حسين عبد الرحيم
القصيدة، عنقود من الصور، هكذا دشن غاستون باشلار عالم الصورة فيما يخص تأملات الفنان، حتى فيما يخص علاقته الجارحة بحياته وماهية الطريق، شقاء كان أم رفاهية، أم غوصاً في شبه سير ذاتية تخص الكاتب في ترحالاته مابين الليل والنهار، لاقطا يقتطف ثمة ثمار متعددة المذاق مابين المر والحلو، والناضج الشهي والمعطوب.
والشاعر عمار على حسن في إصداره الأخير والمعنون ب “شعر”، وهو تصدير لماح ومفعم بالشكوك فيما يخص بنية الشاعر في ومع مولوده الأول “لا أرى جسدي” والذي لم يبتعد كثيرا عن علاقة الكاتب الروائي/ والقاص والباحث السياسي والمتصوف الكبير في مقالاته وظهوره الإعلامي.
ففي متن قصيدته الأولى، والتي اختارها عنوانا للديوان، يقول الشاعر عمار على حسن:
روحي في قاع المجرة /
أخلع لذتي /
أغوص فوق الأزرق الموشي بالتسابيح.
من الوهلة الاولى يحفر الشاعر المدرب على الغوص في كل ما هو ذاتي ومعيشي/ واقعي، في ثنايا خلجاته متنقلا مابين المجاز والديمومي الخارج من ثنايا واقع البطل المغوار الذي يعلن عن تركه لعالم محسوس إلى الحفر في عوالم موازية تأخذ مناح عدة، مابين الحسي والملموس والمعيشي إلى طرق أبواب الروح لعلها تبلور ماهيات شكوى الشاعر فيما يخص الذات الطارحة لفظائع وجودية نتلمسها في غالبية أعمال الكاتب/ الشاعر والذي يلملم كافة حواسه وهواجسه، بل وآماله وطموحاته بما يشبه إرهاصات تسائل قوى سماوية لا تنفك تتشكل في ثنايا تلك اللغة والمفردات الموزعة على قصائد الديوان الإثنتي عشرة والمطروحة في ديوان أول قوامه مائة صفحة صادر عن “دار الأدهم”.
وتأكيداً لمتون باشلار يجنح الشاعر في عوالمه الرومانتيكية الخارجة من تجارب العيش والسفر والترحال والجلوس في الشرفات والإطلال من النوافذ، بل والتقاط الصور من فوق أبنية البيوت في حركات فنية تؤكد فرادة التفسير عند باشلار، القائل بل والجازم بأن الفن، هو إثراء لخصوبة الحياة، ونوع من المناقشة والمنافسة بين أنواع من الدهشة التي تنبه وعينا وتمنعه من الخدر في عمق الطبيعة ينبعث نبات دامس.
ومع ليل المادة، تزدهر ورود سوداء،، هكذا كانت تلك الأرجحة ورجرجات القصيدة من قبل مبدع تمرس على تطويع مادته الخام، لتفرز كائنات، تتنفس وتعيش وتتشكل، وتشكل نصوصاً ومسارات وفضاءات أدبية إبداعية جمالية متعددة تحيا بالحواس ولا تتلامس، ولكنها سوداء بليلها التي تترى أشباحه وظلال شخوصه الغير متحققين ومن أعياهم الشوق والتوق واللهفة إلى الخلاص
يسبح الشاعر بهالات ضوئية تخص الظل واللون وتعدد اللقطات مابين اللقطة الصغيرة والمتوسطة والكبيرة والزووم التي تصرح وتلمح في آن، وحسبما يطاردها وعي اللاقط أو المشتبك مع عالم الشاعر في القصد أو المقصود من قصيدته الشعرية التي تتأرجح في طزاجة لغته، ما بين الجملة الحادة والمعاني السائلة التي تتماس مع رجرجة الزمن الآني في انفلاته وطلاسمه، وهذا ما تؤكده رؤى القصائد بخبرة الشاعر المجرب لكافة صنوف الكتابة لنجده في قصيدة ريشة، والذي يشبه فيها الحلم/ الحبيبة،بالخفيفة كحلم صيف، “تقف على عتبات المساء” تناوش العقل الباطن فتباغته بالسؤال عن مصير ومصائر الرفاق، كيف تكون، أو ترى أو حتى تتلاقى النفس الشفيفة التي يصدرها الشاعر في ديوانه في كنايات تنفلت من أسر الذات الشاعرة إلى فضاءت سرمدية غالبا ما تكون في الليل كحية تسعى للوصال، وكأنها رحلة تتماس مع الإسراء والمعراج ما بين المعقول واللا معقول، والمرئي باليقين والذي لا تصدقه بصيرة الرائي لهزائم الإنسان في كافة مناحي الحياة وسبل وطرق بل وطرائق العيش.
يؤكد الشاعر في متون ديوانه وبكثافة عن ديمومة الحياتي مع السماوي والأرضي في رحلة بحث داخل النفس الواحدة لتكون الفرحة في ثمة ضوء يخاتل القارئ المتورط في تماس ومشاركة إنسانية مع الشاعر وتجديفاته وفيوضاته التي لا تهدأ، فلا تستقر نفس العارف إلا بتيمات الشوف البصيرية، ويدلل عليها بقصيدته “أنادي غربتي” كي أجالسها / تتهادى حزينة كالشفق تلملم حبات النور، رحلة الذات وطوافها مع النفس أو الأنفس التي تراوغ متعددة داخل الجسد الواحد الحالم بطلوع النهار كواقع وليس كقوس قزح كضوء المسبحة المخاتل في ضوء الليل البهيم السديمي.
وهكذا دواليك وفي صهر لأنات العظم الراقد تحت اللحم الحي، يحول الشاعر عمار على حسن همه الذاتي والمعيشي والإنساني الواقعي، إلى تكئة يخطو بجسارة من خلال ضوئها الشحيح إلى إجابات فلسفية وفنية خالصة هي الأخرى تؤكد تفوقه في تحويل السيرة الذاتية إلى مايشبه شجرة الخلق الأولى القابلة للفرز والنضح والنهل منها وتصدير هذا المنتج بأكثر من طريقة وصور بلاغية ولقطات فوتوغرافية ومرشحات سينمائية تجمل الواقع الملازم للقبح على الدوام والذي يراهن عمار على حسن من حين لآخر لتطويعه ليصير الهم الواحد الأوحد، يلملم عذابات البشر والإنسان تحت مظلة الفن والتعبير، في الشعر مرة، وفي الرواية أحيانا وفي القصة كثيرا.
وفي الشعر وهو مقصدنا في هذا المقال كثير في تاويلات مفرطة تؤكد فردانية العالم وجمعية الأحلام لكافة بني البشر، فدائما ما تكون السيرة الذاتية مسارا للشكوك في كاتبها من قبل القارئ، خاصة وإن كانت تبدو بعيدة عن ظاهر كاتبها الذي يحاول بقدر المسستطاع البعد عن ما يثبت أي تطابق أو تشابه بين واقعه الحياتي أو المعيشي أو حتى الوجداني وسرده لكتاباته، سيرة معنونة كانت، أو رواية أو شعراً او حتى قصصا.
ومنذ أمس الأول وأنا أعيد قراءة ديوان وحيد للكاتب المتعدد مسارات الإبداع عمار علي حسن الذي يثبت للقارئ من حين لآخر أنه دائم التقليب في تربته الواقعية والمعاشة، أو التب كان يحياها من قبل ولم يزل غازلا خيوطا من ألم وقلق ورجرجة صريحة مابين الرجاء والأمل واليقين.
دكتور عمار علي حسن الذي كتب الرواية والقصة وشبه السيرة في مكان وسط الزحام والخارج من أعماق جذر سياسي عفي قابل للترويض والمراودة لتهيئته صعودا لسطع الإبداع الفني والجمالي المغاير حتى فيما يخص عناوين جادة في رؤى الخيال السياسي وخلافة، عمار على حسن المتوهج دوماً بكل جديد يرمي به في تربة الإشتباك مع قارئ عادي اولاً قبل المتخصص أو متذوق الفن، يقبض على تيمات وجودية تبزغ بآلام ما كان وما يختمر بل وما يفور ويمور بشكل رجراج في أعماق حواسه ونفسه وروحه وجسده ووجدانه ليرسم بمداد الجوي ومرار التجربة الفريدة فيي وقوف ثابت مع النفس قادر على التحور والتحول في مناطق اكثر ضياء ووهجا.
في ديوانه ” لا أرى جسدي” يواصل المبدع المحنك عمار علي حسن الطرق على أبواب جحيمه. في تجربة حياة وعيش وتوق وخيبة ونشوة وأفول وتسبيح، في ليال غائمة يملؤها يقين رؤى البصيرة الفنية قبل لغة الحواس ليؤكد أن الذات الحرة قادرة دائماً على تلوين سماواتها الفنية برتوش ذهبية مستقاة من ركام خبرات كتابية وفلسفية وقراءية عميقة ومتفردة، ترمي بالبشائر الألقة فيما يخص النهل من مخزون فرداني، أو نحسبه كذلك، لنكتششف أن الذاتي قدر ومقدر ويشبه قماش الحرير في قصه قبل زخرفته ليشمل العالم والوجود ليشتبك معه غالبية القراء ليرى كل منا تفاصيل تشبه حواراته مع نفسه وجوانياته ورؤاه وحلمه وتوقه وعذاباته وآماله. حتى ولو كان الوجود كله آفلاً وغائما وغير مستوعب ولا يعنيه تلك الهوات الجحيمية التي أظهرت تلك الهالات العصابيية الشائكة في غمار تجربة حياة خاصة جدا بوهجها وصدقها بل وتأرجحها مابين الواقعي والمطلق والمتشابه الداعي للالتفاف والتعاطف لأنسنة التجربة التي ساهمت دون وعي في إظهار العصب العاري.
ما أجمل الإنسان الحر إذا ساءل نفسه وهو ينظر الطريق، طريقه ومساره الطافح بغواية القنص ليصبح الفرداني والخاص والذاتي وجودياً يدعو بإلحاح جمالي وفني وتقني لمشاركة العالم بحثا عن وجود أقل وحشية وغرابة وسواد.
المبدع الكبير عمار علي حسن يثبت للقاري العادي والمدرب قبل الناقد والمتخصص الحاذق، أن السيرة الذاتية للإنسان / الكاتب / الفنان/ قادرة بمهارة الصانع وهو الشاعر في إطارنا المعني هنا، ان تُطرح في العديد من الأشكال والمسميات الأدبية الإبداعية حتى وإن تاهت رؤية ورؤى القارئ المشغول بالتفتيش او التقليب في الأنفس والحيوات الخاصة في سديم وبباطن المبدع الدائم التأرجح بمهارة مابين القنص والفلترة والبوح والسكوت والخفوت.
ديوان “لا أرى جسدي” محاولات مستميتة من قبل كاتب متمكن لتشكيل العالم وذائقة المتلقي وسبر أغواره فيما يخص درجات ما من الدديمومة واتساع خارطة التشكيل لإعادة صياغة مسمى مايطلق عليه مجازا شبه السيرة، والتي طفت من قبل بشفافية وسطوع ويقين باغت قراء شتي بتعدد رؤي النهل من الذاتي وهذا ما قدمه عمار من قبل في كتابه المؤسس المنير “مكان وسط الزحام”، أو عنوانه القصصي الأثير “أخت روحي”.