كرسي فيفي

ياسمين الغمري
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

ياسمين الغمري

ببطء ثقيل، يصل عقرب الساعة الكبير إلى المنتصف من أعلى، ويستقر مَنْ هو أقصر منه على رقم سبعة «٧»، تنظر الست مديحة من مقعدها الوثير إلى الحائط المقابل لها، ترى عيناها أن الوقت الآن السابعة مساءً، تنظر طويلًا إلى الرقمين «٧»، «١٢»، تترك الدموع تنساب على وجنتيها، ثم تأخذ دموعها وتذهب إلى غرفة التليفزيون، تقف أمام مكتبة بنية اللون مصنوعة من أشجار البلوط، تمد يدها لتلتقط أوراق اللعب “الكوتشينه” تحكم قبضة يدها المرتعشة عليها، تجر قدمها جرًا نحو البلكونة، البلكونة صغيرة المساحة تبعد عن ضوضاء الدنيا بحوالي عشرة أمتار، مستطيلة الشكل، طولها أكبر من عرضها مثل عمر الست مديحة الذي انتزع من عمر الأرض سبعين عامًا، تقول إن أجمل ما في حياتها هم الثلاثة أولاد الذين أنجبتهم وتسميهم “كنز أيامي”.

كان الكرسي الأخضر المصنوع من أعواد الخيزران في انتظارها، آمرًا الشَلتة التي تجلس بين ذراعيه أن تظل دافئة رغم برودة يناير، لتبقى عظام الست مديحة في مأمن بعيدًا عن قسوة الشتاء، أما الطاولة النحاسية فقد نفضت الغبار والأتربة عن نفسها من عاصفة أمس، مقدمة حالها للست مديحة في أبهى صورة لتفرد عليها أوراق اللعب كما يحلو لها.

يظل الكرسي الأبيض المقابل لكرسي الست مديحة دون ساكن لا أحد يجلس عليه، كانت تسميه “كرسي فيفي”. تبدأ المرأة السبعينية ذات الجسم الممتلئ برص أوراق الكوتشينه على الطاولة، تعطي لنفسها أربعة أوراق مجهولة الملامح، وتعطي للأرض أربع أوراق مكشوفة للعين، وتعطي لكرسي فيفي أربعة أوراق مجهولة الملامح. ترفع أوراقها وتديرهم إلى عينيها فترى ما جاد به الحظ عليها، تفكر كيف تحقق أكبر قدر من المكسب؟ ثم تنزل بورقة اللعب وتنتزع بها مكسبًا من ورق الأرض ثم يأتي الدور على كرسي فيفي وتقوم هي بسحب ورقة مجهولة الملامح من أمامه، وتلعب له دوره. ويظلان هكذا هي والأرض وكرسي فيفي حتى ينتهي دور الكوتشينه، أحيانًا تكسب هي وأحيانًا تكسب الأرض وأحيانًا يكسب كرسي فيفي.

ذات مساء كسب كرسي فيفي ثلاث مرات متتالية، ضحكت الست مديحة ضحكتها الرنانة من القلب.

“طول عمرك شاطرة يا فيفي في الكوتشينه”.

يرن جرس الباب، فينقطع الحديث بينهم.

 “عذرًا يا فيفي.. سأذهب لأفتح الباب”.

تفتح الست مديحة الباب فتجد طفلًا صغيرًا في العاشرة من عمره،

ـ “مساء الخير.. هذا شال الحاجة فيفي كانت قد أرسلته للمغسلة للتنظيف. طرقت الباب كثيرًا ولم يجب أحد، استأذنك تسلميه مني وعندما تأتي أعطيه لها”.

أخذت الست مديحة الشال ووقعت على الاستلام. أغلقت الباب خلف الصبي الصغير، جلست على الكنبة الملاصقة للباب وأخرجت الشال من الكيس البلاستيكي المحفوظ داخله، صارت قشعريرة في جسمها مع لمسها خيوط الشال المضفور، لم تكن فيفي مجرد جارة طيبة العشرة فقط بل كانت صديقة عمر، كانت مخبأ سريا للست مديحة، كانت الأُنس والسكينة بالنسبة لها، انتقلت فيفي من عالم الأحياء لعالم الأموات منذ ثلاثة أيام فقط.

أغلقت الست مديحة عينها وبكت، بكت كثيرًا ربما ساعة متواصلة ثم استنهضت نفسها والشال في يديها وذهبت إلى البلكونة ووضعت ما تبقى من فيفي على الكرسي الأبيض، كرسي فيفي، لتلعب معه المرة القادمة دور الكوتشينه المنتظر في تمام الساعة السابعة مساء من كل يوم.

 

مقالات من نفس القسم

تراب الحكايات
موقع الكتابة

خلخال