قصص تلعب مع العالم: عندما يلعب الكاتب بالعالم

"سماء أقرب".. من يكتب من؟
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

د.عزة مازن

"لا شئ أجمل من أن تخترع العالم" بتلك العبارة يستهل "محمد الفخرانى" مجموعته القصصية "قبل أن يعرف البحر اسمه"، وفيها يروى قصة نشأة العالم، فيلعب بمفرداته ويجمعها في أساطير خاصة يتحاور فيها الواقعي والغرائبي، ليُخرج عالما جديدًا من الحكايات والأساطير. ففي القصة الأولى "البحر"، يحكي الكاتب عن نشأة البحر وحيدًا: "لم تكن بلاد ولا شواطئ، لا بيوت، ولا بشر، ولا قوارب، وحده البحر يسكن الدنيا وتؤلمه وحدته...".

 ويبقى البحر وحيدًا حتى يعرف الحب وتسميه حبيبته باسمه، ويعيش بين البشر “يجري ويتمشى في الشوارع، يدخل البيوت في أي وقت، ويتفرق في شوارع كثيرة… يتمزق لمئات البحار الصغيرة، ويسمع أمواجه التائهة تنادي بعضها البعض طوال الليل”. ويتوصل البحر لاتفاق مع البشر بأن “ينسحب بعيدًا عن البيوت والشوارع، بشرط ألا يعيش وحيدًا، وأن يحمل معه بعض البيوت لتؤنسه، فصنع بنفسه قاربًا اختار له بعض الرجال”. يصنع البحر لرجاله زيهم المميز وتسميهم حبيبته الأولى، فيحملهم  ويعلمهم الصيد “وأغاني الصيادين، ومصاحبة الموج وقراءة النجوم وكلام الريح” ويمنحهم “كنوزه ويذهب بهم لأماكن مسحورة، ويقترب بهم من السماء والنجوم.”

وفي مجموعته “قصص تلعب مع العالم”، يلقي الكاتب بخيوط الأسطورة إلى أعماق أبعد، ويواصل اللعب، فينشئ علاقات جديدة بين مفردات العالم التي ابتدع قصة نشأتها في مجموعته السابقة، وفيها تتردد أصداء حكاياته عن البدايات، ففي المجموعة الأحدث يتحول اختراع العالم إلى اللعب معه.

 ويستهل الكاتب مجموعته بالقول: “لا شئ أجمل من أن تلعب مع العالم”، ويغلف اللعب قصص المجموعة دون أن يفصح عن لفظه في عناوين معظمها، في قصة “لعب” التي تُستهل بها المجموعة، تتجسد المعاني المجردة في شخوص ملموسة، فيجتمع نور، وظلام، وكذب وحب في بيت واحد، يجمعهم اللعب: “اللعب هو السبب في أنهم لم يتدبروا إيجار البيت حتى الآن”. وعندما يخرج هؤلاء جميعًا إلى الشارع يلعبون الكرة التي يتخذها الكاتب رمزًا للكرة الأرضية والعالم، فيشي بلعبه هو أيضًا بمفردات ذلك العالم وابتكاره علاقات جديدة بينها: “كانوا جميعًا داخل الكرة عندما تأرجحت في مكانها، بعد أن سقطت لعبة أخرى، تحركت وبدأ كل ما فيها يميل لبعضه البعض، وبلعبة ثالثة تحركت الكرة بشكل أسرع، وبدأت كل الألوان والمياه والكائنات تتماس وتسكب من بعضها لبعض، كأنما يتذوق كل منها الآخر ويتبرع له بجزء من حياته… وتمتزج العوالم، الكائنات، الأفكار، والمشاعر ببعضها بعضًا، ولا يتوقف اللعب.”، في قصص المجموعة الخمسة عشر يؤكد الكاتب على لعبه بمفردات العالم وتشكيل العلاقات بينها وفق هواه، ففي قصة “لها ابتسامة محبوبة، ولهم أسماء مخيفة ومضحكة” تصحب طفلة جدها الكفيف وتصف له العالم كما تراه هي، فيراه بعينيها: “تمشي به العالم، تصفه له بطريقتها، وتقول ما تحب أن تراه، فيتحول العالم لما تحكيه عنه، كأنما تعيد تشكيله على هواها…”

في عالم “الفخراني” تتحول الظواهر الكونية إلى ألعاب مسلية” يستهل الكاتب قصته “عالم لعوب يشاغب المارة” بقوله: “استيقظ العالم وفي رأسه أفكار جديدة للعب…. العالم الذي يستيقظ هنا، يراوغه عالم آخر في مكان ما يستعد للنوم، والاثنان يسمعان صوت عالم ثالث يترنح تعبًا أو متعة، وبعيدًا عنهم أو قريبًا منهم عالم يواصل اللعب.” وفي قصة من صفحة واحدة بعنوان “ألعاب وموسيقا” يلخص “الفخراني” حكايات عالمه الأسطوري، وتتردد أصداء مجموعته السابقة “قبل أن يعرف البحر اسمه”، ففيها تتقابل مفردات الكون وعناصره لتحكي لبعضها بعضا حكايات عن نشأتها: “ريشة في الهواء تلاعب طائرًا تائهًا، لا تعرف اسمه ولا يعرف اسمها، كل منهما يحكي للآخر ما رآه في العالم، يسمعهما رجل يمشي دون توقف منذ مائة يوم، ليس له اسم ولا بيت، فيتوقف ليلعب معهما ويحكي… تتسع الدائرة لما لا نهاية، والجميع بلا اسم يلعبون ألعابًا بلا اسم، ويخترعون حكايات تنبض فيها الحياة فورًا، وتبدأ بدورها في اللعب، واختراع حكايات، بشرًا، موسيقا، وألعابًا كلها بلا اسم.” في هذا العالم تتحول الزلازل والأمطار والثلوج إلى اللعب مع الناس ومع بعضها البعض: “يلعبون جميعًا إلى ما يبدو أنه لا نهاية، وضحكاتهم تطير بينهم، وتمتزج بلعبهم.”

يتخذ “الفخراني” من اللعب تيمة أساسية تتمحور حولها قصص المجموعتين، يشكل العالم ويلعب به ومعه، فيصحب قارئه إلى عالم من السحر والأساطير تسكنه روح الشعر بلغته الرائقة وصوره المكثفة. 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*ناقدة مصرية

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم