كلمات يونس الأخيرة .. الفرد في مواجهة المجتمع
خالد عبد العزيز
التمرد والمواجهة هما المرادفان الأهم اللذان يطرحهما الروائي " يوسف نبيل " في روايته " كلمات يونس الأخيرة " والتي صدرت مؤخراً عن دار روافد للنشر والتوزيع. ويوضع هذين التعبيرين بوصفهما تعبيرًا إشكالياً، يحمل بين طياته الكثير من التساؤلات والمعاني التي حاول يوسف قدر الإمكان تضمينهما بين سطور نصه الزِخم والذي يحوي العديد من الأفكار، وبالتالي يدفع القارئ للتأمل برفقة شخصيات الرواية، تلك الشخصيات التي اتخذت من الفكر سلاحًا أوليًا للمواجهة.
يطرح النص من وجهة نظر كاتبه أن هذا المجتمع أصبح فاسداً لدرجة أنه أصبح من المستحيل التعايش معه بأي وسيلة ممكنة، مجتمع بلغ به العفن والسوس الذي ينخر فيه حداً لم تصل إليه أى من المجتمعات السابقة ولا اللاحقة، لذا نجد أن " يونس " البطل الرئيسي للرواية يجنح نحو العزلة، والعزلة هنا مدلولها شديد التركيب والتعقيد، ليست بمعنى أن ينعزل الفرد وينأى بنفسه بعيداً، لكنه ينأى ويبعد عن المجتمع فكرياً أولاً، يرتقي بنفسه من الناحية الثقافية التي تؤهله بعد ذلك للعزلة الكاملة التي ينشدها. لكن هذا الابتعاد بوصفه خياراً حتمياً لأبطال الرواية لا يتم هكذا بين يوم وليلة، لكنه يتم على مراحل عدة، كل مرحلة منها يستغرق الإعداد لها وقتاً كبيرًا، حتى تكتمل دائرة العزلة المغلفة بمسحة مكثفة من التمرد. فهل ستنجح الشخصيات في هدفها؟
تبدأ الرواية بمشهد تلقي الناقد ورئيس أحدى الجامعات الدكتور جلال لمكالمة هاتفية من رفيقته هدى تُخبره أنها تنتظره في الشقة، فيذهب إليها، ويكتشف أنها مُقيدة بالحبال وأن شيئاً غريباً يحدث، ليظهر له شابين ملثمين، ويُجبراه على قراءة مسودة رواية بين ايديهما، ونادراً ما يلتقي الكاتب والقارئ أثناء القراءة والتلقي. ففعل القراءة شديد الخوصية والفردانية، فيه يبدو الكاتب وكأنه ساحر ما يؤدي لعبته لكنه يؤديها منفردا، أما صيحات الاستحسان فقد تأتي له بعد ذلك وقد لا تأتي، وإن أتت فإنها دوماً تأتي بهدوء وبدون صخب. هنا نجد هذه العلاقة المُتشابكة بين القارئ والكاتب تبدو مختلفة تماماً، الكاتب مرافق للقارئ حتى ينتهي من قراءة نصه وتقييمه، على عكس المُعتاد من بُعد هذا الطرف عن ذاك. " لا تخف ... نحتاجك هنا ليوم واحد فقط ... أنت وشريكتك، ولن تشعر بالملل .. ستوجب عليك أن تقرأ رواية كاملة الآن، وأن تبذل كل ما تستطيعه في إبداء رأيك بأمانة .. أثق في حسك النقدي ، وهو تقريباً الشيء الوحيد الذي يُمكن الوثوق فيه بشأنك ".
تنقسم الرواية إلى ثلاثة أجزاء، بدا الجزء الأول منها وكأنه مدخل لعالم الرواية، "يونس" الذي يعمل مصوراً فوتغرافياً للأفراح، يقع في ورطة بعد سقوط الكاميرا في النيل واحتوائها على صور حفل زفاف ابن أحد رجال الأعمال، كل هذا جيد للغاية، لكن الغريب هو تصرف والد العريس حيال هذا الأمر، وهو إعادة حفل الزفاف مرة آخرى ! لماذا ؟ ليس من أجل سعادة أبنه، ولكن لأن المصلحة تقتضي هذا، فزفاف مثل هذا لعائلتين اقتصاديتين لابد وأن يؤرخ فوتغرافياً، لكن الأهم هو موقف "يونس" الذي يواجه ذلك العته، بحيلة ما في الصور، بعد أن يعبث فيها ويجعل أبطال هذه الصور وكأنهم أشبه بالشخصيات الكرتونية. وبالتحليل لفعل " يونس " سنجد أن هذا الفعل الذي يبدو عبثي ومُستهتر في ظاهره، ألا أنه في باطنه يحوي شرارة ثورة، لن تأخذ وقتاً طويلاً ألا وتندلع. وكأن " يونس " بسقوط الكاميرا منه وذلك الحادث العفوي الذي تعرض له، قد ولج باباً من الإلهام والوحي، سيقوداه ويتحكما في تصرفاته بعد ذلك. كما أن الطبقية تنضح في هذا الجزء من الرواية فإذا كان يونس مرادفاً للطبقة الوسطى التي تقع على الحافة الآن، وفي طريقها للاندثار، في مقابل طبقة الأثرياء الجدد المُتمثلة في والد العريس، ما فعله " يونس " هو الخطوة الاولى في طريق محفوف بالمخاطر، لكي يبقى شعاره الدائم هو " المواجهة ".
