قصيدة النثر ورسم الشخصية الشعرية عند شريف رزق (الألم والأنا في هواء العائلة)

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 78
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د. عادل بدر

 لقد صارت القراءة  فعلاً إنتاجياً لاكتشاف نصوص جديدة داخل النّص الأم، والدخول في عوالمها، ويُشترط في النص؛ لتتم هذه القراءة - انفتاح بنيته على أنماط منالقراءات تسمح بتعدّد المعاني والدلالات، فيكون النص شبكة من الدوال تلمع بلون جديدكلّما قلّبته على منهج من المناهج أو جانب من جوانبه، وتشف وتوحي؛ لترى شيئاً جديداً أومختلفاً، كما تُشترط الرغبة في إعادة إنتاج النص لدى المتلقي لارتباطه بالذاكرةالقرائية وتحريضها وإثارتها؛ لما يملكه هذا النص من أسباب الدهشة والتشويق، التي تدفع إلى هذه القراءة وهذا محور العلاقة.

وديوان “هواء العائلة” للشاعر المصري شريف رزق- الذي ينشر أشعاره منذُ أواخر الثَّمانينيَّات من القرن الماضِي ، في مصرَ وغيرها من الدِّول العربيَّة- هو الديوان الأخير للشاعر الذي سبق أن أصدر العديد من الدواوين الشعرية، منها: “عُزلةُ الأنقاض”، و”لا تُطفِئ العتمة”، و”مجرَّةُ النِّهايات”، و”الجثَّة الأولى”، و”حيواتٌ مفقودة”، و”أنتَ أيُّها  السَّهو، أنتَ يامَهبَّ العائلةِ الأخِيرَةِ”، وصولًا إلى ديوان “هواء العائلة”؛ الذي صدر هذا العام: 2016.

والدخول إلى هواء العائلة  يرتكز على عدة محاور:

الأنا:

 لقد فتح الألم لظهور الأنا في ديوان هواء العائلة بشكل مكثف:

“جُثَّتِي تُلوِّحُ في العَرَاءِ

 لِغَيمَةِ لاتَرَاهَا.”

فنلاحظ أن صورة(الجثة) صارت مشتركة بين نقيضين (تلوح- لا تراها) معتمدة على إيغال دلالة (غيمة)؛ لكي يشمل الفضاء (العراء)؛ فالعلاقة العضوية تجعل الرغبة بين الدلالات قوية وحتمية في نص واحد:

“الحَرَائقُ تنهشُ جُثَّتي

وَأنَا أُقهقِهُ في العَرَاءْ.”

هذه الومضات الشعرية في عملية التقائها وتقاطعها في إطار بنية نصية واحدة، تتسم بالخصوبة الفنية، والملاحظ أن مفردة (الحرائق) معادل رمزي لفعل الكتابة، ولطغيان الهمّ الإبداعي، كما أنَّ العلاقة بين (الحرائق – العراء) مسؤولة عن إنتاج الدلالة النصية، وهي حالة نفسية متشابكة بين العام والخاص، وطغيان الحالة الشعرية وظهورها في سردية ضمير المتكلم (المنفصل والمتصل)؛ بما يوحي باندماج وسيطرة العالم على الذات / وتشظي الذات بعيدًا عن هذه العالم:

“تَتَفَجَّرُ أحْجَارٌ

في كلْيتِي.”

فالأنا في القصيدة القصيرة المكثفة؛ التي تعتمد على بنية الومضة، كالصورة السينمائية الخاطفة؛ حيث الإدهاش والمفارقة، وهذه الومضة تصل بسرعة وقوة إلى المتلقي،علها أمامه عدة جوانب وزوايا ومسارب، ظلّت مجهولة له وغائبة عن إدراكه في قراءته للقصيدة ذات السطور المتعددة، ولعلها تذكرنا بقول النفري: “كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة”

“تَتَهَشَّمُ المَرَايا في ضلوعِي

كُلَّمَا صَاحَ طَائرْ.”

يسعى الشاعر إلى خلق نصية مغايرة في جماليتها حيث تتأسس بنيتها الشعرية على حدود مفهوم الخارج/الداخل إذ يتضافر البناء الداخلي مع البناء الخارجي؛ لتوصيل التجربة الشعرية:

“فَوْقَ رَأسِي سَحَابَةُ دُخَانٍ، تَتَّقِدُ.”

