أحمد عطا الله
1
كانت لنا نخلة، حين مات والدي، عدَد النسوة تحتها فلم تطرح، بدت حزينة سبعة سنوات، حتى دق “الطار” في سقيفة بيتنا، ففرحت وعادت تُفرَحنا بطرحها.
بلحتها لونين، في الأعلى أخضر جارح وفي الأسفل أحمر رطب، يشعرك طعمها بالحركة، بالشد والجذب، اعتدنا سنوات أن نأكل منها في الموسم، حتى ذلك اليوم الذي تمدد فيه جدي عاريا على سرير من جريد، وإنسال ماء غُسله ووصل جذع النخلة.
ذبل قلبها، لم تقاوم النمل وهو يأكل في عروقها، استسلمت حتى خاخت، وحتى أنقسم ظهرها ووقع أعلاها على الأرض.
في الصيف أو الشتاء، يجلس علي جذعها المتسامرين عصرا خارج الدرب، يتبادلون الحكايات، دون أن يعرفوا قصتها.
******
عشت حياتي الأولي وأنا أرى “عبيد آب طلحه” وهو يميل لاختصار الناس، يفشي السلام وهو ماراً ويجيب باحترام على سؤال من يسأله، لكنك نادرا ما تجده جالساً مع أحد يحكي، لا في سامر صيف ولا في سهراية شتاء، معظم المشاهد التي أتذكره فيها، كان واقفاً، أوكان داخلاً بيته المجاور لبيتنا مع آذان المغرب، آذان المغرب بالضبط، وهو يحمل على كتفه “جريد” أو “كرنيف” أو “سباطة” نخل جافة، يمسك باليد اليسرى حمله، وفي اليمنى “السراق”.
من يعرف عبيد جيداً، يعرف أن أمره لا يتعلق بإشعال “فرن” أو “كانون”، لا علاقة له بتسقيف حجرة طينية، حتى وأن قال ذلك، فأمام بيته يتكوم الكرنيف، وعلى سقف بيته أكوام من جريد.
عبيد مضروبا بطلوع النخل.
حكى لي قرين، أنه ذهب ليعمل مع أولاد عمه في الخرسانة، لكنه عاد بعد أول أسبوع، لم يتحمل الغربة ولم يكرر التجربة، عاش حياته في القرية، نادرا ما ذهب إلى المدينة، نادرا ما غاب عن غوايته، غواية طلوع النخل.
يعرف الناس أن عبيد لا يبحث عن بلح، بالكاد يذوقه دون أن ينزل بحبة واحدة منه، لذلك يأمنوه على بلحهم، ولا يعترضون على طلوعه نخلهم.
لعبيد عيب واحد، هو لا يقبل من أحد أن يشير له على النخلة التى يجب أن يطلعها، هو من يختار النخلة، تسبب له الأمر في بعض من العكوسات، في النهاية تقبل الناس غوايته واحترموها.
تأملته مره وهو طالع نخلة في جنينة “ناس آب باشا،” بدا في صعوده كمن يحتضن إمرأة وهو الُمحب، ما أن وصل لأعلى واستقر قليلا حتى أخرج “السراق” من جيب جلبابه وراح ينزع ما هو جاف، الجريد الناشف والكرنيف.
مات عبيد، أكتشف قريب له بالصدفة وقت أن كان أقرب للموت أنه كان يعاني لسنوات من الكبد، اكتشف ذلك بعد أن ساعده في دخول الحمام، خاخ داخله، كان يتساقط قطع لحم صغيرة ودما.
يُعلم النخل من يحبه الكبرياء حتى في الألم، وجدت ذلك في عم عطا الحبَال أيضاً، كتبت حكاياته من قبل في كتاب “الناس دول” ولا أريد أن أكرر منها سوى المعني الذي جعل هذا الرجل يعيش على تغميس “كسر” العيش الشمسي في الشاي، وإذا امتدت له يد بالمساعدة، ثار وهاج ولمَ الناس وهو يزعق: أنا مش شحات.
مات عبيد، وضعف نظر عم عطا، وبدا النخل المجاور لبيوتنا مُتسخ عجوز لا يجد من يغسل جسده من الجفاف.2
كانت لنا نخلة في أرض لم نملكها، أرث قسمه الأجداد وبقيت هي خارج القسمة، فتوارث الحق في بلحها كل القبيلة، انتقلت ملكية الأرض التي تقف عليها أكثر من مرة، عن نفسي لم أعد أعرف من يملكها، لكن أعرف أن لنا نخلة تحتفظ بإسمها من قبل أن أُولد وحتى الآن، نخلة “منوفي” التي تهدي لنا بلحها كل عام.
ذاد الورثة حتى لم يعد يدخل بيتنا من بلحها سوي حفنتين باليد، كلما طرق حاملهم الباب، ذكرونا بتلك القصة.
******
إذا كنت تعرف النخل، فأنت تعرف أنه ينظر إلى السماء بقلبه، وأن قلبه رقيق، رقيق جداً، على عكس ما يحيطه من جريد وشوك.
وإذا كنت تعرف غير النخلة فقل لي، فأنا لا أعرف غيرها شجرة أقرب للإنسان، شاركته نومه وأكله وشربه وحمومه، أظلت مريم وأطعمتها، أفكر في حديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم: “أكرموا عمتكم النخلة فإنها خلقت من الطين الذي خلق منه آدم وليس شيء من الشجر يلقح غيرها”، قال عمتكم!
3
كانت لنا نخلة في أرض بعيدة، نركب لها الحمير ربع نهار، تُسمى “الحصيوة” أخصب أرض ورثناها، وعليها أكثر نخلة صادقناها، لعبنا تحتها، ظللت علينا عز الشمس ونحن نأكل جبن وبصل الغداء، صنعنا من خوصها “المقاليع”، ومن جريدها الأسرة، حمَانا لوفها.
خمسة وثلاثون عاما، وبلحتها في طبق رئيسي على مائدة إفطار رمضان، حتى باع عمي الأرض وباع النخلة، ولم يبق لي سوى أن أقول “كانت لنا نخلة”.