قصص تلعب مع العالم .. عالم يلعب مع القصص

بين فيلم ومظاهرة !
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

 إبراهيم عادل

هذه المرة ليس الأبطال هو المجتمع المهمش أو قصص الحب العادية ولا حتى السياسة ولا الناس، هذه المرة ينتقل بنا “الفخراني” من دنيا الناس إلى دنيا “المشاعر” و”الإحساس” .. ويؤسس لذلك بوضوح في القصة الأولى (اللعب) حيث يظهر لنا “نور” و”ظلام” و”حب” و”موت” و”كذب” .. وتقوم بينهم علاقات في “بيت” واحد وفي الخارج “حزن” و”حنان” و “رحمة” ثم “قسوة و”سعادة”

هاهو “كذب” في القصة الأولى (لعب) هو الذي يحل مشكلة هؤلاء “الأصدقاء”/ المشاعر الذين لم يستطيعوا أن “يوفروا إيجار البيت” ذلك أن “صاحب البيت” يحب “كذب” لأنه الوحيد الذي “يثق به” ولأنه يقول “الحقيقة”! 

هذا البيت الذي يسكنون ويلعبون فيه، اللعب الذي هو “للتسلية” فلا رهانات ولا مكاسب مادية

في هذا العالم الجميل الأسطوري المتخيَّل يحلو “للحزن” أن يسكن في “عينيها” فـ ((يفتح حقيبة أغراضه الشخصية يوزّع أشياءه البسيطة فى عينيها بلطف، ويحاول قدراستطاعته ألا يكون مزعجًا، حتى إنها لم تنتبه إلى أنه انتهى إلا بعد أن أخبرها، ومع أول ليلة له فى عينيها، سمعت موسيقى شجيّة كان يُشغّلها من آلة قديمة يحملها ضمن أغراضه، وفى الليالي التالية ستسمع تنويعات عديدة من الموسيقى الشجية، وترى “الحزن” في ملابسه الشفافة المتنوعة، يتحرك خفيفًا كموجة، فتطمئن له، ويدفعها إحساس شفيف غامض بالتعرف إليه عن قرب)) هكذا يتحوَّل الحزن إلى معادل موضوعي للفرحة وسبيلاً مختلفًا ومغايرًا للمعتاد للسعادة! .. بل إنه يعرّفها على أصدقائه ((عندما قدمها “الحزن” لأصدقائه “حب”، “نور”، “ظلام”، “صدق”، و”كذب”،  رأت فى عيونهم حبهم لعينيها، صحبها معهم للملعب الكبير، وهناك يشاركهم اللعب لبعض الوقت، ويحرص أن يكون قريبًا منها، ليسمع صوت قلبها وجريان دمها فى جسمها، ثم يغادر اللعب ويقف عند حدود الملعب، ليتفرج على تفاصيلها، ويراقب انفعالاتها ولفتاتها التلقائية، بينما تبادله النظرات من وقت لآخر وتبتسم له، صحبها للأماكن التي يسهرون فيها، وهناك تعرفت على صديقته “سعادة”، التى كانت تراوغها طوال الوقت، وهى تمر على مسافة ليست بالقريبة منها ولا البعيدة عنها، لكنها فى كل أحوالها لم تكن معها، وكلما نادتها أو طلبت منها أن تنتظر، كانت تلملم حاجياتها بسرعة وتبتعد، الآن بعد أن تعرفت عليها، أدركت كم هى بسيطة، تلقائية، وأسهل من أن تناديها أو تطاردها، كما أعجبتها قصة الحب بين “كذب” و”متعة”، والتفاصيل الصغيرة التى يملأ بها “كذب” هذه القصة، وكعادة “نور”و”ظلام” بأن يقعا فى حب نفس الشابة أو المرأة، ويعترفان بحبهما لها فى يوم واحد، فقد حدث ذلك معها.)) هكذا يتحول “الحزن” إلى ذلك الصديق “لاستثنائي” و”المثالي” الذي لا يكتفي بعزف “الموسيقى” بل  ويشارك الأصدقاء في “اللعب” ومراقبة تفاصيل تلك الفتاة التي لا تبدو في النهاية أبعد من “حبيبة”!

