محمد العبادي
ربما يكون هذا العنوان هو الأنسب لمقال عن هذا الفيلم، فهو الأنسب لهذه الأجواء الستينية بامتياز، والتي بدأت من عنوان الفيلم نفسه: “حدث ذات مرة في…”، بالإضافة لموضوعه: مذبحة تيت على يد “عائلة” مانسون…
تارنتينو ضد تارنتينو: في رأيي الشخصي فإن التحدي الحقيقي الذي كان يواجه “تارنتينو” في هذا الفيلم هو الخروج من عباءة “تارنتينو”، تحدي أن يبتكر شكلا جديدا لتقديم إبداعه.. كي لا تتحول أفلامه لمجرد تكرار لنفس الأشكال الإبداعية لأفلامه القديمة.
فعلى الرغم من النجاح الذي حققه فيلمه السابق “ثمانية حاقدون” إلا أنه بالنسبة لي كان جرس إنذار لخط تطور سينما تارنتينو، فـ”الثمانية” ظل غارقا في نفس أجواء “الويسترن” التي جاء منها الفيلم الأسبق “دجانجو”.. وبات من السهل على المشاهد الفطن أن ينتبه إلى أن أفلام تارنتينو الأخيرة قد حبسته في قالب واحد: المحاكاة التهكمية لجنس سينمائي قديم.
فنجد عندنا محاكاة تهكمية “بارودي” لجنس الويسترن في “دجانجو” و”الثمانية”، ولأفلام الحرب العالمية الثانية في “أوغاد مجهولون” ولأفلام مطاردات السيارات في “ضد الموت” ولأفلام القتال اليدوي الآسيوية في “اقتل بيل”.
المقصود هنا طبعا هو المحاكاة التهكمية بأداء “تارنتينو” الخاص، خلطته الخاصة المميزة التي تشتمل المبالغة الكاريكاتورية في الأحداث والشخصيات، بالإضافة للدموية الشديدة في عرض المضمون، تلك الدموية التي صارت بصمة مميزة لأسلوبه.
إذن بالتأكيد ليست أفلام تارنتينو مجرد أفلام تهكمية خفيفة كالتي تغرقنا فيها السينما الأمريكية، فخلطة “تارنتينو” الخاصة المميزة تلك وطريقة تنفيذه لها هي التي تضفي عمقا حقيقيا على استخدامه للمحاكاة التهكمية، فتدفعك أفلامه لتتساءل عن المقصود من وراء كل هذا التهريج والمبالغة، يكفي أن ننظر مثلا هنا لمشهد “بروس لي”.. أو لمشاهد سينما السباجيتي الإيطالية لنفكر في أبعاد ثانية من القراءة لمحتوى الفيلم.
المشكلة أن هذه الخلطة صارت أقرب لقالب ثابت لشكل الفيلم لا يحيد عنه مخرجنا في السنوات الأخيرة، لتصير أفلامه أقرب لنسخ مختلفة من نفس القالب الثابت في السيناريو والتنفيذ.
نوستالجيا أكثر/بارودي أقل: لكن في فيلمنا هذا، تعامل “تارنتينو” مع مشروعه بشكل مغاير للقالب الثابت الذي تكرر في أفلامه السابقة، لا زال التهكم موجودا بنسبة كبيرة، لكن العامل المسيطر على الأجواء بشكل أكبر هو الحنين إلى الماضي: النوستالجيا.
هو فيلم محمل بالحنين لهوليود نهاية الستينات، لكن بصبغة “تارنتينو” الساخرة حينا، والدموية أحيانا، عن طريق حكاية بسيطة عن نجم تلفزيوني في طريقه للأفول ودوبليره/سائقه/صديقه الشخصي، وربط حكايتهما بحادثة مقتل الممثلة الشابة “شارون تيت”.. جارتهما في بيفرلي هيلز.
رغم ارتباط الفيلم بأجواء أفلام الويسترن رعاة البقر لهذه الفترة، لكن جاء هنا بشكل مغاير لما رأيناه في الفيلمين السابقين، فلم يأخذنا المخرج لزمن الويسترن ومزارعه وعبيده، بل أخذنا لزمن تصوير الويسترن باستوديوهاته الضخمة وممثلينه الموضوعين تحت ضغوط العمل والشهرة واحتكار شركات الانتاج.
بالتالي التهكم هنا كان تهكما “مستأنسا”.. داخل جلسات التصوير في الاستوديوهات وفي مشاهد من أفلام داخل الفيلم.
