محمد الصباغ
1
كنت صغيرًا عندما أمرتني أن أحضر كيلو من البصل. وجهها الصارم أربكني؛ جعلني دون قصد أمتطي حصاني المصنوع من عصا طويلة من الخيزران، أجري حافي القدمين خوفًا من عقاب محتمل إذا تلكأت.
سألني بائع الخضار هل أصابكم مكروه؟ صمت. وحين لم يجد غير البلاهة على وجهي، هز رأسه كأنه تذكر شيئًا، ثم سألني:
– أخوك خيري مسافر إمتى؟
– أصحابه معاه في المندرة بيحضروا الشنطة.
أعطاني البصل، ضربت على الخيرزانة بعصا أخرى في يدي كما يفعل الفرسان في سباقات الخيل. اندفعت بكل سرعتي عائدًا إلي البيت.
توقعت أن ترحب بوصولي، كعادتها إذا أرسلتني لإحضار شيء، لكنها تلقفته من يدي كما يتسلم الطالب نتيجة امتحان آخر العام، وهو متيقن من رسوبه.
جلست في منتصف حوش الدار، بحيث تكون المندرة في مجال رؤيتها. نظرت إلى الخضار الممتد أمامها، والذي ينتهي بالطريق العمومي، ثم بدأت تقطيع البصل وكأنها أعطت إشارة البدء للدموع أن تنهمر في هدوء ودعة.
ما لاحظته، أن أختي التي يلاصق جسمها جسد أمي، لم تدمع من رائحة البصل النفاذة.
2
مات أبي قبل أن أطلق صرختي الأولي في هذا العالم، ولم أهتم بمعرفة المزيد عنه.
لا أعرف لماذا يحتاج أطفال مثلي إلى آباء. قد يكون منطقيًا وجود الأب، إن لم يتملك الطفل أما كأمي. وجهة نظري أن الله خلق نساء عظيمات تصلح الواحدة منهن أن تقوم بدور الأبوين معًا، هؤلاء يتوفى الوالد بعد وضع البذرة في أرضهم الخصبة، ولا حاجة له بعد ذلك.
أمي كانت كملكات النحل، لا تحتاج الذكر إلا لهذا الغرض. جعلني هذا لا أفهم سبة أحدهم حين نعتني باليتيم.
– أخويا يعني إيه يتيم؟
– مين اللي قالك كدة؟
قالها بعصبية، معتدلًا في جلسته.
– مفيش حد. أنا عايز أعرف بس.
– ممم، اليتيم هو اللي معندهوش أب، مين اللي شتمك بقي؟
لم أهتم بالإجابة لأني أردت أن أسأله عن معضلة طالما انشغلت بها.
– خيري، هو إيه اللي ممكن يعمله الأب، أمنا ما تقدرش تعمله لنا؟
طال سكوته، حتى ظننته أنه تناسى السؤال عن عمد، ثم أجابني:
– ما فيش.
3
كانت تتباطأ في تقطيع البصل حتى يتناسب مع انهمار الدموع، فيبدو للناظر أن البصل هو الجاني لتواجده فقط في مسرح الأحداث.
كنت ألمحها تسترق النظرات إلى المندرة المكتظة بالمودعين، بطريقة لا تبين أنها مهتمة بما يجري داخلها.
خيري تخرج في الجامعة منذ أربع سنوات. كغيره من أبناء الفقراء، لم يجد عملًا ينتظره.
كنت أراه يحمل ملفًا (فلوسكاب)، بداخله أوراق كثيرة لا أعرف ماهيتها. في البداية كان يقول:
ـ أريد أن أشتغل في تخصصي.
مع الوقت تضاءلت أحلامه، تقزمت كما تقزم حجم مصر أمام العالم، فصارت كل أمانيه أن يجد وظيفة وكفى. بعد فترة أخرى، فقد حتى الرغبة في البحث عن وظيفة.
كنت أراه جالسًا طوال الوقت يفكر و يدخن. أصدقاؤه يحضرون من وقت لآخر، يتحجج بانشغاله، يعتذر عن الخروج ويعتذر أيضًا عن استضافتهم.
لم يكن باستطاعته إيجاد ثمن السجائر الفرط التي دأب على تدخينها منذ تخرجه، فصنع أرجيلته يدويًا من برطمان قديم، قطعة كاوتش من (شبشب زنوبة)، عصا من البوص قوم اعوجاجها بالتسخين على النار، ووصلة من خرطوم بلاستيك قابلة للانحناء. كانت مثل معشوقته، لا تفارق يده إلا عند النوم. لذا سماها (بهية).
كنت أسمعه يشرح لأصدقائه سر التسمية، فيقول لأن عشقها مضر، كعشق بهية التي غنى لها الشيخ إمام.
لم تمض أيام على رفض مبارك العدوان الغاشم على أرض الكويت، حتى فتح باب التطوع في الجيش. كان الخبر بين أوساط العاطلين والمحبطين طوق نجاة، كان انتحارًا حلالًا يتقبله المجتمع.
خيري كان مهتمًا بأخبار الحرب، ردود فعل الدول العربية، قرارات الأمم المتحدة. بدأ يستضيف أصدقاءه مرة أخرى، يلتفون حول التلفزيون، يتلقفون الأخبار من هنا وهناك.
كنت أستمع إلى أحاديثهم وشجاراتهم، ما بين مؤيد ومعارض. سمعت كلمة (ديكتاتور) لأول مرة، حين وصم بها أحدهم (صدام حسين). لكن خيري قال: كل الحكام العرب كذلك.
كنت أنكمش في ركن من الغرف، أتابع أحاديث المندرة بكل حواسي. في البداية اعتقدت أنها مباراة كرة قدم، وأن عائلة الصباح، صدام حسين، مقرن بن سلطان، وجون ميجور وغيرهم، مجرد لاعبي كورة دوليين.
كنت معذورًا في ذلك، لأن مثل هذه الحدة في النقاشات لا تظهر في بيتنا إلا وقت مباريات الكورة.
مع الوقت بدأت أميز بين ماهو تشنج سياسي، وما هو حزق كوري.
فاجأنا خيري حين تطوع في الجيش. بدأ يستعد للسفر ومعه اثنان من القرية، كلاهما من حملة المؤهلات العليا، وكلاهما من عشاق بهية مثل أخي.
لم تستطع أمي إثناءه عن قراره رغم قوة شخصيتها. لم يكن لديها أي بديل آخر تغريه بالجلوس لأجله. الفقراء مثلنا ليس لديهم رفاهية الخيارات المتعددة، دائما ثمة خيار واحد سيء هو المتاح.
في محاولته لإقناعها، تحدث عن أجور بمئات الدولارات شهريًا للجنود المتطوعين.
قالت متهكمة:
– هو من امتى حسني بيدفع حاجة يا بني؟
– مش حسني يا أمي، دي الأمم المتحدة، فلوس من بتاعت البترول. اعتبريها عقد عمل.
اكتفت أمي بالصمت، فهم أنها غير راضية، ولكن كان الذهاب إلى الجبهة مسألة حتمية، غير قابلة للتفاوض.
أدركت أمي أنها أصبحت طرفا في معركة دون إرادتها. لم تعد مهتمة بالاستعدادات لعملية درع الصحراء. لم تعد تتابع وفود الجيوش العربية والأجنبية إلى أرض السعودية. حتي أنها امتنعت عن إبداء رأيها، حين سألت عن وجود الأجانب غير المسلمين في أرض النبي محمد.
كانت فقط تتساءل، لماذا طالت يدا الحرب ابنها؟ كيف قطعت رياح السياسة المحملة بالسموم كل هذه المسافة لتخرب بيتها؟ لماذا أولاد الغلابة هم من يدفعون الضريبة؟ كنت أسمعها تقول لولا القرش زغلل عينه ما كان فكر يحارب معاهم، ولا كان راح مني ابني. لم أفهم معني الجملة، ولكني توقعت أنها تذم حسني مبارك بشيء ما.
– هو مبارك ماله بس يا أمي؟
خيري سألها
– هو مبارك هيسفر ضناه يحاربوا معاكم يا ولدي؟
– مبارك ما ضربنيش على لإيدي.
– ضربك وأنت مش حاسس يا ابن أمك، لما قفل الدنيا في وشك هنا وخلاك مكفي على شرب الجوزة ليل و نهار.
سكت خيري، عندما لم يجد جوابًا.
4
قبلني على رأسي:
– أنت راجل البيت.
أوصاني على أمي والبنات. لم تنهض لتسلم عليه، فانحنى وقبلها. كانت الدموع تفيض على وجوه أخواتي، دون الحاجة إلى تقطيع بصل.
أما أنا لا أعرف لماذا لم أبك مثلهم. تسمرت في مكاني، حتى ركب كابينة العربية ال “نص نقل” واختفي عن مجال رؤيتنا.
5
صارت مندرة البيت ناديًا اجتماعيًا للقرية بعد سفره. نستقبل الوفود كل ليلة، يشاهدون نشرة التاسعة مساء، وما يتبعها من أخبار. بعضهم كان يحضر مبكرًا ليشاهد مسلسل الساعة الثامنة معنا، ثم حديث الروح تمهيدًا لمارثون التاسعة اليومي.
لم تكن تشارك في أحاديثهم، كانت تتحدث فقط بدافع إكرام الضيف. سافر العقل والقلب مع خيري، لا أحد يعرف متى يعودان لها.
بعد شهور قليلة، انتهت الحرب. أخذت أمي تتوسط حوش المنزل من جديد، عيناها مصوبتان على الخضار الممتد المنتهي بالطريق العمومي. كلما ظهر ظل رجل يافع استبشرت، حتى تدرك أنه ليس رجلها المنشود.
حين سمعت بعودة صاحبيه، لم تنتظر حتى يحضروا لها. تركت الفرن في وسط معمة الخبيز، ربطت المنديل الفلاحي (أبو أوية) على رأسها، و لم تنتظر حتى تستبدل جلبابها.
– ما شفتوش خيري يا ولاد؟
– وزعونا في مركز التدريب يا خالة، وما شفناش بعض من ساعتها.
الأيام التالية لهذا، رجعت ترسلني إلى محل الخضار كل صباح، لأحضر لها كيلو من البصل. تجلس في وسط الحوش المطل على ذلك الخضار الممتد، تراقب كل ظل رجل يافع يمر، وقد أعطت إشارة البدء لشلالات الدموع العصية.
ذبلت أمي. جفت على عودها، كريحانة نزعت من الأرض ورميت في حوش الدار. لم تعد تقوى على تقشير البصل ولم تعد بحاجة إلى إرسالي كل صباح لإحضاره. كانت تتوسط حوش الدار وتبكي بدونه.
عندما كبرت، عرفت أن خالي أخفى عنها موت خيري لسنوات طويلة. كان حريصًا ألا تفقد الأمل في رجوعه، لأن الأمل في عودة خيري، هو الشيء الوحيد الذي جعلها تعيش بيننا، ولمدة لا بأس بها، نصف ميتة.