قصص عابرة

لا تمت قبل أن تحب
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمد الفخراني

أنت، يا رومانسى.

تَلْمِسكَ القصص العابرة التى لا تتجاوز ثوان، ولا يحدث فيها شىء أو هكذا تبدو، مثل نظرة على رصيف قطار، أو إلى الجانب الآخر من الشارع، أو على الجانب نفسه، أو أربعة عيون تتلاقىَ مُصادَفة وتتباطأ ثوان فى التباعُد وهى تتساءل، ثم تفكر كل عينان فى العودة لكنهما لا تعودان أبدًا.

أنت تَعتبر أن العالم يتنفَّس من خلال هذه القصص، التفاصيل، تلك الإبتسامات التى تعنى أن العالم لا يزال لطيفًا، وأن أىّ أحد يمكنه الحصول على ابتسامة من أىّ أحد، بلا غرض، بلا مقابل، لا شىء إلا لطافَةَ الابتسامة، هذه اللطافة البِلامُقابل، الحرة، تجعل القلب يتنفَّس، تقول يا رومانسى إن ابتسامة مثل هذه يمكنها، حَرْفيًّا، أن تُنقذ أحدهم من الموت، أو.. الانتحار.

تُسمِّيها “قصص عابِرة”، تقصد عابِرة إلى القلب، قصة مكتملة، ولا يهمُّ حجمها فى الزمان أو المكان، فقط يهمُّ أن تلمس شيئًا بالداخل، تَمُرُّ به، أو تصنع تلك الشرارة اللطيفة فى الهواء، لا تفكر فيها أكثر من لحظةِ ظهورها وعبورها، وتقول أن مثل هذه التفاصيل الحرة، العابِرة، تُعيد للعالم ثقته بنفسه، كأنها قادمة من ألْطَف جزء فى الكون، تَجيىء من كتاب خاص عن الحُب والصداقة، أو من نوتة موسيقية رومانسية، تعتبرها قصصًا مزيجًا من حب وصداقة معًا، لا تقصد أنها قصص “غرام”، وإنما “حب”، والحب أكبر بكثير من حروف كلمته، فى الوقت نفسه هو بحجم نظرة عابرة.

تقول إن مسارات العالم حولنا مليئة بمثل هذه القصص والابتسامات، طيِّب يا رومانسى.. عن نفسى أقول لك أنى لا أُمانِع أن تكون مسارات العالم حوالينا مليئة بقصص وابتسامات كهذه.

لكن.. بسبب كلامك عن تلك الابتسامات العابرة، ورأيكَ فيها، ستسمع وترى ضحكات استخفاف وسخرية، يسألونك: “هل تعيش معنا فِعْلاً فى دنيتنا؟”، يقولون لك أنك تعيش فى خيالك المسكين، وأوهامك العَيَّانة، يضحكون، ويتساءلون باستغراب: مَنْ هى، وأين هى، ولماذا هى، وكيف هى، ومتى هى، الواحدة التى تبتسم لواحد فى الشارع لا تعرفه ولا يعرفها، واحد عابِر وابتسامة عابرة وقصة عابرة، “كلامك غريب يا جدَع انت.. رُوُح رُوُح ربنا يسَهِّل لك”.

لن يفيدك لو قُلتَ لهم أن هذه الابتسامات ليس بها أىّ وعود، ولا تأخذ من الوقت غير ثانية أو أقل، وحتى أنها تكون بالملامح أكثر منها بالطريقة العادية، ومعناها أن ما بيننا أمان وسلام، لا شىء غير ذلك، ليس بها أىّ شىء خاص، أو تخطيط من قبل أو لِما بَعْد، كل شىء ينتهى خلال هذه الثانية أو أقل، بهذه البساطة والتلقائية، يؤكدون لك أنك لن تحصل من الشارع إلا على تكشيرة، بُوُز، امتعاضة، زَمْجرة رادعة بالعين، هل رأيتَ عينًا تُزمجر؟ ستراها وتسمع العين نفسها وهى تُزمجر، نظرة فيها شتيمة، هذا ما يستحقه شخص عابر، غريب، وكل رومانسى أهبل.

  يسألونك: “عندك أىّ فكرة عن كوكب الأرض؟”، ويطلبون منك فى شَكْل نصيحة: “هاجِر لكوكب غيره، أو تَخَيَّل لك كوكب واعمل فيه حاجاتك الهَبْلَة”، وزيادة فى السخرية، من الممكن أن يطبطبوا عليك ويَدْعون لك بالعقل: “ربنا يهديك، ربنا يهديك ويرجّعك لعقلك”، حتى أنهم فى هذه اللحظة لا يعاملونك على أنك أهبل، وإنما عبيط، وربما يُطالبون بقِسْم جديد فى مستشفى الأمراض العقلية، يحمل اسم حالتك، ويُسمُّونها: “متلازمة الرومانسى الأهبل”.     

دُنْيَتهم؟ دُنْيَتهم يا رومانسى؟ تعرف شيئًا عنها؟ تعيش فيها معهم؟

أم أنك تُفاجِئهم وقتها بأنك تعرف دُنْيَتهم، تعرفها أكثر منهم، وعِشَتَها أكثر منهم؟

ما رأيك لو تعطيهم لمْحَة عن حياتك، لأنهم ربما رسموا لك صورة ما بسبب شقتك التى تكشف البحر، والبيانو، واستماعِكَ للموسيقا وأنت تُجرى العمليات لمريضاتك، ومَشْيكَ حافيًا فى ردهات المستشفى، لكن هل هذا كثير أصلاً أو غريب؟ أيًّا كان، ما رأيك أن تحكى لهم عن أبيك، وأنه كان يعمل بائع قماش رجالى مُتَجوِّل، يُعَلِّق فى كتفه بُقجَة بها قماش، ومعه المتر الخشب يَقيس به، ويتجوَّل فى القُرى، ينادى على بضاعته: “يااا قمااااش”، وتحكى عن جدِّك بائع العسل الأسود المُتجوِّل، يحمل على كتفه زَلْعَة العسل، يُغلق فُوَهتها بسدادة من كرتون مُفَرَّغَة من داخلها ليضع فيها كوز ألمونيوم يُعايِر به الكمية المُباعَة، وينادى: “عساااااال.. العس عس عس عسسسااااال”، وتحكى عن والد جَدِّك، بائع “أم الخلول”، وهو يتجوَّل فى القُرَى وعلى كتفه قُفَّة رَطبة بها أم الخلول، وينادى: “طااااازة يا ام الخلووووول”.

قُل لهم إنك كنت بائعًا متجوِّلاً فى دراستك الإبتدائى، تبيع التوت والجميز، تتسلَّق أيًّا من الشجرتين، شجرتان قديمتان، مُتاحتان لأهل قريتك، تتسلَّق أنت الواحدة منهما فى لمح البصر، تجمع الجميز أو التوت فى طبق كبير من الخوص، وتُغطيه بأعواد برسيم حتى لا يَنْشف التوت أو الجميز، وتتجوَّل فى شوارع قريتك وتبيعه خلال ساعتين، قُل لهم إنك فى دراستك الإعدادى عَملْتَ “صَبى نقَّاش”، و”صَبى نَجَّار”، وفى دراستك الثانوى عَملْتَ مُساعِد بَنَّاء، وأنك تاجَرْتَ فى الحُمُّص والحلاوة أثناء دراستك الجامعية فى طنطا، وأن جَدَّة “راقية- رائية”، عندما كانت تختبر أصابعك قبل أن تُوافق على تعليمك البيانو، لم تكن تختبرها لتعرف إنْ كانت رقيقة أو قوية أو سليمة، ولا لشىء ممّا قد يخطر ببالهم للوهلة الأولى، وإنما، كما قالت لك بنفسها فيما بعد، وهو ما فهمْتَه أنت وقتما كانت تختبرك، كانت تبحث عن شىء بداخلك من خلال أصابعك، مثلما ينظر أحدنا لعينَى شخص ما، أو يُنْصِت لنبرة صوته، ليعرف شيئًا ما بداخله، الأصابع وسيلة جَدَّة “رائية”.

عَرِّفْهم أنك لم تَتَرَبَّ على صوت بيانو مثلاً، وفى صَفِّكَ الثانى الإعدادى اشتريتَ من حُرّ مالك ردايو ترانزستور صغير يعمل بالبطارية، تأخذه فى حضنك وقت نومك، وتسهر معه، كنتَ أشطر واحد يصطاد الإذاعات البعيدة، تسمعها وفى خلفيَّتِها وشيشًا خفيفًا تحبه، لا يُغطِّى على صوت المذيعة التى تشعر أنت أنها تتكلَّم لغة تَخُصُّها وحدها، ليست لغة أجنبية، هى نفس لغتك، لكن وكأنها لغة تَخُصُّ المذيعة، وتتكلَّم بها لك وحدك، لا يُغطِّى الوشيش على الموسيقا التى تستمع إليها، وإنما يزيدها وَنَسًا وجمالاً، كأنه من تكوينها، كأنه مسرح تُعزَف عليه الموسيقا، أو آلة موسيقية ضِمْنَ الآلات التى تعزف، وتكتشف فى مراهقتك المسلسلات الإذاعية الرومانسية القصيرة، وما زلتَ تذْكُر عناوين بعضها، وقصصها، مثل أطياف من زمن بعيد.  

وأنت، تحتفظ حتى الآن، بذلك الراديو، تُشَغِّله أحيانًا، وتستمع إلى موسيقا مع وشيش خفيف.

لم يكن السرير لك وحدك، كان ينام معك فيه، بجوارك، أخٌّ أكبر منك بسنة، وفى الجهة العكسيَّة لكما تنام أخت أصغر منك بسنتين.