وهكذا يحضر مع “اللعب” العزف والموسيقى، ولا عجب أن يحضر “السيرك” أيضًا، ففي قصة شديدة الثراء بعيدة الخيال أيضًا بعنوان (المرأة السيرك والرجل الموسيقى) يتناول أفكارًا تبدو أسطورية عن رجل يحمل “الموسيقى” بل وفرقته الموسيقية كلها في “قلبه” وامرأة تحمل “السيرك” في رأسها، ولا أعتقد أننا هنا في إطار تأويل ممكن أو محتمل لدلالات تحميل “الرجل” و”المرأة” بتلك الصفات، وإنما هي محاولات أخرى للعب، ولتفعيل “الخيال” ووضع علاقات جديدة مختلفة ومتباينة ، وهو حريص ـ في هذا الصدد ـ كل الحرص على رسم تفاصيل عالمه، فالسيرك لا يكلف المرأة غير قطعة من الخشب أو البلاستيك تحصل عليها من أي مكان وتستعمل معها الطرف الحاد من مشبك شعرها .. أما الرجل الموسيقى فليس بحاجة إلا لأن يدخل يده تحت ملابسه جهة قلبه ليسحب كمنجته المحبوبة ويبدأ العزف حتى يقفز بين أوتارها أعضاء فرقته الموسيقية واحدًا بعد الآخر!

 هنا حكايات تتجه نحو الأسطورة، وخيال محلق جامح يغيَّر ترتيب الأشياء ووظائفها، يفرض “اللعب” محركًا لكل العلاقات والأشياء والأحياء فيصبح “الزلزال” أحد وسائل “المتعة” وتصبح “الفوضى” أمرًا محببًا، ويصبح انتقال الأشياء من أماكنها أمرًا جميلاً مرغوبًا فيه (لو فكرت أي أم، أو أي ممن كانوا يلعبون بمصاحبة الموسيقى والرقص منذ لحظات، فيمن يمكن أن يأتي الآن ليشاركهم اللعب، لكان “الزلزال” أول من يخطر ببالهم، لأنه يحب هذه الفوضى، ويشعر

بها مهما كان بعيدًا، فيترك كل شيء لأجلها، ويجدونه بينهم يشاركهم رقصهم وموسيقاهم، هم يحبون وجوده الفوضوي معهم، يروق لهم جنونه وشهوته الجموح للعب، ربما يفكرون أيضًا فى “البركان” الساكن على قمة جبلهم القريب، رغم أنه لم ينزل إليهم منذ المرة البعيدة، التي آذى فيها البعض منهم دون قصد منه، وظل بعدها على قمة الجبل لا ينزل إليهم، رغم محاولاتهم المستمرة معه، حتى فكروا أنه من الممكن ألا ينزل أبدًا، وصاروا يعتبرونه شمسًا برتقالية تجلس على جبلهم، تكتفي برؤيتهم، وتسعد لأنهم بخير وينتظر الناس “البركان” و”الجليد” ليمارسوا ألعابهم معهم ..) في قصة  “كمنجة تعزف غير مبالية بأي شيء” :

(الزلزال كان يأتي في أي وقت ليلعب مع القرية، وعندما يفعل ذلك في وقت متأخر من الليل،

ويستيقظون على حركته في الشوارع، يراقبونه قليلاً من نوافذهم، ثم يستسلمون سريعًا لهزاته اللعوب ويعودون لأحلامهم، وفى الصباح ينظر كل منهم من نافذته ليتعرف على جيرانه الجدد بعد أن حرك “الزلزال” البيوت من أماكنها أثناء لعبه ليلة الأمس، ونقلها لأماكن أخرى، فقد كانت البيوت تترك نفسها للعب معه، تنزلق على الأرض بخفة، تدور حول نفسها في فوضى محبوبة، تتفادى بعضها بعضًا أو يشاغب كلٌ منها الآخر بضربات غير مؤذية، وكان أهل القرية يتركون أى مصدر صغير للضوء في متناول البيت، حتى ينير لنفسه أثناء تحركه، هذا إن لم يكن ضوء القمر كافيًا، ولمزيد من اللعب كان “الزلزال” الفوضوي يغيّر ترتيب الحجرات والأثاث فى نفس البيت، ويبادل نوافذ البيوت بعضها ببعض، أو يأخذ معه نصف جدار من بيت ما، ثم يعيده إليه فى المرة التالية أو لا يعيده، أيضًا كان يغيّر ترتيب شوارع القرية وأشجارها، والمسارات المعتادة للمياه، ليمنحهم ويمنح نفسه المزيد من المتعة، فالجميع يبحثون دومًا عن لعبة جديدة)

ولا شك أن بناء عالم كهذا حينما يحضر فيه “السحر” و”السيرك” فلابد أن يحتوي قصة مثل (حبًا في اللعب والزغب والشوارع المسحورة) وفيها نجد الرجل الذي يصلب ابنته على “اللوح الخشبي” كل ليلة ويوجه خناجره إليها، تلك “اللعبة” الشهيرة التي يتوقف “الفخراني” عند تفاصيلها ويرسم “عالمها” الخاص فيوضح كيف يشفق اللوح الخشبي على الفتاة، إنه (يحبها يحب جسدها، ويحب فى نفسه الجزء الذى يحدده جسدها، يعرفها منذ كانت طفلة تكبر فى حضنه، يشمّها ويضمّها إليه، ويتلقى الخناجر بدلاً منها كل ليلة، وعندما يعودون للبيت يظل ساهرًا على جسده يداويه من طعنات الخناجر حتى لا يستبدله أبوها بغيره، يفكر الخشب أنه الأحق بها، وبأن تموت فى حضنه، لن يتخلى عنها للنهاية، سيكون تابوتًا لها أو قاربًا، أو يظل يتلقى عنها الخناجر لما لا نهاية، هى طفلته، حبيبته، صديقته، وشريكته فى اللعب)!!

هنا مدن للسحر وقرى للمتعة والسعادة ..

وفي لعبه المستمر لا يجد “الفخراني” حرجًا من العودة إلى الواقع، ولكن بشروط “عالمه” الذي أسس له طوال القصص السابقة كلها، فيتحدث في رواية “العش” عن تلك العصفورة التي تبني عشًا بشكل مفاجئ، فإذا بذلك العش ليس إلا “أفعى” معروفة تعيش حول جدول الماء جاءت تتدفأ بالغروب والتفت حول نفسها بهذا الشكل الذي جعل العصفورة الملهوفة تظنها عشًا” لكن تلك “الأفعى” تستمر في أداء مهمتها فلا تأكل البض الموضوع فيها، بل وتحافظ على “أطفال العصفورة” وتصبر على الجوع والعطش حتى يكبر الأطفال الذين يكبرون في حضنها ويكتشفون كون ذلك العش ليس إلا “أفعى” تبدو كأفعى “طيبة” مثالية …

وفي قصة “يلعب مع العالم” تتعاون “السماء” “بنجومها” و”البحر” ب”حيتانه الصغيرة” لممارسة اللعب مع “العالم”، ويعاتب “الليل” “السماء” لاعتبار “النجوم” تخصه وحده، فتهتف “النجمات” بأنها لا تخص أحدًا، ويداعبهم “البحر” بأن يرشهم بمائه ..

 (يلعبون جميعًا إلى ما يبدو أنه لا نهاية، وضحكاتهم تطير بينهم، وتمتزج بلعبهم: ملح، سماء، أجنحة، نجمات، ليل، طمي، سحابات، ضوء، تماسيح، نهار ، حيتان، شمس، مطر، ريح، نهر، جبل، قمر، ألوان، بحر، ولعب!)

هكذا نجد “الفخراني” قد شكَّل العالم بخياله، على نحوٍ يذكرنا بـ “الخيال الخالق” أو “الخلاّق” كما جاء عند “ابن عربي”، ولكن على نحو يمتزج فيه “الإبداع” في أعلى تجلياته بما يسميه هو “اللعب”، ذلك اللعب الذي لا يضع حدودًا أو قيودًا لأي شيء ولا لأي علاقة في “الحياة” بل يغدو معه “العالم” ـ كما يتناوله دائمًا في قصصه ـ  مسرحًا للمتعة المتجلية بكل أشكالها، مسرحًا للسحر والفن والموسيقى، لا مجال لأي بغض أو كراهية، حيث لا يوجد في الأصل عالمان، بل هو عالم واحد تلعب مع القصص والأشياء والمشاعر، يمنح البهجة بكل تجلياتها وفي كل مناطقها..

 (ليس أجمل من أن تلعب مع العالم) هكذا قدَّم “الفخراني” لهذه المجموعة، وهو ما يذكرنا بالتقديم الذي وضعه لمجموعته السابقة (قبل أن يعرف البحر اسمه) حينما قال (ليس أجمل من أن تخترع العالم) إنها ليست المرة الأولى إذًا التي يعيد فيها “محمد الفخراني” تشكيل العالم، وليست تجربته الأولى للخلق “باللعب”وما بين “الاختراع” و”اللعب” يتشكَّل ويبنى ذلك العالم الذي يرسمه الفخراني بكل دقة ويحرص على تفاصيله بكل شاعرية ..

 وعليه أعتقد أن “العالم” لابد أن يختلف، وتخلف رؤيتنا له بعد كل قراءة لما كتبه ويكتبه “الفخراني” في قصصه، ذلك “الخلق” المستمر والتجديد الدائم للعلاقات بين الأشياء، على نحو يجعل المرء يفكَّر في كل الأشياء حوله على نحو مغاير لما اعتاده أو لما هو معروف ومألوف ..

وأعتقد أن (قصص تلعب مع العالم) قد خطت خطوات أوسع إن في الخيال أو في التجاوز وكسر العلاقات التي كانت قائمة ومتعارف عليها عما أحدثه في مجموعته السابقة عليها (قبل أن يعرف البحر اسمه) وإن كان يسير بخطى ثابتة في ذلك العالم .. الذي لا نزال متشوقين لمعرفة الكثير من تفاصيله التي يخلقها لنا “الفخراني” في كل قصة!

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم