قصتان قصيرتان

تشكيل
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

هبة حمدي

مات عُمر

ثمة لحظة لا تعود الأمور بعدها لسابق عهدها، ليس لفجيعة ما وقع، بل لشعور الذنب الذي ما إن يدخل قلب المرء لا يخرج، كبقعةٍ من الزيت: ما إن تفترش ثوبًا حتى يصير الخلاص منها مُحالًا.

يقف عمر كعادته، مستندًا إلى الحائط، أمام المطبخ يسأل باقتضاب عن الطعام. تجيبه المرأة أنها أعدت الفاصوليا. ينبعج وجهه، يطرق الحائط بقدمه بعصبية: “تاني؟ ولا هو عشان مازن بيحبها تبقى مُقرر؟” يمضي صوب الباب؛ تسأله المرأة في حيرة أين يذهب! صفع الباب خلفه وهو يصيح: “في أي داهية، هآكل في حتة تانية.”

حين يموت عمر، سيتربع الذنب داخل نفسه، والنقمة على زوجته لأنها كانت السبب في موته بحسب رأيه، والذنب لأنه خلّفه معها، لأنه تزوجها من الأساس!

يكون قدر البعض الفقد؛ فقد الأب زوجته الحسناء في عام زواجهما الأول وهي تضع مولودهما الأول، فعجز أن يُلملم نفسه بعد فقدها. هون عليه وجود شقيقته العزباء التي تبنَّت عمر، وتعامله كما لو أنه ولدها. وهو ابنٍ تسعٍ ماتت، تشبّث عمر بلحدها وكان ينشج: “رجعولي ماما، أنا عايز ماما.”

لأنها قدمت الحب والعطاء، كانت تحبه بحقّ، وتفضّله على نفسها في كل الأمور؛ تقوم على كل شؤونه، تحضر الأشياء قبل أن يطلبها، ورغم أنها كانت مريضة بمرضٍ مزمنٍ إلا أنها ابتلعت مرضها ومضت ترعاه.

ليس على البعض أن يكونوا على ذاك القدر من الجمال، من المحبة، من العطاء —عطاء المشاعر—، حتى لا يصير رحيلهم قاصمًا، حتى لا نقف بعدهم عاجزين عن تجاوز الصدمة؛ لأن الحياة بعدهم لن تستقيم، لأن المكان ليس هو ذات المكان في حضورهم، لأنه تبدّل كلية.

حين تزوج أبوه امرأة أخرى لترعاه، وهو الذي لم ينسَ زوجته، لكن للدنيا أحكامها، تشاجر معها عمر منذ ساعتها الأولى في البيت وخلال ست سنوات، خصوصًا بعدما أنجبت؛ سيكون الوضع بينهما محتدمًا دائمًا. لكنها أقسمت له بأنها لم تفعل شيئًا، وأنه هو الذي رفع صوته؛ لم تُتح لها الفرصة، قالت إنه لطالما عاملها هكذا بفظاظة وعدم قبول، وأنها تحملت ما تطيقه وأكثر. بكت على صدره، واستجدته ليغفر كل ما حدث، صاحت أيضًا قائلةً إنها هي من تستحق الاعتذار لكل ما فعلته وتحملته. بكت كثيرًا، وقالت إنه كان ولدًا مميّزًا لطيفًا في العموم وذكيًا، لولا أنه لم يقبلها.

وقال هو إنها لم تقدّم كفاية، لم تقدّم كما قدّمت أخته —عمة عمر— له.

لكن لا يمكن أن نحاكم البعض احتكامًا لأفعال آخرين.

على مدار عام كامل ما برح المشهد يتمثّل أمامه: مكالمة أحد الجيران، معرفته أن عمر صدمته سيارة وهو يعبر شارعًا قرب البيت، ركضه داخل الشركة، صراخه في الشارع، وصوله إلى المستشفى التي ضمّت فيها عمر الضمّة الأخيرة. لم يلحق أن يعتذر له، أن يتناوشا، أن يُنهيا حساب الأعوام الماضية، أن ينفث عنه شعور الذنب والتقصير الذي بقي متسربلًا به.

 

**

لو أننا لا نُلقي الكرة في ملعب الرب!

 

طوال الوقت أستهلك وقتًا طويلًا للتعافي!

تعطل المصعد بي وأنا في الصف السادس، مكثتُ شهورًا لا أستخدمه، نعود سويًا، تستقل أمي وأختي المصعد، وأهرع أنا إلى السلم لأصعد خمسة أدوارٍ بمفردي. بعدها بشهورٍ كسرتُ حاجز الرهبة وصرتُ أصعد شريطة أن يكون أحدهم – أي أحد – معي. لا أذكر أني عدتُ أستقله بمفردي إلا ربما بعد مُضي عامين مثلًا!

وأفكر اليوم أنه ربما لو طمأنني أحدهم، وشرح لي الأمر ببساطة، وناقش معي أسوأ النتائج، وربّت على كفي ووعدني أن يكون معي في المصعد دومًا، لربما جاوزتُ الأمر أسرع!

وحين حصلت على درجةٍ سيئة جدًا في الرياضيات، ووقفت أصلي وأدعو الليل بطوله على مدرس الرياضيات وامتحانه العسير، وعلى جهدي الطويل الذي ضاع في المذاكرة، لم يخبرني أحدهم أنه قد يكون هذا هو ديدن الحياة فيما بعد، وأننا سنذرف مئات المحاولات في عشرات الطرق، ولن تُجدي!

ظننت وقتها أني إن بكيت للرب وصليت، سيعاقب المدرس ويشفِ صدري ويعوضني، لكن شيئًا لم يتغير!

وحين مرضت في السابعة عشرة دعوت وصليت، وقلت أنتظر التعويض، وأخذت أرص الموجودات حولي وأتفحصها وأتبين منها الجزاء والتعويض!

وربما في كل الأوقات وكل الأمور، لم أرد إلى كفٍّ تُربّت وتقول إن ذاك يحدث، وإن الأمر سينقضي، أو أن تشد على يدي وتخبرني ببساطة أن نُجرّب مرةً أُخرى.

دون أن نُلقي بالكرة في ملعب الرب، فنتمدد أمامه انتظارًا لنجدةٍ تسقط من السماء، تُنقذنا وحدنا!

وبقيت بعدها أستجدي الرب في كل نازلةٍ ومع كل طلب، فأذاكر وأسأله أن أنجح، وأشترك في مسابقات كثيرة وأتضرع إليه أن يتدخل فيجعلني أفوز، وفي الثورة صليت ليالي كثيرة، كثيرةٍ كثيرة، واستجديته أن يسحق الظالمين ويُمكّن لعباده!

وكنت في كل هذا أتخفى، فأمارس حزني سرًا، وأمارس صلاتي ودعائي واستجدائي سرًا!

وصرت ثقيلة، ثقيلة كغيمةٍ مُعبّأة بمطرٍ لا مفر من أن يهطل، فصرت أصيح في ماما طوال الوقت وأتهمها وألوم عجزها، وكانت أمي الربَّ الذي ألومه، فألومه، وألعن في النهاية ركونها اللامبرر وهدوءها المُضجر!

وحين تفاقمت الأمور اصطحبوني إلى معالجة، أخبرتها عن حزني الأبدي، وعن تفتيشي اللامنقطع عن الرب، فقالت بهدوء وابتسامة: دوري، روحي اسألي وفتّشي، أنا معنديش إجابة!

ومذْ وقتها وأنا أبحث، في البداية بخوف، ثم بصدمةٍ من فرط ما تَكشّف، بألمٍ حينًا، وبسعادة العارف أحيانًا!

وأدرك الآن أن السؤال هو نقمة الإنسان الأولى ووباله، لأنه وما إن يطنّ السؤال في عقل المرء حتى يصير مُحالًا طرده أو إخماده!

لكن، ولربما لو مدّ أحدهم يده ذلك اليوم، لو ناقشني بهدوء، لو قال: لمَ لا نجرب؟ لربما كفاني شر السؤال وصدمات الأجوبة!

 

 

مقالات من نفس القسم