محمد فهمي
سامعني؟
يجلس شاب وحيد على أحد المقاعد المخصصة لانتظار المترو، عيناه تائهتان بين المارة. جلسته توحي بأنه في انتظار شخص ما، وكأن الزمن قد توقف به عند تلك اللحظة
حاولتُ قدر الإمكان ألا يراني وأنا أقف بالقرب منه، لكن بعد مرور عشر دقائق، تعمدتُ أن أنظر في عينيه، علّني أكتشف شيئاً يخفيه في صدره، ولا يجد من يبوح له
ها هو ينظر إليّ أيضا.. لحظة، إنه لا يراني. من المستحيل أن يكون كفيفا، يبدو أنه يتعمد تجاهلي، ها هو الآن يتجه نحو المخرج، يسير بخطوات مترددة، ثم يقف وحيداً مرة أخرى بجوار سور إحدى المدارس الابتدائية
يمر الوقت ببطء، والشمس بدأت تغيب فيما يذهب الجميع ويجيء، أما هو فما زال جالساً في مكانه. فكرتُ أن أجلس بجانبه لتبادل أطراف الحديث، لن أتركه وحيداً أكثر من ذلك. كنت في موضعه مراراً من قبل وأتذكر كيف كنتُ أتمنى أن أجد أحداً يسمعني، وهو الآن في حاجة إلى شخصٍ يسمعه كما كنت أنا من قبل.
لماذا بدأت عيناي تفيضان بالدموع؟
يا إلهي.. لقد تذكرت جلوسي وحيداً من قبل، وها هو الآن عيناه تذرفان بالدموع، إن تحدثت إليه الآن، ربما أزيد الطين بله، لا سأصمت سأكتفي بأن أحدثه من قلبي، وأرجوك أنت أيضا اسمعني بقلبك
ما بك أيها الشاب؟ لحظة.. ما هذه العلامة في إصبعك؟ هل هجرتك حبيبتك؟ أشعر بعمق الألم الذي ينهش صدرك الآن، تماماً كما شعرتُ به يوم سمعت تلك الجملة الشهيرة في أحد أفلام السينما “كل شيء قسمة ونصيب” .
لكن قل لي، لماذا تنظر إلى هاتفك كل بضع دقائق؟ هل تنتظر مكالمة من شخصٍ مهم؟ لا تقل لي أنك تنتظر مكالمة من والدك.
كنت مثلك تماماً حتى أدركت أن آباءنا في كثير من الأحيان لا يشغل بالهم سوى الطعام والشراب وينسون أننا بحاجة إلى من يصغى إلينا.
هل أخبرتك من قبل أنني لم أحظ بعناقٍ من والدى طيلة حياته؟ بل ولم أمتلك حتى صورة واحدة تجمعنا سوياً
اغفر لي.. ليتني أمتلك الشجاعة الكافية لأحدثك بصوتٍ مسموع. أتمنى أنك سمعت كل ما دار في خلدي، ولكن.. لماذا لم يشعر بي طوال هذا الوقت؟ حسنا سأحرك شفتيّ قليلاً، فقط لأرى إن كان سيفهمني أم لا
– سامعني؟
يا إلهي! إنه يحرك شفتيه هو الآخر
لحظة، دعني ارتدى نظارتي الطبية لأرى بوضوح.. نعم، الآن أستطيع أن أقرأ كلماته
– ايوه.. سمعك
ابتسمت دون أدري.. هل حقاً قالها أم أنني أتوهم؟
**
خالد
حينما كنا أطفالاً كانت آذاننا تتربى على مقولة: “الغربة تكشف معادن البشر”. لكنني لم أفهم معناها الحقيقي إلا حين انطلقت في أول رحلة اغتراب، وهناك التقيت بشخص واحد ترك أثراً عميقاً في ذاكرتي .. خالد.
– اسمك ايه؟
– محمد وانت؟
– خالد.. لو احتجت حاجه انده وقول خالد.
كانت تلك أرق الكلمات وأصدقها التي سمعتها في حياتي، كلمات نقية خرجت من فم طفل لم يتجاوز العاشرة، طفل لم تُغير طباعه قسوة الأيام التي تغير معادن البشر
الغريب أن هذا الطفل كان مغترباً عن عائلته وأصدقائه، لكن أكثر ما أثار شفقتي نحوه أنه كان مغترباً عن طفولته أيضا، إذ يعمل اثنتي عشرة ساعة يومياً لأجل لقمة العيش.
وبعد أيامٍ من حديثي مع خالد، ذلك العاشق لوطنه الأصلي، وذي الملامح السمراء والعينين العسليتين اللتين تغفوان من شدة الإرهاق والتعب، أيقنت أن المتغرب الحقيقي ليس هو .. بل عائلته
كان أبواه قد انفصلا بعد أن أنجبا للحياة بنتين وولداً، وكان هو أكبر إخوته. وبعد أن ترك والده البيت والعائلة وكل شيء، كان لابد لأحد أفراد العائلة أن يضحى من أجل البقية
– انا واحشاني المدرسة اوي
وعلى الرغم من اعتيادي على كلمات خالد الرقيقة، فإنني كنت أدرك أن في داخله صراعاً كبيراً كان بحاجة لأن يبوح به لأحد قد يشعر به.
كم كان يؤلمني حديثه عن اشتياقه لمدرسته ودراسته وزملائه ومعمليه الذين كانوا يشيدون بذكائه ومهارته في رياضيات.
كنت أعلم أنه يحن لطفولته أكثر من أي شئ آخر .. أن يخطئ ويصيب ويجد من يرشده، لكن من سيرشدك بعد أن هرب والدك من مسؤوليته؟
تمنىت من أعماقي أن تأتي يد تنتشله وتنقذ ما تبقى من براءة طفولته قبل أن تُشوه تماماً.
“يا محمد..يا محمد! ..خالي قال لي أرجع، وهيرجعني المدرسة”
قالها خالد وهو يقفز فرحاً بما سمعه في مكالمته الطويلة مع خاله، الذي عاد لتوه من الغربة.
دون أن يكترث لنظرات المارة من حوله، ولا من صاحب العمل، فقد كان على أعتاب عودته إلى موطنه، إلى عالمه الحقيقي.
وقبل لحظات من صعوده إلى حافلة السفر، جاءني يركض، احتضنني وهمس لي بآخر كلمات الوداع “ستمضي الأيام.. وستعود أنت أيضا يا صديقي”.





