محمد عبد النبي
في أحد المشاهد الجميلة مِن رواية أحمد كامِل جبل المجازات، نرى ولدين صغيرين يلعبان بعيدًا عن الناس في القرية، كلاهما يتيم وكلاهما قد وقع عليه الاختيار، إذ يحطّ من فوقهما فجأة شَيخٌ مجنَّح ويضمهما إليه ويرتفع بهما لتبدأ رحلتهما مع عالَم المجازات؛ أي عالَم الشيوخ الواصلين مِن أصحاب الكرامات ممن صاروا مثل مجازات أو مَسَارات مفتوحة بين عالَم المادة والحياة الدنيا على ضِفّة وعالَم الخفايا أو الخوارق على الضفة الأخرى. يتمتع الولدان بمشاهدة قريتهما مِن أعلى، يتبدَّى عالَمهما من أعلى مِثل خريطة مفرودة، خطوط مرسومة، كأنه تعويذة أو طلسم. ربما لذلك اختارَ أحمد كامل أن يزودنا بخريطة لأماكن الأحداث في نهاية روايته، ليس لتأكيد الإيهام بواقعية الأماكن وتاريخيتها، ولا لنستطيع أن نتخيل معه جغرافيًا صورةَ عالمه. بل ربما لنحظى معه بنظرة الطائر تلك، لنجرب شعور الولدين اليتيمين عندما ارتفعا في حضن الشيخ شبيه الملائكة، أو ربما لنجرب شعوره هو نفسه كروائي أرادَ أن يُطل على عالمه من نفس ذلك المنظور، يشمله ويحتويه ويضمه بين جناحيه. كانت هذه النظرة أفضل ما قدَّمه أحمد لروايته وربما هي نفسها ما انتقص بعض الشيء مِن مُنجزها النهائي.
لا يمكن ألَّا يلمس القارئ طموحَ صانع هذا العالَم الممتد والمتشعب، صانعه ومجسّده وبانيه حجرًا فوق حجرًا، سواء مِن الديكور الخارجي للقرى والتُرع والرمل والنخل والجبل أو للتكوين الداخلي لكل مِن شخصياته العديدة، وجميعها رئيسية وجميعها مركز دائرة صغيرة. طموحُ الإحاطة والاحتواء والإطلال مِن أعلى نقطة ممكنة على الصورة الشاملة والمعقدة لحكاياته وشخصياتها. طموح شِبه إلهي في السيطرة والإحكام وحَبك المصائر بالمصائر وتشبيك النفوس بالنفوس. يدفع هذا الطموح صاحبه لأن يُخلص كل الإخلاص للصَنعة، فَيقدّم أقصى ما لديه لحكايته حتَّى ترتفع وتُحلق معه، كلَّ أجنحة الحكاية مِن شخصيات غريبة وتقاطع طرق ورغبات مكبوتة ومعلنة.
يدور الرواي العليم في جنبات عالَمه لا يترك صغيرةً ولا كبيرة إلَّا أحصاها. هل أثَّر هذا سَلبًا على إيقاع روايته وسلاسة سرده؟ ربما، بالنسبة لي على الأقل، وإن بقدرٍ محدود للغاية، فالمؤكد أنَّ هذه الرواية لا تحتاج لقارئ سريع الضَجر يبحث عن متعة سهلة وحكاية حافلة بتوابل التشويق والإثارة. في جبل المجازات أنواع أخرى مِن التوابل، أنواعها أشد نُدرة وأقل توفرًا في سوق السرد الرائج، تَوابل بنكهات الأسطورة والخرافة، مثلما تنشأ في رَحم الوعي الشعبي وعلاقة البسطاء بالدين والغيبيات، والإيمان بالسِحْر بكل أشكاله المتوهمة والمستحيلة، إذ يصير لعابُ امرأة ترياقًا من لعنة تحل على رجال القرية تجعلهم يتبادلون الأماكن مع البهائم، وهذا نموذج واحد صغير لما يحفل به عالَم جبل المجازات، ذلك العالَم الذي قد يكون من المستحيل تلخيصه أو لملمة أطرافه.
يستمد أحمد كامل كل عناصر العجائبي والمفارق مِن تربة مصرية خالصة، لا شيء مستورَد هنا لا مِن آسيا ولا مِن أمريكا اللاتينية، حتَّى الشيوخ المجنحين قابلين للتصديق ليس بمنطق ريميديوس جميلة ماركيز التي طارت معَ الملاءات مِن فوق سطح مئة عام من العزلة، لكن بمنطق مفردات التصوف الشعبي والحكايات المتداولة عن الأقطاب والمجاذيب وأصحاب الكرامات. والروائي في هذا كله يبدو كأنه واقفٌ على بحر ولا يشبع مِن الاغتراف منه، ولا يتردد عن تحويل ما تحت يديه مِن لُقَى وكنوز إلى سَرد بالمعنى الحديث للكلمة وشخصيات ثرية معقدة وليس مجرد أنماط جاهزة في حواديت مسطحَّة أحادية الدلالة. بل قد يكون قد أفرطَ في هذا أيضًا، إلى حدٍ ما، مِن نفس مُنطلق الطموحات الكبرى التي أخذت تدفع العمل للأمام وللأعلى، ثُمَّ للأعلى وللأمام، مِن غير كبير اعتبار بقدرات القارئ على التركيز والتتبُّع وتشبيك الخطوط معًا، فهذه رواية تحتاجُ قارئًا يقف نِدًا لها، مستعدًا لبذل قَدرٍ مِن الجُهد في قراءتها قد لا يقل كثيرًا عن جهد كتابتها.
الواقع الذي تتناوله جبل المجازات مجرد صورة لقرى مصرية في لحظةٍ ما مِن التاريخ، لا يهم كثيرًا – في رأيي – تحديداتها الجغرافية والتاريخية، بل ما تتيحه هذه الصورة للروائي للّعب بأوراقه، ومزج مُركَّباته السِحرية معًا لتوليد هذا الإكسير الخاص المتطاير المتعالي على الزمن والمكان كأنه تعويذة للخَلق أو حِجاب لإبطال الأعمال وَدَرء العين وجلب الحبيب.
ورغمَ عَدم أهمية الموقع المحدد للمكان والزمان في هذا العَمَل، فإنَّ ثمة إشارات تاريخية، طفيفة للغاية، توحي بلحظةٍ ما مِن تاريخ مصر، هذا عدا وجود قرى مصرية محددة تحمل أسماء ومواقع القرى الواردة في الرواية، إلى جانب عناصر أخرى للإيهام بالواقع ووصف دقيق لبعض الأشغال والأنشطة اليدوية والممارسات، وحرص بالغ يكاد يشارف الهَوَس برسم المناظِر وتحديد الاتجاهات والمسافات بالقَدم والأمتار. لماذا؟ كأنَّ الصورة الواحدة في حقيقة الأمر صورتان متداخلتان، صورة لواقع سهل التعرف عليه وأخرى لوجودٍ مفارق يعانقه ويمتزج به، تظهر إحداهما وتختفي الأخرى في تبادل مدوّخ للأدوار بينهما. كأنَّ جميع عناصر الواقع الصلبة تلك تنطوي فيما بينها على شقوق وجيوب تحفل بالخفايا والدهاليز السحرية والأرواح والأسرار العلوية. عين الروائي المطلع من الأعلى فقط تستطيع أن ترى الصورتين معًا، لكنَّ القارئ فإمَّا أن يرى هذه وإمَّا أن يرى تلك، على سطر واحد أو في فقرة واحدة. لم تَخلص الرواية تمامًا لإحدى الصورتين، الصورة المفارقة للواقع حاضرة ومهيمنة لكنها لا يمكنها أن تنتزع نفسها من براثن وثقل وقيود المنطق والعقل. ربما يعكس هذا مِن جديد طموح جامح، يسعى لأن يضم بين جناحيه كل شيء، العالَم بوجهيه، أو بوجوهه المتكاثرة.