إن فضاء النص الشعري تتوافد عليه الفنون البصرية وفنون القول؛ فالسحابة تتقد، والأدمع تتساقط على هيئتي، وهواء القيامة يحملني إلى الأقاصي، والشاعر يبدو كنمر جريح ينتظر كارثة قادمة.

“يَبْدَأُ يَوْمِي بِانْقِبَاضٍ غَامِضٍ”

والجمال في قصيدة الومضة هنا لا تعتمد على جمال الشكل من حيث التناظر والتوازن، بل ما يثيره من متعة المضمون، قد تكون أعلى من لذة الشكل، وربما كان تراسل فنون القول ضرورة تفرضها المرحلة الراهنة، بما فيها من تحولات في شكل القصيدة المعاصرة ومضمونها، وما تقتضيه هذه التحولات من بحث عن وسائل تعبيرية يتيحها لجوء الشاعر إلى أجناس أدبية أخرى، يطعم بها إبداعه، ويستفيد منها في إغناء تجربته، وخلق نموذج ينفتح على المرحلة الراهنة؛ ليرفدها بنماذج لا تقف عند المعطى القديم، بل تتجاوزه من غير أن تلغيه، مستفيداً مما تقدمه هذه الأجناس من تقنيات متاحة توسع حدود النص وتغني فضاءه:

“بعيدًا حَتَّى عنْ جَسَدِي

أجْلِسُ على شَاطِئِ البَحْرِ وَحْدِي

بريئًا منْ كُلِّ مَا يَحْدُثُ.”

فالأنا هنا مشاركة ، وليست شاهدة، فهي محركة للحدث ، وتتماهى الأنا مع ضمير الغياب في النص السابق ؛ مؤثرًا البراءة من كل ما يحدث، فالأنا لديها الإصرار على الخلاص، لكن الأنا قد تتحول إلى غيمة:

“مِثْلَ أيِّ جُثَّةٍ لِي

أتفجَّرُ في العَرَاءِ

 أوْ أتَحَوَّلُ إلى نَخْلَةٍ

  أوْ غَيْمَةٍ

Text Box: غيمةText Box: جثة    أوْ مَقْبَرَةْ.”

ا                                      الأنا      

 

فالشاعر- الذي ابتلي بفقد الأحبة- يشغل نفسه بفكرة الموت، وترك هذا الفقد أثرًا عميقًا في نفسه، وفي نظرته إلى الحياة من حوله، حيث تجلت له الدنيا ولا أمان فيها لأحد ولا ثقة بها بعد آثارها السيئة فهي خادعة متقلبة:

“موتُ عادل، في الجيشِ، لم يكُنْ إلاَّ بدايةَ الكَوَارِثِ

فأبي سَاءَتْ حالتُهُ، ولمْ تُفلِحْ معَهُ شتَّى المحاولاتِ

ومَا أوْقفَهُ عنْ البُكَاءِ سِوَى نَزْفٍ بالمُخِّ؛ عَزَلَهُ عنْ العَالمَ

كانَتْ أمِّي تقومُ على خدمتِهِ، حتَّى سَقَطَتْ، ذاتَ مَسَاءٍ”

فمشكلة الموت هي مشكلة الأنا/القلق؛ فالشاعر معذّب النفس، لديه إحساس بالسآمة والملل والخوف، وتظهر مفردات( موت- عزلة- بكاء- نزف- هشاشة- الكوارث- قبره- اللّحاد- عاجزة- حزن- فراق) لتبرز عمق التجربة، ومدى صلتها بذاته الإنسانية، ولتستمر الحياة:(هَلْ تَعْلَمُ الآنَ مَا حَمَّلتَنِي يَا أبِي؟) ويتجلى الانفعال المأساوي:(إلى أنْ ماتتْ أمِّي ولم ترَ أبي ولا أبي رَآهَا)؛ فهناك عثرات متعددة تغلب على الأنا، وتثير الذكريات، والدهر ظالم للأنا، فالمتأمل لحضور الأنا يجد حضور(أنا) بشكل مكثف؛ يوضح كان وعي المتكلم نفسه متعاظمًا، وحضوره طاغيًا، وكيف شكّلت مفردات هذا الحضور عناصر سيرة ذاتية للشاعر، فدارت معظم النصوص حول المتكلم، وقد حضرت بأشكال نحوية وتركيبية تبرزها، وفي حلولها في ضمائر الغائب.

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم