لؤي حمزة عبّاس: الكتابة نسيان مستمر

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

Normal 0 false false false EN-US X-NONE AR-SA /* Style Definitions */ table.MsoNormalTable {mso-style-name:"Table Normal"; mso-tstyle-rowband-size:0; mso-tstyle-colband-size:0; mso-style-noshow:yes; mso-style-priority:99; mso-style-parent:""; mso-padding-alt:0cm 5.4pt 0cm 5.4pt; mso-para-margin-top:0cm; mso-para-margin-right:0cm; mso-para-margin-bottom:10.0pt; mso-para-margin-left:0cm; line-height:115%; mso-pagination:widow-orphan; font-size:11.0pt; font-family:"Calibri","sans-serif"; mso-ascii-font-family:Calibri; mso-ascii-theme-font:minor-latin; mso-hansi-font-family:Calibri; mso-hansi-theme-font:minor-latin;}

حاوره: صفاء ذياب

هناك بعض الكتاب من يدفعك للبحث عن آليات اشتغاله وطرائق تفكيره، ليس لأنه منغلق أمام الآخرين، بل لأنه مع كل مشروع يقدمه يسحبك إلى عوالم جديدة، ويدخلك في غابات متشابكة الأغصان، ابتداءً من كتابه القصصي "على دراجة في الليل" مروراً بـ"العبيد" و"إغماض العينين"، ومن ثم أعماله الروائية "كتاب المراحيض"، "الفريسة" "صداقة النمر" و"مدينة الصور". هذه المرة يختلف لؤي عن كل ما سبق أسلوباً ولغة وفكراً، فهو يقدم في عمله الجديد "الكتابة.. إنقاذ اللغة من الغرق" خلطة من سحر اللغة والكتابة، يجمع فيها بين القصة والرواية والشعر، فضلاً عن الشذرات التي عُرف بها كبار الكتاب. يعد الكتاب الإصدار الأول لدار "وراقون" في البصرة، وقد صدر بالاشتراك مع الدار العربية للعلوم ناشرون في بيروت، عنه وعن تجارب عباس في الكتابة والبحث، كان هذا الحوار:

حاوره: صفاء ذياب

هناك بعض الكتاب من يدفعك للبحث عن آليات اشتغاله وطرائق تفكيره، ليس لأنه منغلق أمام الآخرين، بل لأنه مع كل مشروع يقدمه يسحبك إلى عوالم جديدة، ويدخلك في غابات متشابكة الأغصان، ابتداءً من كتابه القصصي “على دراجة في الليل” مروراً بـ”العبيد” و”إغماض العينين”، ومن ثم أعماله الروائية “كتاب المراحيض”، “الفريسة” “صداقة النمر” و”مدينة الصور”. هذه المرة يختلف لؤي عن كل ما سبق أسلوباً ولغة وفكراً، فهو يقدم في عمله الجديد “الكتابة.. إنقاذ اللغة من الغرق” خلطة من سحر اللغة والكتابة، يجمع فيها بين القصة والرواية والشعر، فضلاً عن الشذرات التي عُرف بها كبار الكتاب. يعد الكتاب الإصدار الأول لدار “وراقون” في البصرة، وقد صدر بالاشتراك مع الدار العربية للعلوم ناشرون في بيروت، عنه وعن تجارب عباس في الكتابة والبحث، كان هذا الحوار:

*لماذا الكتابة؟ ولماذا النسيان؟

 يبدو السؤال في علّة الكتابة أصعب من الكتابة نفسها، أكثر صمتاً وأشد تعقيداً، فالكتابة تجيب عن نفسها بنفسها وهي تطوّر بحثها الدؤوب مع كلِّ مشروع يقترح المضي خطوة أخرى على الطريق، يُطلق تلويحة ويُضيء فكرة تُشير أبداً لفكرة الحياة وهي تتخلل وقائعها وتحتفي بتفاصيلها.  لن تبتعد الكتابة عن الحياة، ولن تغدو واحدة من مراياها، إنها الحياة وقد أُعيد انتاجها على الورق مشفوعة بالكثير من الرؤى والهواجس والأحلام لتعدّل من طبيعة الحياة نفسها وهي تشهد تحوّلاتها الغريبة، إنها تفتح مع كلِّ كتابةٍ البوابة نفسها لكنها تطلُّ في كلِّ مرّة على عالم مختلف؛ ثمة، دائماً، ما يتجدّد لحظة الكتابة، يُمحى ويُكتب في الآن نفسه، تغيب تفاصيل وتحضر تفاصيل جديدة لم تكن من قبل.  من هنا يمكن للكتابة أن تجدّد ذهابها إلى الحياة، مواجهتها والاشتباك معها. في الكتابة يمكن لنا أن نحيا مراتٍ متعددةً في نهاية كلٍّ منها نموت لنولد من جديد، إنها الحكاية التي تأخذ بأيدينا على الدوام، تقودنا إلى جوهر الحياة، لبها المحيّر، حيث يلعب الموت ألعابه الأثيرة، وهي الفكرة التي يبدو من الطبيعي معها أن يكون للنسيان نصيبه في الوصول إلى النهايات القصوى، إلى حدود المواجهة وحدود السؤال، لن يكون النسيان في الكتابة مقابلاً ضدياً لأفعال التذكّر وهي تستدعي تجاربنا، تناديها كما لو كانت ترقد في قاع بئر في محاولة لالتقاط أشلائها.  للنسيان في الكتابة حضوره الفاعل، المؤثر والعميق، نحن ننسى لنكتب، هكذا يكون النسيان عتبةً من عتبات الكتابة، بوابة مشرعة من بواباتها.  إن الكتابة نسيان مستمر، هكذا يمكن أن ننصت لصوت غادامير الذي يؤكد أن التذكّر لا تاريخ له، ثمة نسيان مستمر. “ولطالما تصورتني واحداً من مواطني دولة النسيان، وأنا أعاود الكتابة عن الكتابة مبتدئاً من أول السطر في كلِّ مرّة، مثل خفّاشٍ يرتطم ببناية، مثل ديكٍ وحيدٍ في قارب.

* بعد عدّة أعمال قصصية وروائية، تُنجز كتاباً مفتوحاً، يجمع أجناساً عدَّة، ألم يعد النص السردي على ما فيه من تنوع كافياً؟

مع كتاب ( الكتابة، انقاذ اللغة من الغرق)، وهو كتاب سردي أيضاً، يبدو الأفق أكثر سعة والرهان أشدَّ صعوبة، إن الرؤية التي تقترحها فكرة الكتابة الجامعة تدخلنا إلى جوهر الأنواع الأدبية مثلما تمنح هذه الأنواع الفرصة لمواصلة السؤال الذي يبدو منقطعاً حينما يأوي كلُّ نوع إلى جزيرته، يشرب من مياهه الخاصة ويحدّق إلى سمائه، ستقودنا الكتابة إلى ما وراء التخوم وهي تعمل على اقتراح اقليمها الجامع، حيث تتعدد المياه وتتداخل السماوات، تغدو الكتابة في مثل هذا التصوّر انشغالاً كلياً بقيمة النوع وإمكاناته وهي تسعى لإنتاج شذراتها. ثمة إطار موحّد أو قصة جامعة، وتلك واحدة من ضرورات الكتاب وخصائص تأليفه، تتراءى عندها الأنواع الكتابية وهي تسهم بأداء حكاية مشتركة لن تبتعد كثيراً عن حكاية الانسان الأولى: حكاية الحياة والموت التي لا بدء لها ولا انتهاء. هل يبدو من الغريب أن تتشكّل حكاية الكتاب عبر وعي جندي يعيش رحلة أبدية بين الحياة والموت، يحيا حربه في كلِّ مرّة ويموت فيها ليولد في حرب أخرى، قادمة أو سابقة، هذا الجندي الذي ولد من الكتابة نفسها، من كتابة همنغواي عن الحرب الإسبانية يكتب بدوره دليله لانقاذ اللغة من الغرق، لن يفكّر بإنقاذ اللغة غير جندي عاش حروب الانسان جميعها وخبر في كلِّ حرب منها معنى أن يموت، كأن قيامته بالكتابة وحدها وهي ما تجعل لحياته وموته معنى

.

*نتلمس في الكتاب أساليب مختلفة، تنتمي بعضها للشذرات، وبعضها للسرد والفن القصصي، فضلاً عن الشعر الذي يدخل في بنية الكتاب بصور مخاتلة.. ما التقنيات التي اشتغلت عليها في بنية الكتاب، وكيف يمكن فهم اختلافها مع النصوص السردية التي عرفت بها؟

أتصوّر كتاب الكتابة استثماراً واسعاً لما أُنجز من قبل في القصة القصيرة والرواية والبحث، وربما يبدو منحازاً أكثر لفكرة (الكتاب) التي قُدّمت مرتين من قبل في كتاب العبيد 2000، وكتاب المراحيض 2005، ثمة سؤال يتحرّك في الخفاء مثل مياه جوفية، يتطوّر هاجساً بين كتاب وآخر حول حدود الكتابة النوعية، ممكناتها وقيمها، وربما كان هذا الهاجس وليد كتابة القصة القصيرة التي أراني اليوم أكثر إيماناً بأنها الفن الأقرب إلى الرياضيات في انضباطها ودقّة عملها وإحكام نسيجها اللغوي، وذلك ما تتمتع به الشذرة على نحو دقيق وقد قُدِّمت من قبل على نحو رفيع في نصوص التصوّف وما تلاها، حيث يبدو التفكّر حاضراً بقوّة في التفاصيل الصغيرة العابرة وهي تنتج مشهداً واسعاً للحياة.

ليس ثمة ما هو غير فاعل وغير مؤثر، ليس ثمة ما هو أدنى أهمية، ثمة نسيج يوحّد الحياة وينظّم مجرى تجاربها. كيف يمكن أن أرتّب ما أُنجز حتى الآن في ضوء سؤالك، لا أجد كتاباً يتقدّم على آخر، وربما ذلك ما لا أتمناه، وليس ثمة مجال للاحتكام النوعي، المحدّد والنهائي، نحن في النهاية ما يتجلّى من صورنا على مياه الزمن سريعة التدفق دائمة الجريان، لتكون الكتابة، في هذا التصوّر، اقتراحاً للوصول إلى معنى يبدو من العسير التقاط وجه واحد، محدد ونهائي أيضاً، من وجوهه، تحقق فكرة الكتابة والمحو مثل ذلك على نحو دقيق، “إنها الحرب التي تكتب وفي كتابتها تمحو كلَّ شيء“.

* المكان كان له أثر واضح في الكتاب، وقد أسميته بلد النسيان. أي عالم تبحث عنه من خلال ذاكرتنا ذات الثقوب التي تتسع باستمرار؟

سيغدو المكان في كتاب الكتابة واسعاً، غير محدد بجهة معلومة، مكاناً تعدّده الوقائع المسرودة وتغذّيه التجربة التي يحافظ المكان العراقي فيها على مركزيته.  مثلما كان الكتاب نتاج كتابة ومحو سيكون المكان نتاج اقامة وارتحال، لن يُستحضر مكاننا العراقي هنا، ومنه المكان البصري، إلا ليوثّق رحيلاً بات جزءاً من أرواحنا التي أرهقتها جسامة الحدث.  ومثلما كان النسيان عتبة واسعة من عتبات الكتابة سيغدو عتبة من عتبات المكان.  الحرب التي عاشها الكاتب قبل ثلاثين عاماً ما زالت تتراءى في هواجسه بين أفعال التذكّر والنسيان، إنها تشيد مكانها في ما يتكرر حولنا، ما يكبلنا ويتسلل إلى أعماقنا، وهي في الوقت نفسه تهدمه وتمحوه، إنه بلد النسيان الذي تبدأ عنده كلُّ كتابة وتنتهي.

مقالات من نفس القسم