تبدو الرؤية أوضح في الجزء الثاني، ملامح العزلة، أو المجتمع الموازي تبدأ في التشكل والنمو، يلتقي "يونس " بصديقيه "يوحنا " و"حازم مهران "، كل منهما يُمثل جزء من حلقة العزلة والمواجهة، التي ستتضح معالمها بشكل نهائي في الجزء الثالث، والأهم أن هذا الجزء يعتمد على مبدأ تعدد الرواه، فكل منهما يتعرف عليه القارئ، من خلال حكيه الشخصي، الذي يُتيح المزيد من التأمل ليس في مصير الأبطال فحسب، بل في المجتمع ككل، فهنا رغم أن الرؤية المجتمعية سوداوية للغاية، ألا أنها تعطي بانوراما كاملة لسلبيات المجتمع. وتطرق موضوعات شائكة، رغم أن الأقتراب منها غير مأمون تماماً. ولعل من اهم المناطق التي يطرقها السرد رغم حساسيتها، هي التدين في المجتمع، وكيف أنه في جزء كبير منه تدين زائف، ليس حقيقياً، سواء على الجانب الإسلامي أو المسيحي. "أنهينا الصلاة، حين لاحظ الجمع القليل اختفاء أغراضهم، وبشكل دراماتيكي علم الجميع سبب إطالة الشيخ للسجود، روادتهم الشكوك في البداية حول سبب كل تلك الإطالة، أخشوع لم يكن معتاداً ؟ أم أزمة جسدية حلت بالشيخ ؟ لم ينكشف الأمر إلا حينما أمسك أحدهم ذلك اللص يخرج من الزاوية، وبعد ضربه وتسليمه لنقطة الشرطة القريبة والتي تصادف معرفة أحد المصلين بمأمورها، اعترف اللص بعلاقته بالشيخ، وأن الشيخ كان يطيل السجود ليعطيه فرصة لسرقة أغراض المصليم، حقائب أو أحذية أو أي شئ ثمين".
حاول يوسف أن يُفكك علاقة الفرد داخل المجتمع بالدين، هل هي علاقة حقيقية أم علاقة تعتمد في جزء كبير منها على المظاهر ؟ ليس هذا فقط بل رؤية الآخر، وكيف نجده ؟ طرفي المجتمع كل منهما يبدو منغلق على نفسه، فالمعلومات المتوفرة لدى المسيحين عن الإسلام تبدو شديدة السطحية وبالتالي نفس الشيء لدى المسلمين عن المسيحين، بل لن نتنجنى أن قولنا أن الطرفين يبدو في كثير من نظرتهم للطرف الآخر وكأنها نظرة إزدراء، بعيداً عن محاولة فهم الآخر بشكل سليم. "يمكنكما بالطبع توقع المزيد من الأحداث، فمع إتيان عيد الميلاد المجيد قرأت رسالة إلكترونية يبعثها مدير الشركة لكافة الموظفين تهنئة بالعيد، ومرفق بها موقع يرشحه الرجل للقراءة والإطلاع. شاهدت الموقع فإذا هو مخصص للهجوم على الإسلام، لم أفهم في البداية علاقة هذا بتهنئة العيد ثم انهمكت في قراءة الهجوم. كالعادة يدور حول العنف والفتوحات وما يخص زيجات الرسول. نفس الأفكار لا جديد. قمت بالرد وارسال رسالة إلكترونية للرجل أخبره أن أغلب الأمور المكتوبة للهجوم على الإسلام في هذا الموقع هي ما نقدسه تماماً في العهد القديم، ولا يجرؤ أحد منا على نقده. هذا العنف يتجلي بقوة في سفر يشوع وبعض الأسفار الأخرى بالإضافة للزيجات التي لا تعد للأنبياء مثل داود وسليمان .. إلخ. استقبلت بعد الرسالة تليفوناً فورياً منه يخبرني أنه كان يشك منذ فترة طويلة بأني لست مسيحياً، ويسألني مرة آخرى عن حقيقة إيماني". بل تمتد تلك الرؤية النقدية إلى ما هو أعمق، من خلال نقد السلطة الدينية، وبيان مدى الإهتراء التي وصلت له، سلطة زائفة لا تتورع عن اقتراف الأخطاء من أجل مصلحتها، التي غالباً ما تتعارض مع مصلحة الفرد.
إستكمالاً لرؤية الشخصيات في الجزء الثاني من الرواية بشأن فساد المجتمع مما يستتبع إنشاء مجتمع موازٍ مواجه للمجتمع الطبيعي، نجد ان الرؤية تتبلور بشكل أوقع في الجزء الثالث والأخير، فرغم أن الفكرة تبدو جيدة على الورق ألا انها واقعياً يستحيل تطبيقها، وتبدو هنا الشخصيات حالمة بشدة، وكأنها بأحلامها هذه تواجه وتتمرد على الوضع القائم، وليس المقصود هنا الوضع السياسي العام، بل التمرد على النظام العالمي عموماً، ذلك النظام الإستهلاكي، الذي لا يعبأ سوى بالسيطرة على الإنسان، بحجة تغطية إحتياجاته التي لن تنتهي بأي حال.
قضية آخرى يطرحها النص، وهي التأريخ ومن المسئول عن كتابة التاريخ، المعروف أن المنتصر هو من يكتب التاريخ، فبذلك يُصبح لدينا رؤية واحدة فقط للحدث، وبالتالي تحريف الصورة. " يونس " نجده في نهاية الرواية مُتفهماً لهذه الإشكالية بشكل كامل، فكلمات يونس الأخيرة ما هي ألا ما محاولة لتدوين الاحداث التي ستسبق الإنتفاضة التي ينوون القيام بها، وبذلك يكون قد سبق أي محاولة لتشويه الحدث بعد وقوعه. " أيها الأحمق. ما الهدف من كل هذا ؟ أردنا توثيق الأمر .. لن نسمح بتزييف التاريخ مرة آخرى .. في غضون دقائق سيبدأ الجميع في الاحتفاظ بنسخ إلكترونية من رواية وثقت كل ما حدث .. حتى إن فشل الأمر سنكون قد وثقناه ".
رغم كل الأفكار التي حاول النص أن يُثيرها إلا أنها قد تكون هي أيضاً سبب في الشعور بثقل النص، بمعنى أن النص الجانب المعرفي فيه أكبر من الجانب القصصي، وهذا رجح كفة الفكر مُقابل السرد. صحيح أن الرواية الحديثة تستوعب كل هذا، مثل روايات صنع الله إبراهيم ( ذات – اللجنة – شرف ). إلا أن كل هذه الروايات كان يتم التوثيق في إطار الحكي، هنا الوضع مختلف بعض الشيء، الجانب التوثيقي والفكري لم يكونا على نفس وتيرة السرد، فجاءت الأفكار التي والرؤى الفلسفية المطروحة مباشرة للغاية، مما أرهق القارئ بتفاصيل قد لا تُثير اهتمامه على حساب الحكي. وهذا أيضاً ما يُخبره الناقد الدكتور جلال في الرواية " قطع جلال القراءة قائلاً : لا تستطيع التخلي عن كونك مفكراً .. أنت تكتب رواية وليست عملاً فكرياً.
ـإنه جزء توثيقي مهم.
ـ لا اعتراض على ذلك، ولكنك تجاوزت الأمر كثيراً ولا بد أن كثيراً من القراء سيشعرون بالملل. كان عليك توظيف ذلك في قلب الرواية .. ألم يكن ممكناً مثلاً أن يكتشفوا بعض هذه القواعد من خلال مواقف عملية ؟
ـ من الممكن، ولكن ما المشكلة في أن تحوي الرواية أجزاء توثيقية ؟ لدينا نماذج كثيرة عن هذا في الرواية المصرية أو الأجنبية على السواء.
ـ يمكنك فعل ما تريد ولكن كيف تقدم ذلك ؟ هذا هو المهم "
هكذا يبدو الناقد وكأنه يُفكر مثلما يُفكر القارئ، لكن يبقى السؤال: طالما أن الناقد أباح برأيه في متن النص، وبالتأكيد أن الكاتب يُدركه جيداً، لماذا لم يُحاول " يوسف نبيل " أن يتلافى هذه الثغرة ؟
" كلمات يونس الأخيرة " الرواية الرابعة في مسيرة يوسف نبيل الروائية، وبعد تجربتي كتابة مُشتركة مع الروائية زينب محمد في رواية " في مقام العشق " ورواية " العالم على جسدي ". حاول فيها تقديم رؤيته للمجتمع الإستهلاكي وكيفية مواجهته، سواء اتفقنا أو اختلفنا مع هذه الرؤية، لكنها تظل نصاً يحمل العديد من التساؤلات عن موضوعات شائكة، قد تعوزنا الشجاعة لطرحها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قاص مصري