كيف تنهي رواية؟

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

وارن آدلر

كان رودريك ثورب ينتمي إلى مجموعة صغيرة من الروائيين الذين دأبوا على الالتقاء مرة كل شهر في ثمانينيات القرن الماضي في لوس آنجلس لتبادل النميمة. كان رود قد حقق نجاحا أسطوريا في السابعة والعشرين من عمره بروايته "المخبر السري" التي تحوَّلت إلى فيلم من بطولة فرانك سيناترا، ثم كانت روايته "لا شيء يبقى إلى الأبد" مصدرا لفيلم Die Hard  الذي حقق نجاحا ساحقا بأجزائه المختلفة.

هذه المجموعة من الروائيين، المؤلفة من كاتب هذه السطور وكاتب روايات الإثارة العظيم آندرو كابلان، كان فيها أيضا إب ملكوار، صاحب “ربوبنسن كروزو على المريخ”، والذي تعد قصصه عن تجربته في الحرب العالمية الثانية من جملة الكلاسيكيات اليوم، وسيد ستيبل الروائي وأستاذ الكتابة الإبداعية الشهير، ومان روبن المسرحي وكاتب السيناريو الناجح، وبرايان غارفيلد صاحب “حرب الألف ميل”.

كانوا جميعا كتابا شديدي الذكاء متوقدي الموهبة، لكل منهم قائمة منجزات مبهرة. وبرغم أننا كنا نتكلم في العادة عن أوجاع حياة الكاتب وأفراحها، إلا أن أغلب حديثنا كان عن الأفلام، والصراعات مع الناشرين، ومختلف الأحداث الجارية. كانت تلك اللقاءات هي ذروة حياتي خلال السنوات الست التي عشتها في لوس آنجلس.

رحل رود ومان، لكن المجموعة استمرت في الالتقاء، وإن بلغ أعضاؤها الآن أرذل العمر، فأحضر لقاءاتهم هذه بسعادة كلما وجدت نفسي في لوس آنجلس. هناك صلة غريبة تربط بين الكتّاب وأعتقد أننا جميعا كنا نجد بهجة حقيقية حينما نخرج من كهوفنا الموحشة إلى حيث نلتقي جميعا في ما يشبه اجتماع شمل رفاق حرب تزاملوا ردحا من الزمن في شتى ميادين القتال.

وكان يحدث في بعض الأحيان أن يمس تعليق عارض من أحد الأضدقاء وترا فيظل الصدى يتردد ويتمهل ويتوسع خالقا رؤية أصيلة غير قابلة للانطماس على مدار السنين. ولقد جاء أحد تلك التعليقات من العظيم رود، الذي قال مرة إنه لو علم مسبقا بأي طريقة سوف تنتهي رواياته لما كان كتبها. ففي رأيي أن ذلك القول يوجز ورطة فن الروائي كله. ما الذي يشكل نهاية قصة، وكيف يكون الوصول إليه؟

فكرة رود حدَّدت بدقة كيف ينبغي أن تُكتب الروايات؟ لطالما التزمت في كتابتي للرواية هذا المنهج وصولا إلى النهاية المناسبة، ولكن رود هو الذي جهر بالرأي دونما مواربة. فما قاله ببساطة هو أن الروائي لا يمكن أن يفترض النهاية مسبقا.

وما من شك في أن فكرة رود تحتمل المجادلة. إذ أن هناك روائيين كثيرين يباشرون العمل وفي رأسهم نهايته، فهم يعملون من النهاية للبداية إيجادا للعناصر المفضية لا محالة إلى النهاية المبيَّتة سلفا. وأغلب روايات النوع [أي روايات الإثارة والخيال العلمي والجاسوسية وما شابهها] تنتهي بتلك الطريقة. وذلك في واقع الأمر سر تصنيفها في فئة “روايات النوع”. فهي تتبع، التزاما باشتراطات تلك الفئة، مسارات في الحبكة مطروقة، للوصول إلى نهاية نمطية مقبولة لدى الوصفة النوعية.

أما بموجب تفسيري لمقولة رود المتعلقة بالإنهاء، فالمنهج هو أن نخلق شخصياتنا من فكرة أساسية خطرت لخيالنا في غموض، ثم نتتبع هذه الشخصيات على ذلك الطريق صوب مصائرها، كما لو أن ثمة قرينا فوق كتفي يدس أنفه في كل شيء، متتبعا القصة في شتى مساراتها. وما يلي ذلك من أحداث هو قلب فن الحكي كله، وهو، شأن الحياة نفسها، سير إلى المجهول. ومثلما قال الشاعر الاسكتلندي ببراعة في قصيدته “الفأر”: “وخير ما في خطط الفئران والبشر هو ما ينحرف”.

إن الإثارة الحقيقية بالنسبة للكاتب، والإلهام، ومتعة الإبداع ذاتها، تأتي من تتبع مصائر الشخصيات  في مستقبلها المجهول. فهذه الشخصيات تصبح بالنسبة للمبدع حقيقية، من لحم ودم، ثلاثية الأبعاد. ولو أن الكاتب يعرف مسبقا مصائر شخصياته، فجهده إذن في كتابتها مجرد بناء ميكانيكي خال من الحياة.

وخلافا للحياة، التي تنتهي دائما بالموت، يمكن أن توصف نهاية الرواية بالسعيدة أو التعيسة أو القاطعة أو المفتوحة، أو المخيبة للآمال أو المرضية، لكنها في كل الحالات هي تلك اللحظة الحاسمة، لحظة الذروة، التي تنهي التجربة كلها لدى القارئ.

ولا أحد يسأل الرب عن تتابع الأحداث في خلق العالم، ولا عن سر قراره الاستراحة في اليوم السابع. بل كلنا ننظر إلى النهاية وحدها، كلنا نقول: هذه هي الحياة.

 

*عن هافنغ بوست

 

 

مقالات من نفس القسم