لم تكن كحل وحبهان فاكهة غدارة ، لم يبع لنا عمر طاهر بضاعة فاسدة بل اصطحبنا فى جولة ساحرة من المتعة فى صفحات قليلة سرقنا معه خلالها الكثير من السعادة، عبر بنا “طاهر” الى بعد ثالث اكتشفه من الحياة، يفتح باباً جديداً من وصف التفاصيل التى تنبض بالحياة، فى سرد لا يخلو من جاذبية وبساطة يعبر عن حالات كلنا تعايشنا معها الا انه استطاع ببراعة ان يضع لها إطارًا خاصًا غال الثمن مليء بالتفاصيل التى لم نكن ندركها أبدا لولا سطوره.
ربما لن يحب كثيرون الوجبة التى قدمها لنا “طاهر” رغم أنها وجبة شهية، إلا أن بطون البعض منا اعتادت على هضم الحكايات التى “تبدو” دسمة أكثر من ذلك ، الرواية بالنسبة لهم هى مزيج كبير من الحكايات التى يضطرب إيقاعها بالحدث، الحدث الذى يجعلك فى حالة من التوتر والقلق حتى تصل إلى نهاية الصفحات، الرواية التى تتمثل لديهم فى هيئة “فزورة” يحاولون حلها كالكلمات المتقاطعة، فسدت شهيتهم بروايات جاءت كوجبات “السناكس” تسمن من غير جوع، توهمك بأن معدتك ممتلئة، تمنحك شعورًا زائفًا بالشبع بينما هى وجبة خفيفة مخادعة تفرغ من هضمها فى ساعة على الاكثر كاللب والسودانى ثم ما تلبث أن تجوع ثانية. أما “كُحل وحبهان” فهي كأكلة سمك فى ابوقير على رمل الاسكندرية لا تنساها ابدا، تضعك فى حالة من السعادة لا تستطيع نسيانها، تثبت لحظاتك الحميمية فى جمل بديعة من الوصف لا تلبث ان تذكرها ثم تعود لها مرات ومرات.
-يدعو”سيسيكو” “صافية” على مائدته ، السعادة هى مجرد سرقة من الحياة اؤمن بذلك يا “طاهر” لذلك لن انزعج من الدعوة كما انزعجت “صافية”، سسيكو يريد ان يوصل رسالته الى “صافية” من خلال أكلة شهية ، اسرح انا مع الخيال بتخيل المائدة التى قد تُعد لى وأنا فى شقته، بغض النظر عن الطعام والرسائل فعل الأكل هو الأكثر حميمية بين اثنين فى بداية علاقتهما، ان أكلت معك فذلك يعنى تماماً انك دخلت دائرة الارتياح الخاصة بي، يعرف “عمر طاهر” ذلك، يدرك أهمية ان يرتاح كلانا فى الأكل معاً وان ذلك قطعاً يعني اننا فى طريق النجاح، تذكرت ان الأكلة الوحيدة التى فكرت فيها كى أقدمها لمن أحب هى “المحشي”
يقول “طاهر”: “يقدم المحشي للواحد مشاعر تشبه مشاعر العودة الى بيته وحضن أهله بعد سفر، ابتسامة عودة المياه الى مجاريها مع شخص تحبه فرق بينكما سوء تفاهم، أكلة تهون كثيرا على شخص طيب بداخلك تهرسه الوقائع والايام”
أحببت تلك الرسالة جدا التى لم كن اعرفها بالطبع قبل اليوم ، وأظن أن “كحل وحبهان” ستكون بمثابة كتالوج الطعام للمحبين ورسول للعشاق كما “الورد” فى أغنية اسمهان، سيكون للطعام مذاق خاص ودور أساسي فى نجاح كل علاقة ، كم تحب المرأة ان يطبخ لها ” وكم يحب الرجل أن يُدلل من امراته بالطعام ، غير ان اختلفتُ مع البطل فى ان المحشي يقدم رسائل تمتلئ بالاخوة ، صحيح انه لابد ان يقدم فى مرحلة متأخرة من العلاقة لكن وجوده يؤكد على التزام كل منهما بالاخر.
فى اللقاء الأخير لعمر طاهر مع إبراهيم عيسى ، تحدث “عمر طاهر” عن خذلان الوسط الثقافي له، ونحن الآن نقول إنك لم تخذلنا أبدًا ف هذه الرواية البديعة ، هى رواية “صافية” بالفعل من أي شوائب أو زيادات، كتبت فأحسنت وابدعت يا “طاهر” رفضت أن تخذلنا نحن معشر القراء والكُتاب الذين خذلهم أيضا الوسط الثقافي، خذلهم أحبائهم وأصدقائهم رفضتأان تخذلنا فقدمت لنا صورة من الواقع بها مسحة من الشجن لكنها تبدو حقيقية جدا، كتبت فأحسنت وابدعت واسعدتنا جميعاً مع البطل الصغير وقد بلغ حلمه أخيراً بحضور حفل “محمد منير” رغم آلامه العميقة من ضرب أبيه وخذلان العالم له ، اسعدتنا جميعاً بتفاصيل حياة طبيعية تماماً ليست من خلقك انت بل هى حياة تمنيناها قد نكون عرفناها كلنا الا اننا بسردك الرائع اكتشفنا كم هى حياة جميلة، كتبت فأحسنت وابدعت وقد تكون أخطأت في إيجازك لهذه الوجبة اللذيذة “خوفاً منك” من التجربة فاختصرت “عن غير قصد” سعادة أخرى بسرد بديع فى صفحات اضافية وحالات اخرى، كتبت فأحسنت وابدعت وفتحت شهيتنا جميعاً وحن فى انتظار وجبة أخرى من صنع قلمك إلا أن البعض صدقني قد فسدت شهيتهم لفرط ما هضمت بطونهم من أطعمة فاسدة وفاكهة غدارة مثل اختياراتنا واختياراتهم العاطفية، وأنت تعرف جيداً ان سوء الاختيار لا شئ يضمن عدم تكراره!