قصائد من ديوان “شوكة الراوي العليم”

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

” تصّوف”

انتبهتُ فجأةً للزمن

الذي يزور حبيبتي ليلاً

ويُطفئها كلما جاء الصباح..

ملأتُ البيت بالستائر الثقيلة

فانزلقَ من بين الخيوط..

ستَّفْتُ أخشاباً و ظلالاً

وبَنيْتُ جدراناً

فعادَ طيفاً وظلَّ يضحك..

جلستُ أبكي

فقالت يا عبيط

كلما قَبَّلْتَنِي

حَبَسْنَا اللص

في شق الحائط

وعدتُ وردةً

تسقيها الحكايات..

“حَمَامةٌ لا تنظر خلفها”

رغم أني حاولتُ سنين طوالاً أن أهرب من مهنة أبي إلا أن العِرْقَ ماكرٌ و دسَّاس والقَدَر غالباً ما يوقعكَ في حفرةٍ يهوى أن يغطيها ليضحك.. كان أبي ساحراً قادراً ويده طائلة وجارتي درة المدينة وشمسها.. تسحرني بعينيْن تطيران كل صباح لأعلى وأنا خلفهما وتهبطان جسدي فيعودَ صفاءً أخضر وقلبي تفاحة تتعصى على الظلام.. ثم تبدلت حياتي في أيامٍ عَكِرةٍ ومتلاحقة، ماتت حبيبتي من الحُمَّى أو بالأحرى ذبحتها البنات بغيرتهن الكافرة، واغتالت الصاعقة أبي وهو يتحداها فوق السطوح ولم تترك منه إلا المفاتيح التي قفزت في حِجْري، تنخسني كل مساءٍ وتَنبحُ وتقول لا مفرَّ يا غريب.. الصناديق السوداء تناديكَ، وأنتَ بلا ادعاء أو كذب، لا تفكر ولا تحلم إلا بأخوتك وسَنَدكْ، بالعفاريت التي تبتهل أن تصدقَ معكَ وتعيد سيرتها مع الراحل الغالي.. الحقيقة أنني لم أُرِد الخوض في اللعبة إلا لأجلكِ يا حبيبتي.. لأجلِ عَظْمَةٍ صغيرةٍ من عظامِك.. العِظام اللينة التي نمتُ كثيراً في حضن ظلالها الناعمة.. أودُّ أن أحفرَ على العَظْمَةِ دمَ قلبي          و أرنِّم مع الشياطين بصوتي الطالع من أبعد بئر، لتعود بعدها فاتنتي تدبُّ قرب قلبي وتقفز بين الحقولِ.. اليومْ.. و منذ ساعةٍ بالضبط.. أدْرَكَ قلبي قبل أن تُعْلمني الأطياف أن أمي ستموت ثم تطير الحمامة البيضاء التي تسكن صدرها منذ وُلِدتُ.. لربما قرر قلبها الذهبي أن يهيئ لي الفرصةَ كي أملأ البيت بالبوم والذئاب و الغربان وأن يُشَيِّد المرآةَ بطول صورةِ أبي فأكتشف نفسي القوية القادرة.. أنتظرُ الفجر وأسعى نحو قبر حبيبتي، أسعى كالقَدَر.. أطيرُ ويملأُ أنفي، عطرُ جنةٍ وارفة..

“الدوران في الغابات و الصحاري”

بالأمسِ، و في حكاية جدتي، كنتُ غجرياً وكانت حياتي أجمل.. أطيرُ في أصغر علبةٍ على أبعد رفٍّ في الدكان المهجورِ، ببهجةٍ تلمسُ الملاك في عمقهِ، وأحدِّقُ في عيون الشتاء فيتناسل المطر ويرفعني الفلاحون على الأعناق.. كان عملي وسِرِّي الذي خلقه الله على مقاسي هو الموت، أداعبه وألعب معه وأهذب غضبه وأقص أظافره ثم أدورُ في الغابات و الصحاري و البحار لجسِّ كبريائهِ.. آخذ نَفَسَاً عميقاً و أفتحُ عينيَّ لألتهم الرقعة المرشوشة بالأحجار وكلما عوى الذئب وبان القمر في كَفِّ الحسناء، أُبصرُ ما لا يبصرون: كيف أن الفتى الذي حارب شياطين القرى وامتص عزيمتهم سيُمسي قتيلاً بعد حفرتيْن، واحدة هي روحه الظمآنة للجدِّ المهيب والثانية هي قلبه المردوم في ضحكة ابن العم.. أشوف مأتمه وصراخ أمه و أترك نظراتي تصعدُ ببطءٍ لأقتنص نور عينيها الذي أخذ في التلاشي.. الموت اليوم غضبانٌ لكنه للحق لم يكن من قبل يبخل عليَّ بأيام خفته وسروره، ليس هذا فقط بل سأجازف وأقول إنني علمتُ كيفَ يمسي جباناً وضعيفاً.. أذكرُ مثلاً رجفة الوردة في عروة أمير صغير وكيف نسى الموتُ دموعه في الطريق إلى المذبحة فغرق الأنبياء واللصوص.. ويوم كان الصيادُ يعلو ويعلو فوق الأمواج ويقترب من عَيْن الشمس، خاف الموتُ و ارتعد.. قال هذا رجلٌ حياته مرت ببساطة من دون هيْبتي وعَظَمتي.. كان يتحدث وهو غائمٌ و قلبه لا يرى إلا ظلاً عظيماً أكبر من الدنيا وما فيها، يستحق أن يحل محله ويصير هو المَلِك.. ملك الماضي و الحاضر والشجر و الذكريات.. نحن الغجر المبدعون ولتحيا دوماً ألعابنا التي تكشف المخبوء وتعيد الخلق.. سأعجنُ الآن سُمَّاً وأفردهُ على ظهر غَيْمةٍ كانت تمرُّ بالصدفة كي يصفو ويجري على لسان هذا العجوز بالحكمة والنور.. سأقلِبُ كل شيءٍ لأعيد كل شيءٍ لكن لا مفر من الاعتراف أنني أرتبك أحياناً وأعجزُ كثيراً، عن أن أجبرَ جدتي على مجرد دقائق أخرى أقفُ فيها وأعدو.. في حكايةٍ ربما تكون هي الحياة..

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يصدر عن دار بتانة .. في معرض القاهرة الدولي للكتاب 2023

مقالات من نفس القسم