نور الدين كويحيا
بُقعة خوفٍ سقطت سهواً عن مِحبرة اللَّيل.
ونحن،
الذين لا نجيد الحزن،
ولا البكاء.
حين يُعتم اللَّيل في قلوبنا
نقول : هذه أعراض مرضٍ ما؛
مرضٌ في القلب ربما، في الرئة.. زكامٌ،
أو حمَّى مُفرطة، أو أي شيءٍ ٱخر…
لكن الحزن! نحن لا نحزن.
وحين ينظر أحدهم لعيوننا
يلمح سواداً
يسأل: هل أنتم حزانى؟
ولأننا لم نتعلم كيف يحزن المرءُ
ولم يلقِّنوننا في المدارسِ
الطريقة المثلى لنعبِّر فيها عن أحزاننا.
نجيب: هذه بُقعة خوفٍ
سقطت سهواً عن مِحبرة اللَّيل.
وحين نمشي
تظهر أجسادنا مقوسةً.
ومن يرافقوننا يُنبهوننا أننا على وشك
السُّقوط.
ونحن لم نشخ بعدُ
لم تحتَّل التجاعيدُ وجوهنا
—لكنها، نصبت شِراكها في قلوبنا—
نعدِّل قاماتنا؛
مستقيمةً
وجوهنا تنظر إلى الأمام، كالسِّهامْ.
غير أننا سرعانَ ما نعود إلى هيئتنا
إلى خوفنا…
إلى حزننا.
فكيف يمكننا أن نُخفي هذه الأحزان
التي في جوفنا،
وهي كل حينٍ تتراكض هائجةً كقطعانِ ثيران؟
مرةً جاءني الحزن غامضاً؛
إذ احتلى مرايا البيت
وكلما حدَّقت في إحداها
وجدت وجهي مليئاً بالكدمات.
— يقولون أن الحُزن ينهض ليلاً
يغادر القلب ويوجه ضرباتٍ موجعةً
لأجسادنا، ثم يعود إلى وكره—
ولأمنع الشَّك قلت في وجلٍ:
هذه خدوشٌ في المرآة…
هذه خدوشٌ في المرآة ليست في وجهي!
ومرة جاءني واضحاً؛
إذ ركن إلى الزَّوايا
وكلما حدَّقت فيها، لمحتُ:
وجهاً شاحباً..
عينانِ يغشاهما السَّوادْ.
قلتُ: قطٌ مشرد دخل البيت ذات صُدفة
أو ربما ضوءٌ انعكس على الجدار.
مازلت إلى اليوم
كلما ارتعدت نبضاتُ قلبي
أقول: هذا ليس حزناً…
أنا لا أحزن،
هذه جلطةٌ خفيفة،
أو أن القلبَ، قلبي؛ يدرِّب نفسه على الشَّيخوخة.
خطيئةُ اللّيلِ المكرَّرة.
رأيتك أيها اللَّيل تتسلل خفيةً نحو غرف الأطفال —أولئك الذين يمارسون الدمع ويجيدون حياكة الحزن— تضع العتمة في قلوبهم، وتعلِّق سوادك في أعينهم البريئة. رأيتك أيها اللَّيل تصطاد أحلامهم التي لازالت في المهد وتصيِّرها عتمة أخرى. رأيتك أيها اللَّيل تصطاد سعادتهم وتهديها للرِّيح، لذلك عندما كبروا كانوا دائماً يبحثون عن شيء ما، ويلجؤن للإبتعاد كأن في البُعد نجاتهم. رأيتك بكل السواد العائم في قلبك، وبكل النجوم الخافتة المُتدليةِ من عنقك تقتل براءتهم وتشيِّعها قبل بزوغ الفجر.
عندما كبروا، تساءلوا كثيرا، لماذا نحن حزانى؟ ولماذا كلما مضينا نحو الفجر تسبقنا العتمة وتطفئه؟ ولماذا ليس لنا حلم كالآخرين، حلم نمشي إليه، حلم نشيِّعه حين تقتله الحياة؟
مضوا جميعا، يتلمسون الجدران الصدئة، والعتمة ترافقهم، والوحدة تشيخ معهم، والحزن يحفر بمعوله قلوبهم الهشَّة. كانوا أطفالاً بسطاء، كانوا يربون أحلامهم على مهل، ويربتون على وحدتهم حين تضجر من صُحبتهم، كانوا حائرين لكنهم لم يسألوا يوما: لما نستيقظ في الصباح ونجد أحلامنا قد اختفت؟ ولما نحنُّ للعتمة؟ هم بسطاء لم يدركوا أن أحلامهم هي العتمة التي تنبض في ليلهم.
