هانى – هذه الصفات على صفحات الرواية، إلا أنه بجمعها نستطيع الوصول إلى ذلك الملاك الذى كانته.

هام بها –خليل- ابن “الجليلة”، واشتهى أن يتزوجها، أو يهرب بها ويتزوجها، وحفاظا على ود صاحبة الدار، فَشَكتْ إليها، وما أن جاءها خاطب “قنديل” حتى ارتضت به “أُنس” لا حبا، وإنما هروبا من مطاردة “خليل” وحفظا للبيت التى آواها. غير ان “قنديل” لم يصنها، ولم يُحبها، رغم ما قدمته له. واستخدمها فى صناعة الخمر من عصير العنب. وهى طائعة. ويراودها سُمار اللي فى خمارة “قنديل” وهى ترفض وتصد، ويَعرضْ عليها (الخفراء) بما -لهم من سلطة- المال، فترفض كل العروض، وتأبى إلا ان تحافظ على رجلها، رغم أنه لم يحافظ عليها. وبعد يأس وشقاء.. اختفت “أُنس” ليعثر ابنها :مختار” بعد ذلك على اصبع به خاتمها، فاستدل على أمه التى ماتت، لكنه –مختار- يخفى خبر عثوره عليها، لغرض فى نفسه، ربما ليصبح ذلك أحد نقط الضوء فى شخصيته. لتعكس “أُنس” ما كان – فى رؤية الكاتب- فى تلك الفترة التى توصف بأنها (العهد البائد)، من سكر عربدة وتيه.

وأما النموذج الآخر ل”الجليلة” فهى “فرحة” ابنة الجليلة، والتى أحبت “مختار منذ الصغر، انتظرته طويلا، خاصة عندما هرب من ابيه للبحث عن أمه، ولما عاد، كان البِشر والفرح. لكنه لم يعد كما كان، فقد تعرض للأذى والسجن والمرار، الأمر الذى زرع فى داخله الحقد والضغينة، والرغبة فى الانتقام. لكن الزواج تم، غير أن فرحةُ “مختار” لم تكن كفرحة “فرحة” بالزواج، فقد أصبح الخوف من الانكسار أمام سطوة الحب، فهو لا يريد أن يعود للإ نكسار مرة أخرى، حتى لو كان للحب –وليصبح ذلك أيضا أحد مفاتيح التعرف علي شخصيته- وهو ما شعرت به “فرحة” التى انكسرت فرحتها. فتسألها أمها ا”الجليلة:{ اسعيدة يا ابنتى”؟ ولا تعرف “فرحة” بماذا تجيب على أمها! تضحك صحكة ناقصة وتقول كلاما طيبا من وراء قلبها دون أن تعلم: أهى سعيدة أم لا؟! تبرر ل”مختار” إنشغالاته، وتنتظر أن تنتهى}. وأصبح{ القمر قرص جمر فى عيون “مختار”، يلسع عينه وينبش ذاكرته! ما بينه وبين القمر من جفوة، يشبه ما بينه وبين “فرحة”، ضفتان بلا جسر.هو فى ضفته حائر متوجس، وهى على ضفتها تفتش، فلا تجد غير الجفاء والإهمال، ومع كل صبح تتسع الهوة بين الضفتين حتى افترقتا وجف الماء}.

وعندما تزداد الجفوة والإهمال، وتستعر النار فى البيوت، تغادر “فرحة” إلا أن الخفر يعيدونها بالقوة إلى بيت “مختار” ليحبسها، ويمنع عنها كل شئ.

 فمصر الأولى والتى يمكن أن ننظر إليها على أنها مصر الماضى، أو ما قبل 1952 .. تم خطفها ثم قتلها..   

ومصر الثانية، مصر المستقبل، والتى يمكن أن نراها بعد العام 1952.  تم حبسها، ليعلو مختار ويزداد توحشا.

وعلى الرغم من أن الكاتب لم يذكر من بعيد أو قريب إلى تلك التواريخ، إلا أن سياق الرواية، واستعراض العمد الذين تحكموا فى البلد، لم يكن مختار أولهم، فقد بدأت الرواية ب العمدة راضى… الذى جاء إلى البد –حافيا-عبداً يُباع – ولا يخفى ما فى ذلك الوصف من إشارة إلى التواريخ التى أشرنا إليها-، والذى فشلت الخادمة “مرزوقه” فى الإيقاع به، كما أوقعته “أم الولد” فتتجه إلى “الأبيض” لتقنعه باستلام العمودية بعد وفاة العمدة، وتصبح هى سيدة الدوار. ويموت “راضى”، ويستغل “الأبيض”، أحد خفرائه (حراسه) قوته الجسمانية  – و .. الذى جاء –أيضا-من خارج الديار، بمعرفة “بحر” –أحد قطاع الطرق، واليد الباطشة للأبيض-. ليلتقى فى طريقه “حور”- الأخت الصغرى ل”كوكب” التى يغريها بالمال، ليصل إلى كرسى العمودية. ثم يتآمر ابن عمه “أبو جميل” فيقتله، مدعيا بأن احد أبناء البلدة هو من قتله، ولا يُفرَجْ عنهم، بعد التعذيب إلا جليلة التى أنذرته، وكأنها تعلم السر. وتنشب الحرائق، ويسمع العمدة “أو جميل” عن “مختار” فيستدعيه ليتخذ منه يدا باطشة فى البلد وعند زيارة “مختار” للعمدة {و”مختار”، يعرف أن جميع من حكموا البلد طوال عمرها وأطبقوا على الدوار ليسوا من أهله، إيمانهم واحد بأنهم اِصطُفُوا بامتلاك الأرض وما عليها. العجب أن من نقش ورسم هم أولاد البلد!}. فى إشارة لرسومات الفراعنة، المنقوشة على الجدران. ويتأمل (أن أبناء البلد هم من زينو العمودية للعمدة}.

ويستمر نشوب الحرائق فى البيوت، ليحترق فيها “أبوجميل” ولتنتهى سلسلة من حكموا البلد من الخارج، ليأتى (ابن البلد) “مختار” ليكون هو الحاكم الجديد لها. وهنا يُسهب الكاتب فى تعميق شخصية “مختار” فيعود إلى حيث طفولته. حيث يقع(ابن أُنس) فى البئر.. ويصعب عليه الصعود، ليجد “خليل” –خاله- يمد له حبلا ويسأله الإمساك به .. غير أن الحزن تملك منه ليسأل نفسه {لما تركه أبوه، واين ذهبت أمه؟ ولم يُحبه خليل؟ ولماذا لم ينقذه أبوه؟ ويتذكر أنه تلفت حوله بعد أن أنقذه “خليل” فرأى أباه يخرج من من المقام، يتابعه بعينيه دون ان يناديه ليسأله عن سلامته. يبكى “مختار” وقد أمسى  وحيدا، ليس بين ضلوعه شئ غير حُزنٍ مقيم}. ولينشأ العداء، والكراهية لأبيه، وللماضى كله{بدا الماضى فى صدر “مختار” ورجاله، مٌشينا وحجر عثرة، فى غمرة تنعمهم، أقسم “مختار” بينه وبين نفسه أن يُنكره ويقلب صفحته أما بقية رجاله فحاولوا أن يُغيروه ويُزيفوه!}.

ويلاحظ أن “مختار” كان شقيا وذكيا مملوءً بالحيوية، وبعد واقعة البئر، صار منطوياً ولا يرغب فى اللعب مع الأطفال، وأصر على مرافقة والده “خليل” للبحث عن أمه “أُنس” السوداء، حيث انزرع فى أعماقه الحاجة إلى الحنان المُفتقد.

يبحث مختار وأبيه عن “أنس” حتى يهدهما التعب ، فيقرر “الأب العودة إلى البلدة، لكن “مختار” يهرب ليواصل البحث عن أمه، وكأنه يبحث عن جذوره وأصله ، ولِما هو موجود فى بيت “الجليلة، بلا أب أو أم؟!. إلا أن صعوبات جمعة واجهته فى تلك الغربة، لكنه فى النهاية يعود إلى بيت “الجليلة، وأصبح بعد تلك الغربة{“مختار” ابن الليل والأرق، ابن التشرد والجوع، ابن السجن والعذاب والقهر، ابن الذل والمهانة}. لتأتى أولى البشائر، له، عندما يأتى الطوفان ويجلب “خليل” فى جريانه المدمر،  فيضرب الدم فى عروق “مختار”، وقد شعر بالناس تصوب نظراتها إليه، طلبا للإنقاذ، وكما فعلها هاربا عندما كان صغيرا، يرمى بنفسه فى قلب الماء المصطخب دون وعى!}، لتأتى أولى الدلائل التى تكشف عن شخصيته، حيث يبوح لنفسه قبل أن يلقى بها فى الماء :{ آملا فى بطولة ليس أكثر}. وتأتـى الإشارة الثانية – والكاشفة أيضا- عندما يخرج بخليل من الماء، يتساءل فى نفسه-أيضا-: {كيف يرانى الناس الآن؟}. على أن ذلك، على الرغم من عدم التصريح بدواخله، كان مبررا للناس أن تجعل منه”العمدة” الجديد. وبعدها يصفه “مبرك” –المهزوز الشخصية، وأُضحكوة البلد- {جسد أسد، وعيون صقر!ويبتسم “مختار” منتشيا بالمديح}. ثم يتأمل الناس، تاريخ “مختار” ابن “أُنس” السوداء”. و {يفغر الجميع أفواههم ويمسكون ابتساماتهم المندهشة حذرا من غضبته}.

وبينما الحرائق منتشرة فى البيوت يظهر “عبد الجليل” (الشيخ عبد الجليل) صديق مختار فى التوهة الأولى، ورفيق الحجرة معه فيها. وبعد الحريق ساعد “مختار” فى إعادة بناء الدوار، وبيوت الخفراء وبيوت القرية. ثم راح يدعو ل”مختار” كعمدة، وراح {يجمع الناس.الأجراء والصناع والفلاحين، حتى الصغار والعجائز دعاهم، ليهتف فيهم: للبلد دين فى الرقاب. يا ناس، فهيا نرده}. وبعد البناء{يمر صبيان “المبيضين” على واجهات البيوت المرممة. يطلونها بطبقة من الجير الأبيض، ويدهنون أبواب الدور بالأحمر والأزرق والأخضر. وبعدهم يُقبل الرسامون، يقيسون الواجهة ويرسمون سفنا تعب ، وأبطالا من الذاكرة للشجعان، وفوقهم “مختار” يُرسم عملاقا}. ويكشف هذا، تعاون وطبيعة الجماعات التى تتخذ من الإسلام وسيلة للتقرب، والاستيلاء على الكرسى.

 فإذا كان كل من سبقوه -“مختار”-، قد أتوا بالمراكب (من الخارج) وأذاقوا البلدة مُر القسوة والاستيلاء والخديعة، فهل تغير (ابن البلد) عنهم؟!.

وبعقد مواجة بين “مختار” وسابقوه، سنجد أن من سبقوه قد فعلو الكثير. فحين إنعقد (مجلس العمدة) حيث يُمَّكن العمدة “أبو جميل”، الغريب “بحر” من نصف دار “سكينة” بحجة أنه اشتراها، ويَقسِم البيت إلى نصفين بين “بحر” و”سكينة”، ويعجز “خليل” – الحاضر عن “سكينة”- عن الدفاع أو النطق بأن بيعا لم يحدث، وأن العقود مزورة، و”ينتقل العمدة إلى أمر آخر، دون أن يأبه لغضبه}. وكأننا أمام المجالس النيابية المصرية.

ويتحدث “خليل” إلى نفسه، بعد جلسة العمدة، التى أقنع –ظلما- “خليل” بتقسيم الدار {ما جدوى الكلام؟ هل تصدق –”سكينة”- أن الأمر قُرِر، والحُكمَ رُتبَ بليل بعيد لصالح الرجل الذى شم فيه طوال الجلسة رائحة ذّباح، وأنفاس خّوان؟ وانفلتت الآهة من فمه يائسة ممرورة كيف تتحملين يا “سكينة” كل تلك الألام؟}.

 وفى جلسة مزاج بين “أبو جميل” قبل أن يَقتل ابن عمه “الأبيض”:  يروى عن لقاء، تم بين العمدة “الأبيض” وابن عمه “أبو جميل”، فيقول أنه كان فى جلسة مع ابن عمه، فسأله:

{ من أنا؟ فقلت – ابن عمى وحبيبى. فالتفتَ إلىّ الأبيض” وصوته ممتلئ بنشوة السطل:

بل عمدة تلك البلد البعيد يا حمار فرددت ضاحكا:

لا تشتم ابن عم العمدة يا جحش}. وهو ما يوضح كيف أن “تاج شمس” كانت مطمعا، لا حبا فيها بالطبع، ولكن لأسباب أخرى. كما تكشف (البلد البعيد) عن إحدى نقاط الضوء التى يبثها الكاتب بين الحين والآخر، والتى تحدد أن هؤلاء كانوا من الخارج.

كما يقول “أبو جميل” بعد مؤامرة قتل ابن عمه “الأبيض” ، وما يشير –دون أن يصرح، لما حدث بعد ذلك {خضنا فى “تاج شمس” بلا دم ولا عراك، يهزنا الضحك والهزل} ولتتكشف نقطة أخرى مضيئة عن المقصود بال”مختار”.

كما تتبدى فلسفة “الأبيض” وابن عمه “جميل” ومن قبله “راضى” فى قوله المباشر { الأرض لى، المال لى والدور لى، وما أمنحه لأحد ليس سوى منحة، عليه أن يقبلها بفرح ويسكت، فالعدل أن من يملك، يملك أن يمنع مثلما له أن يمنح}.

وعلى الجانب الآخر، بعد أن عاد “مختار” إلى بيت “الجليلة” يتحدث إلى نفسه، التى كان يحادثها كثيرا، حيث هجر المرح: { كل شئ يباع ، لا شئ بغير ثمن،، قوة الرجال ولحم النساء، ونداوة الصبيان، والأموال هى رخصة السلطة. والنفوذ فتنة البلاد الكبيرة وفتنة الدنيا والزمان}.

وفى ترنيمة أخرى قبيل النهاية، حيث تعكس أيضا فلسفة “مختار”بعد أن طلبت “الجليلة” من “عبد الجليل”، ان يقيم أحد أبنائه فى البيت الذى خلا بذهاب “مختار” إلى بيت العمدة {عبد الجليل غبى، وسوسوا له فعصى وخان، و”جعفر” طماع، والطماع لئيم ماكر، “جعفر” الذى وهَبَتْه دارا وعملا يقعد الآن مكانك فى دار “الجليلة”! كيف تصنع “الجليلة” ذلك كله؟ ! بماذا أغراها ابن “عبيدة”؟ لكن هكذا الناس يا مختار”، وهكذا الدنيا: غفل” راضى” فصلبوه، وغفل “الأبيض فقتلوه، وغفل “أبو جميل” فحرقه اللهّ. هذا البلد دائما يخضع للغالب.، كل أهله خُدامٌ للقوى المالك، عبيد حاكم، يبجلون اسيادهم، ويهابون المتجبر}.

و{طوال بحث “مختار عن أمه كانت بداخله أمنية تدفعه ليحيا. أما وقد انكشف المخبوء عن قتلها المُشين، فكيف يعيش ولِمَ؟ ولم يجد من العزاء سوى السلطة التى سلمها الناس له بإصرار وكلهم أمل}. فكان الدافع النفسى هو ما ساق ال”مختار” للسلطة، وبها كان التجبر، بما لا يختلف عمن كانوا قبله. ويُضمر “مختار” الخدعة، فيستدعى شيخ الخفر “حسونة” ويأمره {ألْهْ الناس بالحكاية، وأيقظ خفرك بالحذر، وأطلق عيونك فى الشقوق}.

وفى فترة تولى “مختار:” يُسرق كرسى “الجليلة” العالى. فتجلس و{تجلس “الجليلة” على المصطبة دون راحة، تُحرك عصاها، تتلمس النور، وجهها إلى النهر وعقلها فى الذكريات، كم من الغرباء جاءوا وهيمنوا؟ تتخيل وجههم المتحدية عند وصولهم، وأقدار هزيمتهم فى ليلهم الأخير. ماء النهر يجرى، والسؤال كموجة لا تنتهى: لمن السؤال؟ ألها أم ل”مختار”؟}. لتتجسد الرؤية التى أضمرها الكاتب خلف الكلمات، التى تُفجر المعانى، حين يجلس القارئ وينظر حوله.   

التقنية الروائية

         رغم أن الرواية كبيرة الحجم –نسبيا- وكثيرة الشخوص، للدرجة التى تتطلب أن يرجع القارئ للبحث عنها. إلا انه لايوجد فيها ما يمكن حذفه، حيث أن كل تفصيلة فى العمل، تُكون لبنة فى البناء، لإذا ما أٌقتطعت، تركت فراغا وقد أدى هذا إلى خلق نوع من التشويق الذى يمارسه الكاتب، ليمسك بالقارئ، فلا يخشى ذلك الحجم الكبير، فى وقت قد عز فيه من يملك الصبر. ولتتضح الرؤية الكلية، فيما إذا انتقلنا من “الجليلة” كأول وجه نواجهه، فى البداية إلى الوجه الثانى، الذى نواجهه فى بداية الرواية “نجاة” التى – كما كل الشخوص داخل الرواية- تحمل الكثير من الصفات التى يحملها الإسم “نجاة” والتى تبحث عن ابنها “مختار” -الذى سُمى مختار على اسمه- والذى ضاع من أمام البيت، والسنوات تمر{ وقلب ابنها  مفطور على رضيعها المخطوف… تفتش وتصرخ باسمه، وتنادى أمها “الجليلة”: خطفوا مختار. لترد الأم: سيضم صدرك “مختار با “نجاة” اصبرى. وتسأل امها: متى الوعد يا أمى؟! لترد ” الجليلة”: كل شئ بأوان، وهو ما يؤكد بحث بيت الجليلة عن مختار، مع الربط بين المختارين. وتمر الأيام وتفقد “نجاة” ابنتها الناعمة الضحوكة “صفية”، وكأنها موعودة بموت الأبناء. فتصاب “نجاة” بما يشبه الجنون، لتسأل “أُنس” ” الجليلىة” عن دواء يعيد ل”نجاة” لإدراك الواقع، فتيجيبها “لا تخلعى الخاتم من إصبعك- حيث سيصبح هو دليل العثور عليها بعد موتها-. وفى النهاية، تموت نجاة، وكأننا امام موت النجاة، أو الأمل فيها. فإذا كانت هذه ال”نجاة” إحدى ابنتى “الجليلة”، فما كانت أختها “شرقاوية” والتى –أيضا- إحدى ساكنات بيت “الجليلة” بأفضل منها، فهى {لم تنس “شرقاوية أنها دفنت فى الماضى، خمسة أجنة فى شقوق الجدران، فحفر فراقهم أنهار حزن بقلبها الضعيف، فانزوت تبكى}. وكأن بيت الجليلة قد أجدب من الرجال، فكان البحث عن الإبن، أو المخلص.    

 ولتصبح الرواية منذ البداية فى انتظار ذلك الآوان، أو “النجاة”.. فى انتظار الإبن، أو انتظار (المختار)، وكأن حبل الولادة قد انقطع، فيأتى “الميت”  ذلك الذى أخفت أمه إسمه الحقيقى، بعد أن مات كل من يحمل ذلك الإسم، فعاش فى الناس بذلك الإسم، ومهمته، دفن الموتى{“شرقاوية تعرف أن الميت ليس كبقية الناس، تدعو الله  ليل نهار أن يقبل الزواج من بنت خاله”سيسبان”، الوحيدة من بين النساء التى ارتضته زوجا}. و”سيسبان” عود حديد، ليس بها من محاسن النساء شئ، وجهها مقدد وصدرها ممسوح، وصوتها ملسوع، يتندر عليها بأنها رجل، وكأن هاتفا داخليا دعاه، باسم القرية، ليستيقظ اسمه الآخر{يتمتم “الميت” بكلام غير مفهوم، وعيناه الجاحظتان شاردتان. تهبه ملامحه الخشنة سرا, أسى! قلب الميت ممتلئ بالكثير مما لا يقال. لكن فمه موصد على سؤاله بلا جواب.. على هامش الحياة يعيش، يستره الناس ويلعنونه فى سرهم، لكنهم يُدركون حاجتهم إليه}. وتصبح تلك التى ليس لها من النساء نصيب، هى من ارتضىت به زوجا، وقد كان زاهدا فى النساء كلهن، وبعد الزواح، تطير سمعة رجولته، وفحولته بين نساء البلد، فتطلبه “كوكب”، التى ترمى بالرجال تحت قدميها، وتتخاطفه النساء، ارامل ومطلقات، كبيرة و صغيرة، وهو لا يرد سائلة، حتى يشيع صيته بينهن، غير أن “المختار” لا يأتى، فيزهد النساء من جديد، وكأنه قد أدى ما عليه تجاه البلد. وقد يؤكد تلك الرؤية، أن رجال البلدة، كلهم نقريبا، قد هجروا الحياة، وانعزلوا عنها، أما النساء، فهن الفاعلات، وهن المفعول بهن فى النهاية، أمام جبروت السلطة.

وكما أمعن الكاتب فى وصف الأبعاد التاريخية لل”مختار”، فإنه لم يبتعد أيضا عن الأبعاد الاجتماعية الأسرية فى توضيح عائلة “كوكب”، حيث لم تكن هى الوحيدة التى امتهنت الدعارة، أو اتخذتها وسيلة، فكانت أختها “حور” وأمها “بسيمة”، وكان أبوها “متولى” يعرف ما تقوم به زوجته وبناته، إذ ربما يعود عليهم بالفوائد. كما أن “كوكب” قضت وقتا طويلا مع “الميت” وبعلم زوجها “رضوان” احد الخفراء حراس كرسى العمودية، والذى كان حريصا فقط على ألا يعلم أحد بعلمه. وكأنها إشارة جديدة تشير إلى ما كان يحدث من حراس ال”مختار”.            

كما اتبع الكاتب كما يوحى بضيغة ألف اللية وليلة فى عملية ترابط الأحداث ، والمرتبطة بالضرورة  بتداخل الأزمنة، فلا تسير الرواية وفق التسلسل المنطقى، المتصاعد، وإنما تتداخل الأحدات وتتنقل بما يلازمها من توقيتات، تتأرجح بين الماضى والحاضر، جميعها ، مع حشد الأسماء، وتتداخلها بالأحداث، ليدخل القارئ فى دوامة، وكأنه يركب مرجيحة دوارة تسير بسرعة فائقة، فلايملك إلا الأمل فى الخروج من الدوامة، التى لايشعر بها إلاعندما يصل إلى نحو نصف الرواية، ليبدأ السرد فى التمهل، والإيضاح، حيث تبدأ الأزمنة تتضح، والشخوص يتحدد دورها.

كما أن عملية التقطيع، حتى داخل الفصل الواحد، تدفع بالحركة إلى التسارع، وكأننا أما فيلم، يعتمد على سرعة التنقل بين الأماكن والأحداث. 

كما أن الحديث عن الأعمال، والسحر، يشير إلى الأجواء المصرية التى تعتمد على الغيبيات، لتشير، دون أن تفصح.

 وأما عن الشخصيات، ودورها فى الكشف عن المكنون الضمنى للعمل، إذا ما ربطنا بين سير الأحداث، سنجد أن “الجليلة” تعيش على كرسيها العالى، وتتقلب الأمور من حولها، وهى راسخة، فضلا عن أنها العمود الفقرى، للعائلة، ولما يدور فى البلد، سنجد أنها شخصية رمزية، تشير وبوضوح إلى مصر.. مصر الحديثة تحديدا. ويشير إلى ذلك اسمها ووضعها، حيث اصبحت كل الأسماء بالرواية تشير إلى رمزيتها، فلم يكن الاسم عشوائيا، لكل الشخصيات، وإنما أختير بعناية للدلالة، ويكفى أن نشير إلى “مختار” ابن “أنس” السمراء، التى استغلها زوجها، لصناعة الخمر، أو صناعة (المُسكر) الذى يُنسى الآخرين، والزوج “قنديل” (والد مختار)– الذى عاد من الموت- وكأنه يستمر فى الحياة، بكل سوءاته،- من ضمن، كل الأمور، أو يجعله فى صورة العائش فى التيه. مع ملاحظة لماذا جاء “مختار” من ابن السوداء “أُونس”؟ وكأنها الإشارة إلى شخص محدد فى الواقع المصرىن أتى من بيئة محددة، ليؤكد أن الرواية، تُنشئ عالما موازيا للواقع، دون أن تُصرح بذلك الواقع، وإنما تركته لفطنة القارئ.

مع ملاحظة أن “الجليلة” لم تكن توافق على زواج “قنديل” من “أونس”، إلا انها أضطرت للموافقة، تحت إلحاح “أنس” ذاتها على تلك الزيجة، وهو أيضا ما يشير إلى كيفية الوصل للسلطة، على الرغم من أنه لم يكن للصالح، حيث تفاجأ “أُنس” بمحاولات السكارى، لاجتذابها، مرة بالمغازلة، ومرة بالمال، ولكنها أبت وآثرت الهروب من تلك الأجواء. ولتؤكد بقاء الرمز على نظافته وطُهره ليجلس زوجها” قنديل” ليجتر المرارة، حين لم تعد “أُنس” إلى الدار، والدار بلا زاد ولا ماء، يصرخ على ابنه “مختار” بحرفين تبقيا له : آ، آآ ولا مجيب}. فكانت التفصيلات الصغيرة، مُختارة بعناية، ولرؤية محددة.

وكذلك تأتى بقية الأسماء، “سكينة” و”نجاة”، و”مبروك” الذى يستدعى تلك الرؤية الشعبية لذلك الشخص (الأهطل) والذى خرج من طبيعته المستسلمة، إلى التوحش، عندما رأى أن تلك هى الوسيلة التى بها يستطيع أن يدافع عن نفسه سخريات الآخرين. وحتى “بحر” بما يوحيه من إتساع ومخبوء تحت السطح، وكذلك “مختار” الذى يتضح إذا ما أضفنا إليه فقط الألف والام.

إعتزال الحياة والكوارث الطبيعية

         إذا كان الكاتب قد صور الحياة الفوقية (طبقة الحكام) بوجهيها،الماضى والحاضر، والذى أثبت بالفعل (إبداعيا) أنها وجه واحد، فإن السرد لم يغفل الحياة التحتية (طبقة الشعب) التى عبر عنها، أولا عبر ما اختاره من أشعار وأمثلة ونوادر مثل:

استخدامه لصيغة ألف ليلة وليلة، إذ لم يقتصر فقط على تقطيع الحدث، أو الشخصية، وإنما جاء أيضا فى استخدام الأشعار مثل تلك الأبيات التى تسمعها “نجاة”:

ماهب نسيمٌ من جنوبٍ  وصَبَا

إليكم حن قلبى وصَبا

لله زمان بين لهو وصِبا

ولى فقيد أورث القلب وصَبَا

 والأمثال الشعبية، كتلك التى ردت بها “نجاة” عليه بينها وبين نفسها:

أقوم من النوم عينى تبكى

على حبيب كان منى وراح منى

أكلمه بالأسى ما كان يرد عليه

يضحك ويفرح لكن ساعة يختلى يبكى

ومن ترنيمات سبوع المولود، بعد رش سبع حبات فى النار، والواادة تمر فوق النار: {يا ملح الملوح، يا بركة عيسى ونوح، والنبى طه الممدوح، يزيل عنا الشر، ويروح. يا ملح دارنا: كبر صغارنا}. مع ملاحظة أن كل تلك الاستشهادات، جاءت من أرض الواقع. فإذا كان الكاتب قد فعَّل الخيال كثيرا، وتنقل بين الأسطورة، والخرافة، إلا أن الواقع يكمن فى الخلفية، ليستدعيه القارئ، بعد أن يتمتع بالسرد السريع، واللغة الشاعرة التى طغت فى كثير من المقاطع، مثل :

( الصبح يتنفس ويخلع الظلام عن الأرض التى أجهدها الفيضان}. و{تظل تهمس بكلام حتى يتمدد النور ويأتى الأطفال والعجائز}. و{السماء تنطمس من صفحتها النجوم}. و{فى الساحة يفتح النوم آباره، ليرتمى فيه كل السكارى}. حيث تكمن الظلال والألوان فى حضن الكلمات.

وكذلك نلحظ كثرة الكوارث الطبيعية التى يقف أمامها(الإنسان المصرى) مكتوف الأيدى، لا يجد من وسيلة سوى الدعاء، وما استقر عليه من عادات وتقاليد، مثل خسوف القمر الذى خرجت البلدة كلها، ورقصت “أُنس” تدعو والدها أن يفك أسر القمر المحبوس، مرورا بالسيول والأمطار، وانتهاء بالنيران والحرائق، التى تستدعى أولا واقعة حريق القاهرة فى يناير من العام 1952. وهو ما يساهم فى تحديد زمن “مختار” حيث سبق توليه واقعة الحريق. وثانيا للقناعة بما تفعله النار من عملية تطهير للنفس، وما تؤديه من هجر للحياة، ومتعها، حيث تستحضر الآخرة. فنرى “قنديل” الذى اركب كثيرا من الخطايا، يخرج من النار شخصا آخر، ف{بسرٍ لا يعيه، خرج “قنديل” من النار بجسد برحته رعشته، قلبه أبيض، كمولود طاهر، لا بكاؤه تعاسة، ولاضحكه فرح، إنه سعيد بصمته، وقد أمسى الكلام عنده بلا طائل، يصعد الجبل فيرى البلد نقطة خضراء تحت قدميه، تترجاه أن يعود، لكنه لن يشترى من الحياة شيئا بعد الآن .. تهيأ قنديل للموت، طالِباً الغفران.. قام معافى، يخوض بقلب النار نحو النور}. وهذه (الاتكالية) هى ما أدى إلى البحث، داخليا وخارجيا، عن المخلص، أو المنقذ مما يعانيه هذا الشعب من جور، وظلم، ومعاناة، فكان البحث عن ال”مختار”،رغم أن الأمل قد تحول إلى كابوس، ولتجلس الجلية بعد سرقة كرسيها العالى تتأمل وتنتظر{للكرسى حنين وذكريات: من خشب الأبنوس فُصل، وبالأحجار الكريمة رُصع صدره ومسنده، ومن القطن الهائش مقعده إحتشى، يقف شامخا فى مكانه. شاهدا على كل من أتى ومن ذهب، يؤرخ لذاكرة البلد، ورفيق انتظارها الطويل}.

فإذا كان الكرسى هو ما اصطُلعَ بين الناس بأنه السلطة، وزاد عليه هانى القط (العالى) فى روايته “تاج شمس”. وإذا كان الكرسى قد سُرق فى زمن ال”مختار”. فإنه لم يتم القبض على سارقه حتى الآن، رغم أن أحدهم قد عثر على بقاياه وتم حزمها بالحبال، غير أنه لم يعد كما كان، ولم يعد لمكانه.

……………………………….

[1] – هانى القط _ تاج شمس – مؤسسة بيت الحكمة – طذ  2023.

مقالات من نفس القسم