فى حوار للكاتب عادل اسعد الميرى عام 2010 قال أن الصدق هو الارث الوحيد الذى سيتركه ، أختار البوح لايصال صدقه لاكبر عدد ممكن من القراء . الطبيب الجيتاريست المرشد السياحى هو كل هؤلاء … عندما فتح خزانة حكاياته أنفرط عقد الحكايا فى تسلسل مبهج رغم الالم المشوب بأسى فى تجربته الحياتية .
تبدأ الرواية بُمقدمة عن اسم الراوى الذى ينتهى بمسيحة وهو يُبدى أمتعاضه من أشتهاره بأسم مسيحة ويؤكد فى نهاية الفقرة ان كانت أسماء مثل محمد تقتصر على المسلمين و فلتاؤس على المسيحيين فلا حاجة لالغاء بند الديانة فى بطاقة الرقم القومى . فى أشارة لانقسام المُجتمع الى نصفيين كلاهما لا يقبل التوحد ولو عبر الاسماء ، أشارة أخرى عن العلاقة المُلتبسة بين طرفى المجتمع عندما يروى عن سائق التاكسى الذى يُخبره أن المنطقة تغيرت رائحتها للاسوأ نتيجة سكن المسيحيين بها كما تمتلأ الرواية بمواقف اخرى مثل موقف الام عند رؤيتها للمصحف بيد أبنها و أندهاشها المفاجئ ، وموقف الراوى من صيام رمضان ورغبته فى مشاركته صيامهم رغم عدم ادراكه ماهية الصيام أو الفرق بين الصيام لدى المسلمين و مثيله لدى المسيحيين .
يرصد الكاتب التغيرات المُجتمعية التى طرأت على المجتمع مثل طريقة النظر للفتيات والمرأة عموما ، مثلا يقارن بين الحال فى الستينات حينما كانت ترتدى البنات المينى جيب و الان حينما ترتدى اى فتاة ملابس عادية جدا يتم تتبعها ليس فقط بالنظرات أنما يصل الأمر للتحرش … شئ غريب و قمئ جدا !
يلتقط أيضا هذه المرة بعين طفل صغير احوال المدارس والتعليم فى وقته يعنى فى الخمسينات تقريبا ورغبة الاهالى فى ألحاق أبنائهم فى المدارس الحكومية وليست الخاصة كما هو مُتبع الان .
يُعانى الراوى من تسلط الام وخوفها المرضى عليه مع أهمال من جانب الاب بحجة أن الراوى من نصيبها و الاخ الاصغر من نصيب الوالد … قسمة عادلة ، لعل المشهد الاجمل المُعبر عن الرغبة فى التخلص من الكبت والتزمت هو ما كان يفعله الراوى حيث يُمرمغ نفسه فى الطين فى الحديقة الخلفية للمنزل بعد منتصف الليل ، فعل غريب وأن كان ينطوى على رغبة مكبوتة فى التحرر كأنه طقس نزع القيود .
يسير الحكى فى أنسيابية الى أن تأتى اللحظة الفارقة فى تاريخ الراوى وهى التحرر الكامل من السيطرة الاسرية عند سن الثالثة والعشرون بأنتقاله الى القاهرة لاستكمال دراسة الطب التى لم يختارها فى الاساس وأنما أختارها له والده لُيكمل مسار الاب الطبيب . مع مجئ الراوى للقاهرة تتغير حياته تماما ، فبجانب دراسته للطب يتجه للعمل كجيتاريست بالملاهى الليلية بشارع الهرم مما أثرى تجربته الحياتية بشكل كبير ، فأختلط بعازفى الفرق الموسيقية و مغنيات تلك الفرق وتحديدا ” لولا ” التى أفرد لها الكاتب عدة صفحات لسرد حكايته معها دون مواربة و بصدق نادر .
مر الكاتب بتجارب عديدة لكن تظل تجربته بتناول الكشرى و كوب شاى او فنجان قهوة الابرز لديه ، وذلك نظرا للتعتيم على هذه المشروبات فى منزل الاسرة . الغريب أنه لم يحاول أن يثور على تلك القيود أو حتى يعمل ما يحلو له من وراء أهله لكنه أستمر فى خنوعه مؤديا ً دوره فى النهاية كمُضحى به .
لم يخشى عادل الميرى من سرد حكاياته مع الجنس الاخر الذى تأخر فى التعرف عليه وأكتشافه ، فيكشف عن علاقاته الاولى و ما صاحبها من أهتزاز و عدم ثقة بالنفس الى أن عبرها بنجاح و تسلست علاقاته بعد ذلك دون وجل أو خوف ، نادرا ما يكشف الكتاب عن ذلك الجزء تحديدا فى حياتهم ، لكن عادل الميرى يكسر كل التابوهات برهافة و يحكى بسهولة فيتشكل للحكى جانب أخر أنسانى بالغ العذوبة .
لغة الرواية بسيطة اَسرة تجذبك بسهولة ويسر لعالم الرواية دون تقعير أو أستعراض عضلات لغوية ، مما يصعب على القارئ تركه دون أنهائه . وسيشعر القارئ أن الكاتب يوجه حكاياته له فقط دون غيره .
بجانب أن الكاتب له عُين باحث أجتماعى تلتقط التفاصيل الصغيرة للمجتمع والتغيرات التى طرأت عليه فى السنوات الاخيرة الا أنه يملك حاسة نادرة للحكى و البوح دون مواربة أو الاختفاء وراء شعارات الاخلاق أو غيرها من الشعارات الرنانة . فقط البوح و الرغبة فى كتابة ما صادفه وعاناه فى حياته . تشى الرواية بأنسان كبير القلب ، ملئ بالانسانية ثرى بالصدق الذى هو أرثه الوحيد . لكن جاءت اَخر فقرة فى الرواية موشاة برغبة دفينة فى الانتحار كما قالها صراحة وكما قالها أيضا فى حوار له من قبل أنه اذا يئس من حياته أو أصابه ملل فلن يتردد فى أنهاء حياته . السؤال هنا … لماذا ياعم عادل تنهى حياتك اذا كان هناك من يحبك وينتظر أعمالك بشغف ؟