جانبٌ آخر تجلَّى فيه هذا الطموح الفني الجامح هو اللغة، المبالَغة في الاعتناء بها وصقلها والاختيار الدقيق لمفرداتها وتركيب صورها بحرص وأناقة وحرفة واضحة، ما يجعلها تستحق الفُرجة، بالمعنيين السلبي والإيجابي، من ناحية لجمالها وجلالها في مواضع كثيرة، ومن ناحية لغموضها وانغلاقها على نفسها في مواضع أخرى. لم تأتِ اللغة في أغلب أجزاء الرواية وعاءً شفَّافًا، يعكس العالَم والشخصيات والحكاية بقدر ما يلفت الانتباه إلى نفسه وإلى ما يكتنف سطحه من نقوش وألوان وتهاويل. ولعلَّ هذا ما أفقد السرد روحَ العفوية في بعض اللحظات، وأنتجَ لغة حافلة بالصور البلاغية امتدت سطورًا في بعض الأحيان، ما أثقل كاهل السَرد أحيانًا فمنعه مِن الانطلاق خفيفًا نشيطًا بنفس قدر انطلاق الحكايات وعنفوانها.
لحُسن الحظ، لم تتجاوز طموحات الكاتب هُنا حدود قدراته كما قد يحدث في تجارب أخرى بدائية، فقد كان مدركًا لطبيعة اختياراته وكفُؤًا لها وقادرًا عليها، ولغة أحمد كامل المركَّبة ذات الزخارف والالتفافات ليست شيئًا جديدًا عليه، فقد وسمت روايته الأولى العهد القديم، ولعلَّ تلك اللغة مِن بين ما تبقى له مِن تجاربه الشِعرية المُبكّرة قبل أن يفرغ للسرد. وإن كانت العهد القديم تنطلق من صوت واحد، وشخصية رئيسية، تتجلَّى هلاوسها وعفاريتها مِن حولها وترى استحواذاتها واستيهاماتها في كل شئ وكل شخص، فعلى النقيض هُنا لا توجد شخصية رئيسية في جبل المجازات، ولا حكاية إطار، بقدر ما يتوزَّع الضوء على الخطوط والشخصيات بالتساوي، رغم وجود بعض الحكايات القادرة على تشييد رواية كاملة حولها، فكأنَّ الكاتب في حالة غزارة ووفرة، يسعى جاهدًا لأن يجمع بين غلافين اثنين مادةً تفيض عليهما وتكاد تطالب بحياة مستقلة لها في كيانات كتابية أخرى، خاصة وأن بعض الحكايات أتت مثل جُزر معزولة وسط بحر الرواية، ولم تمتد بينها وبين بقية الحكايات جسور نَسبٍ متينة.
رغم ذلك كله فقد حرص كامل على نسج شبكة ممتدة الأطراف محكمة التفاصيل، ليس من السهل الهرب منها بعد تجاوز العَتبة الأولى للحكايات مع مشهد حجافل النخل المتحركة وتدميرها للقرية وقتلها لكل كائن حي فيها مِن بشر وطير ودواب. وما هي إلا صفحات قليلة بعد ذلك حتَّى يغرق القارئ في الرمال الناعمة للحكايات المتشابكة ولا يريد أن يخرج منها. يخوض رحلة طويلة مرهقة ثم يرجع منها وهو أثرى وأصفى، ولا أظنه بعد انقضاء هذا الرحلة سيرجع كما كان مِن قبلها، فلن يبقى سَطح هذا العالَم المحيط به مُصمَتًا ومطمئنًا كما العهد به، فكأنَّ مَسامًا غير مرئية فيه تحتوي شفرات سرية وبوابات لعوالَم موازية وسحرية، أو على أقل تقدير فعندما يرى نخلة فلن يشعر بأنها مجرد نوع من الشجر يطرح تمرًا، بل قد يرى فيها العمَّة التي خُلقَت من نفس طين آدم، الأنثى التي ضاجعها فوزي في الرواية، وأيضًا جنودًا منتظِرين متأهبين، فَكما كل عنصر آخر في جبل المجازات، قد يكون النخل وَعدًا أو وَعيدًا.