كذلك “الدموية” ـ ماركة “تارنتينو” المسجلة ـ لا زالت موجودة بالطبع لكنها “مقننة” بشكل كبير، ومحدودة بالجزء الأخير من أحداث الفيلم، هذه المحاولة لتقنين الدموية ليست وليدة هذا الفيلم، لها إرهاصات في الأفلام السابقة، ومن المسجل أنه تم تعديل سيناريو “الثمانية” ليكون أقل دموية مما كان عليه في البداية.
حكاية الصورة: بتحليل التفاصيل الفنية للفيلم نجد العديد من عوامل القوة الإبداعية.. إن بدأنا بالصورة فنجد أن مدير التصوير “روبرت ريتشاردسون” نجح في تعاونه الخامس مع المخرج في أن يخلق حالة بصرية ثرية على مستوى الألوان والإضاءة، مع تعمد في عديد من أجزاء الفيلم لخلق حالة بصرية قريبة من حالة أفلام فترة الأحداث.
مونتاج “فريد راسكين” جيد جدا ومناسب للحالة العامة للفيلم ولنمط أداء “تارنتينو”، أعرف أن العديد من المعلقين اعتبروا أن الفيلم كان يحتاج لمونتاج أكثر صرامة ليقلل من طوله الذي بلغ ساعتين و41 دقيقة.. لكني أختلف تماما مع هذا الرأي.. الحقيقة أني أجد أن طبيعة الفيلم وطريقة إخراجه هي التي أدت لظهورالفيلم بهذا الطول.. فرؤية مخرجنا تعتمد على مكونات الصورة وإيقاعها الداخلي.. وليس فقط إيقاع قطع اللقطات عبر المونتاج.. كذلك فإن “تارانتينو” لا يكتفي فقط بسرد حكاية فيلمه، بل هو يعلي من قيمة تفاصيل الصورة وأن يعكس المشهد رؤيته لما يريد ان يراه الجمهور، لهذا نجد بعض اللقطات والمشاهد تستمر على الشاشة لفترة أطول بكثير مما يستلزمه “الحكي”، فالمهم ليس الحكي فقط، المهم هو ما تحتويه الصورة. بالتالي لو قام “راسكين” بذبح هذه المشاهد بمقصه ليختصر الوقت الذي يراه البعض زائدا، ربما كان أدى هذا إلى فيلم أقل وقتا، لكن ليس أسرع إيقاعا، وبالتأكيد ليس “فيلم تارنتينو”.
مثلا.. لو طبقنا هذا المونتاج الصارم المزعوم على ثنائية “اقتل بيل” ربما كانت تحولت إلى فيلم واحد بدلا من فيلمين، باجتثاث الكثير من تفاصيل مشاهد القتال في الجزء الأول ومشاهد التدريب في الجزء الثاني، لكن النتيجة النهائية كانت لتصبح قتل روح الفيلم بدلا من قتل “بيل”.
أداء الممثلين عموما جاء مميزا، في مقدمتهم بالطبع الثنائي “براد بيت” و”ليوناردو دي كابريو”. ويحسب لمخرجنا قدرته على إظهارهما بشكل جديد ومغاير، حتى عن التعاون السابق لهما معه: “براد” في “أوغاد مجهولون” و”ليوناردو” في “دجانجو”.. أما أداء “مارجوت روبي” فقد صنعت نموذجا أنثويا أكثر رقة وهدوءا مما اعتدنا عليه في عالم “تارنتينو”، وهو ما فسره في أحد حواراته أنه أراد لها أن تكون قريبة لشخصية الراحلة “شارون تيت” الحقيقية، وليس لشخصية “تارنتينو”.
الظهور القصير لـ”آل باتشينو” كان مميزا، رغم الدقائق القليلة التي ظهر فيها على الشاشة إلا أنه ظهر بشكل متوهج وخاطف للعين، بدا في كامل لياقته كممثل هنا، وللحقيقة لم أستطع أن أمنع نفسي حين شاهدت “جوكر” من أن أعقد مقارنة بين أداء “باتشينو” هنا وأداء “روبرت دي نيرو” هناك والذي جاء باهتا وتقليديا رغم مساحة الدور الأكبر.
استطاع “كوينتن تارنتينو” أن يقدم لنا فيلما عن السينما وعالمها الواسع، وفيلم سيرة ذاتية بشكل مختلف، لكن نجاحه الأكبر هنا هو أنه استطاع أن ينطلق بإبداعه السينمائي إلى آفاق أرحب كان في أمس الحاجة إليها. ألا ليت مخرجينا يرون ما فعل ويحاولون أن يتعاملوا مع إبداعهم بنفس الجرأة، بعد ما تحولت أفلام معظمهم إلى إعادة عرض لنفس الأفكار والتقنيات المعلبة القديمة.