  قل لهم يا رومانسى، إنك تَعَلَّمْتَ العوم فى ترعة كبيرة فى قريتك، يندفع فيها تيار ماء نظيف بعد أن يمُرَّ تحت بوابات حديدية، وأنك كِدْتَ تغرق مرتين، شربْتَ خلالهما من ماء الترعة حتى شبعْت.

وإنْ كانت لهم مشكلة مع الرومانسية، فأنت تعتبر هذه التفاصيل والقصص رومانسية جدًا.  

وَضِّح لهم أنك تحب الأعمال التى لها علاقة بمهارة الأصابع، وتعتبر أن هذه المهارة تساوى المهارة العقلية، الأصابع هى مَنْ يُترجم مهارة العقل، أنت أيضًا تفكر أن للأصابع عقلاً إضافيًّا خاص بها، تُحب مهارة الأصابع وذكاءها، مثل عملك صبى نقَّاش، وصبى نجَّار، ومُساعد بَنَّاء، وعزفكَ على البيانو، وعملك جرَّاحًا.

وأنك، طوال الوقت، وأثناء تواجدك فى الشوارع، وسائل المواصلات، أو مُقابلاتك العابرة، وغير العابرة، أقصد خلال يوميات الحياة، كنتَ، وما زلتَ، تحب أن تُصادف أشخاصًا تظهر آثار العمل فى أيديهم: أسمنت جاف فى ظهر اليد أو بطنها بسبب أعمال المَحارة، ألوان فى خطوط الكَفّ أو حواف الأظافر أو أطراف الأصابع لأعمال النِقاشة، أو الدوكو، أو شحم جاف لأعمال الميكانيكا، أو رائحة البويا، أو يدٌ بها ظِفْر مشقوق أو له لون أو شكل مختلف بسبب حادثة عمل، أو إصبعًا ينقصه جزء، أو أثَر جرح قديم، قُلْ لهم أنك تنظر إلى هذه اليد بإعجاب.

قُلْ لهم يا رومانسى إنك تحكى قصتك الشخصية، وعملك كصبى نقَّاش وصبى نجَّار ومُساعد بَنَّاء، تحكى عن أبيك وجَدّك ووالد جَدّك، تحب أن تفعل ذلك، هذه القصص مَصْدَر فَخْر وإلهام لك، “أنا ابن بائع القماش، حفيد بائع العسل، سليل بائع أم الخلول”، اضحَك يا رومانسى وأنت تقول لهم إنك من وقت لآخر، أثناء عزفك على البيانو، تُنادى مثلما كان ينادى أبوك وجَدُّك وأسلافك: “ياااااا قماااش”، “العس عس عس عس عسااااااال”، طااازة يا أم الخلووول”.

وأنك تنوى أن تحكى لطفلتك كل هذا.

طفلة تُحَضِّر له إفطارها وتُسَرِّح لها شعرها كل صباح.

أنت تشعر أن هذه الأصابع، أصابعك، لن ترتاح ويهنأ لها بال، إلا إذا حَضَّرَتْ إفطارَ طفلتك وسَرَّحَتْ لها شعرها.

رومانسى.

أنت لستَ مهتمًا بتوصيف تَصَرُّفاتك وأدائك فى العالم، أنتَ ما أنتَ عليه، تَتَصَرَّف بتلقائية، دون حسابات، وهذا فى حَدّ ذاته ملائم للرومانسية، وملائم لك.

فى الوقت نفسه أنت لا تعتبر الرومانسية تُهمة، فقط تتساءل أحيانًا: هل هل أتصَرَّف برومانسية؟ وتبتسم، لا تنفى أو تؤكِّد.. لأنك فقط تتصرَّف بما أنت عليه.

يا رومانسى.

 هل يتعامل العالم معك برومانسية، أم أنك ترى الرومانسية فى تَصَرُّفات العالم، على الأقل ترى الجانب الرومانسى فى تَصَرُّفاتِه معك؟ أعرف أنك على الأرجح سترُدُّ بأن ما يعتبره أحدنا رومانسية يمكن أن يكون غير ذلك فى رأى غيره، وأن كلاً مِنّا يَستقبل العالم ويُرْسِل إليه بطريقته الخاصة، وأنك دائمًا لك طريقتك الخاصة فى كل شىء.

تقول إن العالم لو تَحَوَّل بشريًّا سيكون رجلاً فى منتصف الأربعين، مزيج من مُتشرِّد وفنان، يهوى العزف على البيانو.

 يا تُرَى ما رأى العالم فى كلامك؟

كثيرون سيقولون لك إن العالم ليس رومانسيًّا بالأساس، لم يكن يومًا، ولا يمكنه يومًا أن يتصرَّف برومانسية، ويقدِّمون لك مئات الأدلَّة، لن يحتاجوا أىّ مجهود للعثور على هذه المئات.

أم أنك ستفاجِئهم بمئات الأدلَّة على أن العالم رومانسى، أو يمكنه على الأقل أن يكون رومانسيًّا من وقت لآخر؟

…………………..

* مقطع  من رواية: “لا تمُت قبل أن تحب”، الصادرة حديثًا عن دار “العين”

 

 

مقالات من نفس القسم