“حياة ثانية لقسطنطين كفافيس” رواية تحبك فضاءها من مقتطفات وقصائد ومراسلات للشاعر، الذي يقف بلا حراك أبداً، عند زاوية منحرفة عن الكون، بتعبير فورستر، كما من أصداء صورته عند الآخرين.
تتأسس الرواية، التي تستدرج حياة ممتدة بتفاصيلها وأماكنها وأزمنة تتقاطع وتتشابك، على ما هو فعلي وحقيقي، مثلما على ما هو غير مؤكد، وبعيداً من الحقيقة في الوقت نفسه. فكل حياة كفافيس، طبقاً للرواية، قابلة للتأويل وإعادة النظر وللبناء والهدم معاً.
ويلجأ طارق إمام، من ناحية أخرى، إلى «اللعب الفني»، واستعمال حيل أسلوبية وتقنيات سردية، فمن تكنيك الرواية داخل الرواية، إلى «الإيهام» والزج بالقارئ في متاهة من الشخصيات، التي تنسحب تدريجاً من حقيقتها لتصبح وهماً. في ضوء هذا التلاعب، بدت الرواية، تجل لواحدة من المقولات الأساسية لكفافيس حول الفن، بحثاً عن الطريقة المثلى لتحويل الحقيقة إلى وهم، ومنح الوهم مذاق الحقيقة.
تاريخ شخصي
يتوالى التاريخ الشخصي للشاعر، الذي لم يترك سوى القليل من القصائد، ولم يحظَ بالشهرة إلا بعد موته، ضمن تاريخ أكبر وأوسع هو مدينة الإسكندرية، المريضة به، على حد تعبيره. تطل المدينة، الضاربة في القدم، مثل كابوس، وتغري بالتعري والاهتياج. مدينة فقيرة وشاحبة وأشبه بمسخ أوروبي غائب في الابتذال، مدينة لصوص وكارهين… وتبدو غاربة على الدوام، حتى في أشد النهارات سطوعاً.
تجنب صاحب «هدوء القتلة» تبجيل سيرة كفافيس، الذي يعد أحد وجوه الإسكندرية في لحظة من تاريخها، وأباح لنفسه تأويل حياة صاحب «أيها الجسد تذكر» على هواه، تحويرها، أو تحريفها من دون اعتبار لسطوة أدبية وتاريخية، أو حساب للأخلاق، حتى عندما كان يبدو أنه يمتهن جسد كفافيس وينكل به.
تهيمن المثلية الجنسية، التي تعد الملمح المثير في شخصية كفافيس، على جو الرواية، تتحول رغبات الجسد وشهواته الشاذة، إلى مطل أساسي على حياة صاحب «إيثاكا»، ومفتاحاً رئيساً لفهم أطواره الغريبة، وكشف أسرار شخصيته المعقدة. يظهر كفافيس في مشاهد تثير الشفقة أحياناً، عندما يرتدي ملابس أمه ويضع الأصباغ على وجهه، أو وهو يفتش، بطرق شتى، عن ضحاياه لإشباع لنزواته الجنسية، مهاناً وهو ينتهك جسده العجوز، بحثاً عن ملذات مهلكة. بيد أن كفافيس يضع مثليته الجنسية، التي طبعت شعره، في أفق فلسفي. فالمثلية، كما يقول في الرواية، تمنح النفس القدرة على الإصغاء، وهو ما يستحيل في علاقة مع امرأة، «مع الرجل، فقط، يمكنك أن تعثر على اختلافك، وبالتالي على تلك المنطقة المجهولة من الفردية التي نظن العثور عليها سهلاً».
تبدأ رواية طارق إمام من اللحظة التي وصل فيها كفافيس الإسكندرية، في تشرين الأول (أكتوبر) 1932، عائداً من أثينا، بعد إجراء جراحة في حنجرته بسبب مرض السرطان، برفقة عشيقه، هو في الوقت نفسه الوصي على أعماله، الكسندر سينجو بوليس، الذي يؤلف رواية عنه. في الصفحات الأولى سيتعرف القارئ على تلك اللحظات الرهيبة التي يعانيها صاحب «في انتظار البرابرة» جراء فقدانه لصوته، الذي سيبحث عنه تحت الوسادة وفي الشوارع التي لا تفضي إلى شيء. ويستمر زمن الرواية الحاضر طوال الأشهر القليلة التي عاشها بعد هذا الحدث المأسوي، الذي كلل حياته الشائخة، وخلال ذلك يراوح زمن الرواية بين الماضي البعيد والقريب، في محاولة لردم الفجوات وسد الثغرات في سنوات حياته المديدة (أكثر من 70 عاماً).
لكن عن أي رواية نتحدث هنا؟ عن رواية الكسندر سينجو بوليس، التي يريد لها أن تكون مخطوطاً يلائم المدينة الغامضة، التي لا يمكن أحداً العيش فيها، من دون أن يكون لديه ما يكتبه في الخفاء، وتتألف من سبعة فصول تأخذ عناوينها من أسماء قصائد شهيرة لكفافيس، الذي وجدت أشعاره طريقها إلى العربية بجهود لافتة من الشاعر رفعت سلام ومترجمين آخرين، أفاد طارق إمام منهم جميعاً، ويستهل كل فصل بمقطع شعري؟ أم الرواية الإطارية الأخرى، التي تقدم الكسندر كشخصية روائية؟ يبدو الأمر مربكاً أحياناً ومشوشاً، وسترافق هذه الحال القارئ طوال الرواية، ولا سيما مع تقدم السرد، الذي تتنوع فيه الضمائر، ويمضي أفقياً.
رواية داخل رواية
ولئن كانت الرواية داخل الرواية، تبدأ عقب عودة كفافيس مباشرة من أثينا فاقداً صوته إلى الأبد، وتستعرض حيوات لشخصيات، مصرية وأوروبية، تتجاور في الفصل الواحد، بيد أنها تتباعد في الزمن، ويظهر كفافيس قاسماً مشتركاً بينها، فإن الرواية الأخرى تظهر في هيئة نقاش حيوي حول صورة صاحب «المدينة» في رواية الكسندر. كما تقدم تأملات الشاعر اليوناني، حول قضايا ومواضيع لها علاقة بتجربته الشعرية، ورؤيته للأخلاق والمثلية الجنسية والفن والشعر اليوناني وموقفه من جمالياته، حتى لتبدو هذه الرواية، في ملمح منها، إفشاء لأسرار الكتابة.
الشخصيات التي تحضر بقوة في رواية الكسندر، من لحم ودم، ومن وهم وخيال بالقدر ذاته، بيد أنه لا وجود لها سوى في ظلال كفافيس، أو بين سطور قصائده. هذه الشخصيات تمثل ما يشبه المرايا المتعددة، يعكس كل منها تفصيلاً من حياة الشاعر، الذي آثر العيش في عزلة، تفصيلاً يجعل منه صاحب «طيور جديدة لم يفسدها الهواء» لحظة مديدة، تعكس كل ما حولها وما هو قريب منها. واحد من هذه الشخصيات فورستر، الذي يرتدي بذلة الضابط، والمتطوع في الصليب الأحمر، الذي نتعرف معه إلى أهوال الحرب، وهو من عرف الأوساط الثقافية الغربية بوجود شاعر أوروبي جنوب المتوسط، وقدمه أيضاً وجهاً آخر للإسكندرية.
وعلى رغم هذه المرايا يبقى كنه الشاعر اليوناني، الذي يتغلغل شعره في حقب تاريخية، متوارياً، بعيداً من أن تعكسه مرآة في حال من الوضوح. في كل مرآة يتعقد المعنى وتزداد الشكوك. مرايا تؤكده لغزاً ولا تفلح في تجلية شخصيته، المثيرة بشذوذها وبتناقضها، فهو في النهار ذلك الأروستقراطي المتأنق، أما في الليل فيحيا حياة شائنة في الأحياء المدقعة، ويهب نفسه بتهور متعمد لمن يقايضه، وفق نقاده.
نرى كفافيس، في رواية طارق إمام، وهو يواظب على قراءة الرواية، التي هو بطلها، خلسة أثناء غياب الكسندر، جالساً داخل شقته في شارع ليبسوس، يدوِّن ملاحظات صارمة حولها، لا تخلو من اقتراحات وتساؤلات تنم عن حس نقدي عالٍ، وأحياناً إعجاباً ممزوجاً بالحنق. لكن مع استمرار التلصص على حياته داخل الرواية، يشعر بالخشية من أن تبدأ حياته الواقعية في محاكاة ما سيحدث في الرواية.
كفافيس، الذي استطاع معالجة شذوذه من دون عاطفية، «من طريق هروبه من اللغة المهترئة والصور المجازية والأنغام التي امتازت بها رومانسية القرن التاسع عشر…»، وفقاً لبيتر بيين، سيواجه خطر استعداده لأن يصدق أنه يجهل ذاته، عندها يقرر منح الكسندر أشياء مهمة، يشعر هو بحاجته إليها، «من دون الحقائق كيف سيحولني إلى شخص من خيال؟». يترك له قصاصات وردوداً على رسائل وهمية، ويقوم بارتجال قصص ويخترع شخصيات، يعطيه حيوات ليس من بينها حياته، باتجاه أن تكون الرواية تأريخاً لأوهامه. تتطور هذه اللعبة في الرواية، في ما يشبه العقاب لألكسندر، كلما أولى مثلية كفافيس اهتماماً أكبر، حتى ليغلب هذا الملمح «الإشكالي» في حياته، على ما سواه.
إزاء رواية كهذه، لا يمكن تجاهل السؤال حول «تمثيل الآخر» أو علاقة الأنا بالآخر؟ طبعاً يمكن العثور على ما يشبه الجواب هنا، لكن طارق إمام أعطاه طابعه الخاص، كروائي تشغله الجدة الروائية، وأفاض عليه من رؤيته، فجاء كل ذلك ملتبساً وإشكالياً. من ناحية أخرى، فإن الحماسة لهذا الموضوع الروائي بامتياز، والتحدي، تحدي الكتابة عن شخصية معروفة في نطاق واسع، جعلا صاحب «حكاية رجل عجوز كلما حلم بمدينة مات فيها» لا ينجح في كتابة رواية ضخمة 552 فحسب، إنما أيضاً يضعنا في عمق لحظة إنسانية مديدة ومعقدة.