يبدأ لارس فون ترير فيلمه بمشهد ملحمي، يختصر الأحداث كلها، مشهد يمكنه ان يصنع فيلماً خاصاً به، بموسيقى فاجنر بالحركة البطيئة للممثلين، بالعروس التي تبتلعها البحيرة في مشهد جنائزي، وغصون الأشجار التي ستكون كطوق نجاة أخير في النهاية، وجواد وحيد شاهد على كل ما حدث، ثم ثلاثة أضلاع المثلث التي ستبقى للنهاية وتعاصرها، الأم ، الأبن ، العروس .. والكوكب الذي يقترب من الأرض ليبتلعها ، ثم الفناء !
لن نتحدث عن تحليل الأحداث بالفيلمين بل عن ديناميكية العبور إلى النهاية و إرهاصاتها.
فلارس فون ترير في ميلانخوليا يلعب على وتر مغاير تماماً لما انتهجه بيلا تار في حصان تورينو ..
فنجد البطلة “كريستن دانست” في الجزء الأول من الفيلم في مشهد غاية في الجمال لكابوس متكرر تشاهده وهو للأغلال الصوفية التي تكبل قدميها فيصعب عليها جرها
وقد تكون تلك الأغلال الصوفية هي إنذار من قوتها الخفية والخاصة التي تمتلكها البطلة بالنهاية، لكن إن تأملته جيداً بعد المشاهدة الثالثة للفيلم ستجدها أغلال حياتها الخاصة
العمل الذي لا تفضله لكنها تتقبل الترقية من المدير الإنتهازي والمستغل لها حتى في ليلة زفافها بصدر رحب، حفل الزفاف الأرستقراطي الذي لا تطيقه لكنها تبتسم وتعمل جاهدة على إستكماله، الأخت الأرستقراطية التي نظمت كل هذا الحفل ولا تكف عن التململ بخصوص النقود التي أنفقتها هي وزوجها على حفل زفاف ، وغيرها من الآغلال الصوفية التي تكبلها والتي ستتخلص منها
في محاولة لإستعادة ذاتها، فتخرج من حجرة زوجها دون أن تدعه يضاجعها في ليلة الزفاف لتمارس الجنس مع شخص آخر، لكنه ليس إلا تفريغاً لشحنة كبت وكآبة، وربما في محاولة للتحرر من الجسد / هذا الجسد فلكم ، للمشاع ، للطبيعة ، لكن الروح فهي لها !
وتواجه مديرها بحقيقته، لتتحرر من عبودية العمل.. لكن كل هذا ليس من فراغ أيضاً، فاتصالها القوي بالكون يمكنها من استشعار النهاية، فهي تمتلك الحاسة التي تمتلكها الأحصنة في استشعار الحوادث الكبرى، فتتعري على الحشائش لتتصل بالطبيعة بل لتنصهر فيها وتمتزج بها، في لوحة بديعة تعطيها الحياة حركة جسدها على العشب فتذكرني بإحتفاء Pierre-Auguste Renoir بجسد المرأة العاري في لوحاته خاصة لوحة المرأة المستلقية على العشب، وقد تكون تلك اللوحة البديعة التي رسمها لنا لارس فوت ترير بجسد كريستن دانست هي إمتزاج بالطبيعة لمعرفة مكنونات تلك الدرجة البالغة من الكآبة وقد تكون محاولة للتحرر من الجسد المادي للوصول إلى الروح ، روح البطلة وروح الطبيعة أو للبحث عن الخلاص !
ولم تكن تلك هي اللوحة الوحيدة في العمل بل سنجد في مشهد البداية كادراَ لعروس تبتلعها البحيرة .. والذي يكاد يكون متطابقاً مع لوحة John Everett Millais المسماة ب زهور أوفيليا والتي تصورها في اللحظات الاخيرة قبيل غرقها
وقد لعب لارس فون ترير وبيلا تار على وتر الأحصنة في استشعار النهاية، بتغير تصرفاتهم، فيتعثر جواد لارس فون ترير في مشهد البداية الملحمي من الريح، في حين يمتنع جواد بيلا تار عن الطعام، لكن ربما هو الخط الرفيع الوحيد المشترك بين نهاية لارس فون ترير المضيئة ونهاية بيلا تار المظلمة !
في النهاية نرصد حركة مقاومة النهاية عند لارس فون ترير، نرصد إنكارها، ثم إنتحار زوج الأخت عند تأكده منها ، ونرصدها أكثر في ذلك المثلث المصنوع من غصون الأشجار التي ستصنعه كريستن دانست لأبن اختها في النهاية كخيمة كانت قد وعدته بها في الجزء الأول من الفيلم لكنه في الحقيقة طوق نجاة كانت تأمل أنه سيحميهم، وسيخترق هذا الضوء الساطع الذي إختار لارس فون ترير أن يكون بصمة النهاية ليسكن فيه لا ليفنى !
أما في حصان تورينو فبيلا تار يسير في الإتجاه المعاكس تماماً لنهاية لارس فون ترير، يفتتح الفيلم بقصة نيتشة :
“في تورينو، 3 يناير 1889
فريديريك نيتشه يخرج من المنزل رقم 6 إلى كارلو ألبيرتو، ربما ليأخذ نزهة
… وربما ليمر على مكتب البريد حتى يستلم رسائله وفي مكان ليس بعيداً عنه أو هو بعيد في الحقيقة يعاني سائق المركبة من حصانه العنيد ، ورغم كل إلحاحه إلا أن الحصان يأبى أن يتحرك وعندئذ فإن السائق – جوزيبي، كارلو، إيتوري – يفقد صبره ويخرج السوط ليجلده .. يصل نيتشه إلى هذا المكان ويضع حداً لهذا المشهد الوحشي الذي يقوم به السائق الذي كان يغلي من الغيظ في هذه الأثناء ،وفجأة يقفز نيتشه إلى العربة وبالرغم من مظهره القاسي يحيط برقبة الحصان بكلتا يديه .. ويأخذ بالبكاء ،يأخذه جاره إلى المنزل حيث يستلقي لمدة يومين على الأريكة صامتاً وهادئاً حتى تمتم أخيراً بكلماته الأخيرة
“أمي، أنا أحمق“
وعاش بعدها 10 سنوات أخرى مخبولاً وهادئاً في رعاية أمه وأخواته
أما الحصان … فلا نعلم عنه شيئاً !!”
ويختتم القصة بسؤال عن الحصان في حين يفتتح مشهد البداية بحصان لن نعرف أبداً هل هو حصان نيتشة ام لا، عدا إنه حصان مُتعَب وعنيد ، ولن نعرف أبدأ هل لنيتشة دخل في القيامة التي سنراها بعيون بيلا تار !
لكننا سنرى رجلاً في رعاية إبنته ربما كما كان نيتشة في رعاية امه واخواته ، سنرى قيامة على مقاس بيلا تار وعلى مقاس قصة بدأ الكون في الكتب السماوية ، ستة أيام ، هي الحد الفاصل هي الزمن اللازم لخلق الكون أو لفناءه .. لكن نيتشة صاحب فكرة موت الإله ، الإله الذي سعى نيتشة لتطهير العالم من بقايا ظله على الأرض ، فهل الإله قد عاد من نومته الأخيرة ليفني ما قد خلقه ؟!
فبيلا تار فُتن بقصة نيتشة عندما سمعها أول مرة لدرجة جعلته يقرر صنع فيلم وقتها .. لكن ربما الفيلم ليس عن نيتشة ولا عن رؤيته الفلسفية للأشياء ربما هو عن الحصان ، فربما بيلا تار قد قرر ان يصنع أسطورة لهذا الحصان تحتوي نهاية هذا الكون كله ! وفناء هذا الجنس البشري الآلي ، الغيررحيم ، المتغذي على العنف والحروب منذ بدأ الخليقة.. ويجسد ذلك في لوحات بديعة ، فكل كادر كان لوحة قائمة بذاتها ، تحتوي على الجمال ، البساطة ، وتسيطر عليها روح الكآبة !
وعلى عكس لارس فون ترير في ملحمة وداعه ، فنجد بيلا تار يجسد الإستسلام للنهاية في أبهى صوره ، بروتين يومي لا يتغير على الرغم من الرياح ، من صعوبة الخروج ، من حالة إعياء الجواد الذي يمتنع عن الطعام ، فالأبطال وهم أب وابنته يعيشان بمفردهما لن نرى غيرهما تقريباً طوال الفيلم – إلا ربما بعض عابري سبيل – مازالا يمارسان طقوسهم اليومية بدءاً من الإستيقاظ في الصباح الباكر ، الأبنة تساعد الأب في إرتداء ثيابه ، يحتسيان كأس فودكا ، تذهب لتجلب المياه من البئر، وتساعد الأب الغير قادر على الحركة بمفرده– فهو نصف مشلول- في الخروج بالحصان رغم الرياح ، تمنعهما العواصف أو امتناع الحصان عن الحركة يدخلان المنزل يأكلان كل فرد حبة بطاطس ويتأملان النافذة إلى أن يحل الظلام ، لن يغير من روتينهم اليومي سوى زيارة بعض الغجر لهم في مشهد مغاير لجو الفيلم القاتم والرتيب فها هم مجموعة من البشر يجوبون الأرض بالأغنيات و الهمجية و السُكر وكأن الأرض لهم، وكأنهم يحتفلون بالنهاية ، ينتقمون من الحياة ، يعبرون من أجل شربة ماء من البئر الخاص بالأب والأبنة ، وينطلقون في طريقهم المعاكس بعد أن يعطوا الابنة هدية ” كتاب ” ، ويستمر الروتين إلى أن ينضب ماء البئر فجأة ، فيحاولان الرحيل ، ولكن محاولة رحيلهم ليست مقاومة للنهاية ، بل من أجل استمرار الروتين ، وفي النهاية يفشلان حتي في محاولتهم هذه ، فيعودان للمنزل يأكون حبة البطاطس دون سلقها ، في يوم آخر تنطفئ النيران في إشارة اخرى ناحية النهاية ، لكنهم لن يكفا عن ممارسة الحياة كما اعتاداها حتى مشهد النهاية!
الأب والأبنة وحبتي البطاطس والظلام الذي يخيم شيئاً فشيئاً على العالم ، وكأن العالم عند بيلا تار يتجه نحو نفق مظلم ، ولا خلاص ، فليس هناك من إحتياج للمقاومة ، للتغيير، فلا أمل في الجنس البشري ..
فالعدمية هي سيدة المشهد وبطلته الأولى ..
وعلى الرغم من أن لارس فون ترير وبيلا تار يغزلان نفس الثوب ، ثوب القيامة .. كآلهة منمقة إلا إنهم يعزفان سيمفونيتان مختلفتان ، فما بين ضوء لارس فون ترير الساطع ، وظلام بيلا تار الدامس ليس هناك من شئ مشترك سوى اللا خلاص !