أدركوا ذلك عندما كبروا، لذلك أمضوا حياتهم المتبقية في التساؤل. ولم تكن الأجوبة جاهزةً حينها، ولم تُخترع بعدُ الكذبات البيضاء لتكون جواباً على كل أسئلتهم، أو ربما لم يكن هناك أحد ليكذب.. ليسكت حيرتهم.
أيها اللَّيل! ارتكبت جرماً. ولازلت تعيد أخطاءك؛ تقتل البراءة، وتصيِّر الحُلم عتمةً، وتشرِّد السَّعادة في الرِّيح!
الحلمُ القديم…
أتذكر الحلم الذي زرعته جانب الشجرة التي لا تبخل بظلالها؟ كنت حينها طفلاً شجياً يحب الحياة. كنت حينها مولعاً بما تخبئه السَّروة من حكمة في نضجها، وقد ألهمتك بأن تتخذ الطرق كلَّها مساراً نحو النضج.. نحو الحكمة. وعندما خضعت لما ألهمت به قلبك الطري، ركضت في كل الطرق، وضيعت حلمك، إذ خلفته وراءك ينمو وحيداً تحت الظِّلال.
ها أنت ذا ناضجٌ كالثِّمار المستعدة للقطف، لكن، أيها النَّاضج من يقطفك من شجرة الحياة الوارفة ليهديك لطرقٍ لا تخبئ في أحضانها تعباً، ومنافي. من يقطفك، ليس طمعا في الطيبة التي تُبلل ملامحك، بل حباً؟
ناضجٌ أنت، علَّمتك الحياة بكل الطرق، فاكتسبت حكمة، وبحكمتك اخترت أن تنعزل بعيداً، لكن لا بعيد يأويك، أنت طيرٌ مشرَّد. والحكمة التي ظننتها تحميك؛ هي التي تسِّن الخنجر الذي يطعنك!
كبرت كثيراً، تشرَّبت صنعة الشُّرود حين يطرق الطفل الذي كنته بابك، فتهب كريحٍ ثقيلة وتعصف به إلى البعيد.
كبرت، لكن في داخلك حنينٌ ما. حنينٌ نحو شيء ما. نحو مكان ما.. نحو حلمٍ ما!
تذكرت أيها النَّاضج.. الحكيم، أن لك حلماً تركته ينمو تحت الظٍّلال، زرعته بحب، وخلَّفته وراءك عندما اتجهت نحو طرق الكبر، وهاهو الحُلم جانب الشَّجرة، يوماً بعد يومٍ، يطاله اليباس، ويمتد الذبول من جذوره نحو البتلات…
لكنك، بكل الحكمة الباسقة في عقلك، وبكل النُّضج المُطل من سواد عينيك وقلبك، لم تتجه نحوه لتسقيه.
ماذا حلَّ بك؟ قسى قلبك مع السنوات، والبراءة البيضاء رحلت عن أغصانك، ماذا حلَّ بك؟
كبرت، وطالك أنت أيضاً أيها النَّاضج.. الحكيم، يباس الأيام!
نوافذُ وأجساد
وحين تَتهاوى البيوت وتظل النَّوافذ طافيةً في فراغٍ أزلي
سنطِل مِنها على وحدتنا.
على حياتنا التي لا يمكن أن تُرى من نافذةٍ عادية.
سنرى أجسادنا تدورُ في حَلقة مُفرغة.
تقبض على الهواء
تَنفخ فيه فيغدو حلماً،
يُحلِّق الحُلم كأي طيرٍ تَحثُّه جناحاه ألا يبقى أسير العش.
ثم بصبرٍ، وببلاهةِ قطةٍ تُلاحق ضَوء اللِّيزر الأحمر
نَراها تُركض وراءه، ويبتعدُ كلما أوشكت على لمسه.
ثم في غَمرةِ هذه المُلاحقةِ اللامتناهية
يتلاشى الحُلم دخاناً
وتسقطُ أجسادنا أرضاً
تَلتحفُ بالخَسارةِ
وتَكتب قَصائد للنَّجاةْ ..
وبما أن هذا العالمَ لا يؤمن كثيراً بالشِّعر.. فهي إذن، لا تنجو طويلاً.
—ويظلُ هذا النَّسيج يطول،
وتتكرر فيه ذاتُ المَشاهدِ—
إلى أن تغفو أجسادُنا بسلامٍ أو ربما بِتعبْ
على صدر التُّرابْ
وتَنسى، وتُنسى
كأي جسدٍ مرَّ من هنا، ورحلْ.
…………….
*شاعر من المغرب