محمد الفخرانى
هناك نصوص ملعونة.
كتابة تشعر أنها تتعارك مع نفسها وسط الشارع، غاضبة، تشتم الجميع، وتشتم نفسها، تمزق ملابسها أمام المارة، تخمش جسدها حتى يسيل دمها فترشُّه على وجهك.
هى أفضل من أن توصف بأنها عظيمة، أبعد من أن تُسجَن داخل تصنيفات، كتابة مثيرة للحماسة والجموح الفنى والإنسانى.
لا تريد لنفسها أن توصف بشىء ما، أو توضع فى رفّ مع غيرها، حتى لو كان رفًّا لما يسمى بالكتابة العظيمة، هذه الكتابة الملعونة لن تحتمل تلك الرتابة، ليس لها نمط، لا يمكن محاصرتها، أو خداعها بأوصاف براقة، هى لا تحب التصنيفات التقليدية، مثل: عظيمة، رائعة، فاتنة، قوية، فقط هى كتابة ملعونة، المطرودة من التصنيف، أو هى التى طَردَت التصنيفات بعيدًا عنها، تُصيب مَنْ يتعامل معها بالقلق، تضرب روحه، لا تعرف الرحمة والطبطبة والنهنهنة، لا تخضع لنظريات كتابية أو قرائية أو نقدية، لا تخضع لمزاج أحد، أو تصورات أحد، تتصرف بمزاجها الشخصى الذى لن يعرفه أحد أبدًا.. إنه مزاج اللعنة.
هى مجنونةَ الحى، وجميلته، فى الوقت نفسه تدرك جنونها وجمالها، لكنها لا تبالى بهما، ولا بأىّ شىء.
لها روح متمردة، مشتعلة، تشعل النيران فى نفسها وسط الشارع، لكنها تظل حية، لا تحترق، فقط تتوهج، تتحدى، كتابة تأكل النار وتنفثها على الجميع.
تشقُّك نصفين قبل أن تعرف ماذا حدث لك، فقط يمكنك أن تنظر إلى جسدك وتراه وهو ينشطر إلى نصفين نظيفين بلا نقطة دم واحدة، كأنها شقَّتكَ بشعاع من نور، أو بخيط رفيع غير مرئى، كتابة تشقُّ روحك، تعضُّها، تقرُصها، توجعها، تترك فى روحك كدمات زرقاء وحمراء، جروحًا وخرابيش، كأنما مرَّ فوقك قطار من سكاكين.
الكتابة الملعونة واحدة من الكتابات المُفضَّلة لى، تضرب كل القواعد، غير متوقعة، لا تعرف ما ستقوله الجملة التالية، مَنْ سيظهر فى اللقطة التالية، ومن سيختفى، ماذا سيحدث، أو لن يحدث.
تشعر أن النص الواحد منها كُتِبَ دفعة واحدة، فى احتراق واحد متصل، شهقة واحدة، نوبة لعنة واحدة، كتابة لا تفكر فى شىء غير أن تحترق لآخر نفس، أن تفنى لأجل ما تفعله.. روحها حمراء.
يمكنها أن تصيب الجنون بالجنون، تمشى على الجمر فيصرخ من سخونتها، طلقات من اللهب، تصل بكل شعور إلى طاقته القصوى، وتستعمل الطاقة الكاملة لكل كلمة، وكل حدث عند نهايته العظمى، أسلوبها مزاجى، متلوِّن، غير مستقر، ومن جديد غير متوقع.
كتابة الطعن فى الأماكن الحساسة، والقبض عليها بيد من حديد، تطعنها وتقبض عليها وتقهقه، بينما تتألم أنت وتكاد تفقد روحك، لن يهمها هذا، ورغم أنها لن تقتلك، لكنها ستعلقك بسكاكينها داخل ذلك الألم الرهيب، ستمضغ عقلك، تنهشك تمامًا، وتسمع وقْع خطواتها العنيفة داخل دمك.
ليست مهتمة بأحد أو شىء، جاءت لتطعن، لكنها لا تقتل، جاءت لتشعل الحرائق، جاءت بالطوفان والزلزلة، جاءت لتجرف أمامها البيوت الآمنة، والمقاعد الوثيرة، والأسرَّة المرتاحة، جاءت لتمزق جلد العالم، وجلدك، تُطوِّح سكاكينها فى كل اتجاه، ستجرح وتجرح، لن يَسلَم أحد من سكاكينها، أظافرها، أسنانها، ولسانها.
ليست مهتمة بأن يحبها أحد أو يكرهها، لكنك لن تنساها، ستترك فيك تلك العلامات، تترك فيك لعنتها.. تلك اللعنة التى ستحبها أنت.
هى لن تبالى أن توصف أنها بذيئة، منحطة، لا يعنيها أيًا مما يقال عنها، خير أو شر، فليذهب الجميع إلى اللعنة، لعنتها.
ربما تلعنها، لكنك لا تستطيع أن تتركها من يدك، أو تبعدها عنك، ولو حاولت، ستطاردك فى الشوارع، داخل وجدانك، وعظامك، تطفو على ماء ذاكرتك مثل سفينة هائجة غير قابلة للغرق، تغوص فيك مثل سمكة وحشية غير قابلة للصيد، وتظل تضرب قلبك، وتنهش روحك، كتابة لا تُحرك فيك حُبًا لها قدْر ما تُحرك شهوة ولذَّة ووجعًا وتوهجًا لم تُجرِّبهم من قبل، لذا ربما تخشاها، إنها كتابة تُشكِّل فى روحك غرائز جديدة، وتُنبت فى جسدك حواسَّا إضافية.
كتابة لها روح مُعذَّبة، طائشة، حيرانة، جسد يغلى، وقلب تتغذَّى منه الوحوش ويتغذَّى هو منها، لها عقل أبعد من العقل والجنون.
وهى.. كتابة إنسانية جدًا.
جاءت لتنزف دمها كله، ماذا تريد أنت أكثر من هذا؟ جاءت لتمزق روحها، ماذا تريد منها أكثر؟ غير أنها تفعل هذا لأجل نفسها، لن تحيا إلا بهذا، هذه متعتها الوحيدة، وحياتها.