قراءة في نصوص طارق إمام السردية ( طيور جديدة لم يفسدها الهواء ) و ( شارع آخر لكائن )

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

د. مدحت الجيار *

للكاتب " طارق إمام " صياغات خاصة في القصة القصيرة العربية المعاصرة ، فما كتبه يجعله متميزاً وسط هذا الجيل من الكتاب ، بل نحس هذا التواصل الحي مع بعض كتابنا من الأجيال السابقة مثل يحيى الطاهر عبدالله و غيره ، أولئك الذين كتبوا القصة القصيرة  بروح الشعر و بتكثيف صُوَري جعل ما يكتبون قصة ذات دلالات مفتوحة ، بل مطلقة ، تصبح قابلة للتأويل و القراءة في كل وقت و في أي وقت ، لأن تصويرها الشعري و الإيقاع غير المنتظم للغة الكتابة و تراكيب الجمل ، ينقلاها إلى عالم متميز ليس هو العالم المتاح بسهولة بقدر ما هو العالم المتاح بلا تكاسل .

 قدم طارق إمام عملين مهمين في هذا السياق ، هما ( طيور جديدة لم يفسدها الهواء ) عن دار شرقيات عام 1995م ، و ( شارع آخر لكائن ) عن سلسلة إبداعات بالهيئة العامة لقصور الثقافة عام 1997 م .

 و المجموعتان تتواصلان ، فلغة الكتابة واحدة ، و تنويعات الموضوعات تتشابك حتى أننا نجد تواصلاً واضحاً ليس بين لغتي المجموعتين ، و إنما بين بعض العناوين و الموضوعات ، الأمر الذي يجعلنا قادرين على أن نبادل نصوصاً بنصوص من داخل مجموعة لأخرى دون أن تقع خسائر ، و دون إحساس بتغيير ما ، و يزيد الأمر حيرة .. ماذا لو جعلنا العملين عملاً واحداً ؟

 أيضاً لن نخسر شيئاً ذا بال  لأن العملان يصدران من تصور واحد و من رؤية جمالية واحدة ، أثرت فيها لغة الكتابة و طريقتها في توحيد المقامات كما نقول في علم الحساب ، و يكون لفاصل التاريخي الزمني النسبي فاصلاً مؤقتاً و عادياً ، ليس وفق خطة الكاتب و إنما حسب تاريخ ميلاد القصص و اكنمال المجموعة لتصبح قابلة للنشر .

ومن هنا لن يفيد الكاتب أن يذيل بعض قصصه بتاريخ ميلادها ، لأنه تاريخ غير مؤثر إلا إذا وضعنا في الحسبان إرادة الكاتب في أن يربط بين نص بعينه و تاريخ بعينه قد نكتشف في النهاية انه تاريخ ميلاده مثلاً ، و كان من المستحسن أن يواصل طارق إمام كتابة التواريخ  في كل قصصه لأنها ــ في هذه الحالة فقط ــ ستكون مفيدة للكاتب و الناقد على السواء ،فعبر المجموعتين لن نرى غير تاريخ ــ الغياب 10 / 3/ 1995 م / أكوبر 1995م ، فبراير 1994م ،مارس 1994 م ، أكتوبر 1993 م ، يوليو 1993 م ، يونيو 1994 م ، ديسمبر 1992 م ، مارس 1994 م .

في المجموعةالثانية ، وهي تواريخ غير مطردة لأنها تتقدم و تتأخر عبر السنين و الشهور ، كما هو واضح من كتابتها ، و يعني هذا أنه تدخل في بعضها بالحذف و الترجيح خاصة في القصص الأولي من المجموعة الثانية و هي ما بين ( 1992م ــ 1995م ) .

بينما نجد المجموعة الأولى قد صدرت عام 1995 م و فيها تواريخ كتابتها من ( 19 / 11 / 1994م ) حتى ( 2 /1/ 1995م ) و هي الفترة نفسها التي كُتبت فيها المجموعة الثانية ،و الواضح أن ظروف النشر لم تخدم ظروف الكتابة ، الأمر الذي ساعد على بيان المجموعتين مجموعة واحدة .

و تكشف معالجة لغة النصين عن هذا التوحد البنيوي بين كتابت طارق إمام ، الأمر الذي يحتم على الناقد أن ينسى أنهما مجموعتان ، و أنهما نشرتا في أوقات محددة أو كتبتا في أوقات متداخلة .

 

2

السرد عند الكاتب سرد قصصي شعري يلفت النظر بهذه الخاصية الشعرية و روح الكتابة عالية التطهر التي يخيل للقاريء أنه شعراً خالصاً مستعيناً صاحبه بتقنيات سردية كالشخصية ، و الزمان و المكان و الرمز و التصوير و الكثافة ، بل يراعي فوق ذلك أن يكون العمل ممتداً ، له لغة ممتدة ، تقيم النص على محاور تتعدد في الكتابة و تتحد في الهدف .

و هذا واضح في قصص أو سرديات المجموعتين ، و إن كان في المجموعة الأولى يفتت الأرقام حتى تصل إلى عشرة أرقام ، و يضع تحت الرقم احياناً سطرين . إلا أنه في المجموعة الثانية أوصل الأرقام في القسم الأول إلى ستة و عشرين ، و في القسم الثاني أوصلها إلى عشرة ، و جعل مكونات الوحدة سبعة نصوص ، أي أنه أفاد من خبرة صدور السرديات في المجموعة .

و اختيار لشكل السردية متعددة الوحدات يعني أنه لا يكتب السردية في جلسة واحدة ، لأنه ينطلق من فكرة الكتابة الانفعالية اللحظية التي تنبثق منها اللحظة السردية عفوية محملة بشاحذات الشعر و المشاعر ، و لا يتأتى للكاتب هذا الأمر في أي وقت ،من هنا يتخلى الجيل الجديد من الكتاب عن فكرة كتابة النص الواحد في جلسة واحدة ، أو عن فكرة كتابة النص الواحدالذي يمسك بعناصره خيط الحكي و القص ، و بالتالي تعوض لغة الشعر ما كان يتمتع به النص السابق من وحدة التأليف . إننا أمام وحدة فنية جديدة ، هي وحدة الصياغة ، ووحدة اللغة بديلاً عن وحدة التأليف في الجيل السابق .

 وليس بعيداً في هذه الطريقة من كتابة السرد ، ان تضم وحدة من تاريخ إلى وحدة أخرى من تاريخ آخر ، لأن لغة الكتابة تخفي هذه الظاهرة و لا يلمحها إلا المتربص لهذه النوعية الجديدة من الكتابة . هنا ــ أيضاً ــ تختفي النصوص في الأرقام و تختفي الوحدات التالية التي وصلت إلى ثلث المجموعة الثانية على سبيل المثال .

 وبالتالي يصبح إنجاز هذه السرديات في لغتها بالضبط مثل الشعر حين يكون إنجازه في لغته المتميزة وإيقاعه المطرد، وهذا هو سر اقتراب السرديات من الشعريات والعكس، بشرط إلا يفقد نوع أدبي خصوصياته وتمايزاته ومنجزاته التاريخية، وليس علينا تثريب إذا أسمينا النوع الأدبي باسمه الحقيقي دون أن تموع حدود النص وحدود النوع وحدود الفن، وليس معنى أن تبهرني لغة النص أن استسلم لأي مسمى يفرضه على الكاتب أو الناقد، لأن رصد الخصائص الجمالية وتصنيفها هو المدخل الحقيقي للتسمية، من هذا أكرر تقديري لطارق إمام لأنه يندفع مع أي موجة في تسمية النص المعاصر، بل صنع ما كان يجب أن يصنعه الآخرون، كتب على غلاف المجموع (طيور جديدة لم يفسدها الهواء) ولم يصنفها وترك الأمر مع السرد، بل اشتبك مع بعض قصائد جيله والأجيال السابقة ليشير إلى حدة اللغة، دون أن يصنف نفسه.

وهذا شعور واع بأنه يكتب شيئا جديدا، ونحن النقاد نسميه سردا شعريا تمييزا له عن القصيدة وعن القصة في مفهومها التقليدي، ذلك أن مصطلح (سرد) الآن يستوعب الراوي والسارد حين يروي أو يسرد جملة أو وحدة أو نصا أو مجموعة. من هنا فهذه نصوص سردية فيها الراوي السارد البطل الشاعر في وقت واحد، ونعيد أن صفة الشعرية جاءت من طبيعة التراكيب اللغوية ومجازها التصويري، ومن الرموز التي لا تنتهي فتعد مئات الرموز في هذه السرديات الشعرية.

 

3

نحن أمام عالم طفولي سوريالي، يكسر الحدود بين العوالم ويمتعك لغويا وسرديا، لكنه يخفي غرضه ويخفي رسالته داخل تراكيبه دون أن يفصح برسالة اجتماعية أو سياسية، إنه يدخلك في غابة الرموز والأقنعة ويتركك تبحث عن رسالته، ويتركك وسط ركام هائل من العلاقات السوريالية بين الأشيء والبشر لتفك شفرة النص.

وهيهات أن تصل إليها هي بل لا بد أن تحرف الرسالة عن موضعها الموجود في وعي الكاتب بسبب هذه الحواجز، فعليك أن تقدر لقدمك موقعها في هذه الغابة.

والسبب المباشر، أنه يعطيك متعة في المتابعة وشغل الخيال حتى تنتهي من القراءة، فتعوضك متعة عن متعة أخرى، ونجد الطفل يشغلك منذ الوحدات الأولى، يقول: “أخفى الصغار حقائبهم خلف عربات من شمع وبدأوا في صنع اغنيات المطر، حل الطائر الحارس مبللا يحصي – من جديد – ست عصافير… ص 16( طيورجديدة).

 هل ستسأل أيها الملتقي عن الزمان أو المكان أو نوعية الحارس أو دلالة المفاتيح والشمع ورمز العصافير؟، لقد أدخلك عالما هو مؤلفه وتركك تلملم الدلالات والفضاءات، إنك استمتعت بالنص، فلماذا تسألأ عن شيء آخر؟!.

وهل ستبحث معي عن دلالة واحدة للنص الواحد، إنها الدهشة أيها المتلقي والانبهار اللذان يمسكان اللسان عن التعليق والعقل عن الحكم والقلم عن التفسير، فماذا تقول – معا- في دلالة قوله:

“فتهاوت الزهور” ..  أنت الآن في حلقة أحكمها الكاتب عليك، وأعطاك حرية الدوران فيها فقط، لن تخرج منها حتى ينتهي هو من السرد والشعر، وحتى تقر له بأنك استمتعت وبهرت ودهشتـ لن تسأل هنا لماذا أصبح النص وحدات صغيرة لا يربطها إلا خيال سردي قد ينقطع في بعض الوحدات التي تحس أنها لا تهم لو حذفناها من النص كله، فهذا كما أسماه طارق إمام (أفق المنشدين).

ولن تسأ ل الكاتب حين يكون جريئا ويصوغ فعلا عربياً من كلمة غير عربية حين يقول على سبيل المثال:

(كانت السماء تحيل إلى السماء، و للقط عينان شردتا على من “يورنش”  جناحيه بطلاء الأظافر) ص 25 (طيور جديدة) ، أو حينما لا يراعي  قواعد النحو في قوله ( بينما الجناحين يهبطان ) ص 37 م 1 إذ كان عليه أن يقول ( الجناحان ) ، و كذلك حين يقول (له عينين من زجاج ) في نفس الصفحة و صحتها ( له عينان ) . أو حين يقول في ص 39 م 1 ( فغر القط فاه ) يقصد ( شفاهه ) لأن فاه و حدها دالة على الموضع ، أو حين يضع ألفاٌ في ص43  ( أتى نافخوا ) يقصد ( نافخو ) و ربما تكون خطأ مطبعياٌ

و ليس أمامك إلا أن تستمتع بمتتالية ( كان ) ص 63 ، أي حين يكررها عامداٌ في مفتتح كل فقرة ، إنه يحدد اللعبة و يرسم شروطها و أنت لا تعترض لأنها لغة جميلة ، و حين يجعل الوحدة  جملة فعلية من خمس كلمات ص 69 م 1 ( وجدوا أيدهم  على أصل الفطرة ) لأنه يعتقد انها كافية لتحل محل قصة كاملة أو كأنها خلاصة وحدة أو قصة بأسرها .

و ما نراه في المجموعة الأولى ينفجر في المجموعة الثانية  ( من حيث النشر ) حيث نرى أن الكاتب و قد انطلق يحدد أصول اللعب الشعري و السردي و يضيف إلى ذلك خيالاٌ شعبياٌ جميلاٌ بحق ، ليس مجرد عالم ألف ليلة و ليلة في المجموعة الأولى  إنما عالم شعبي عربي وغربي من (أليس في بلاد العجائب ) ، و (عقلة الصباع ) إلى حكايات ( المسخ ) في ألف ليلة و ليلة ، إلى عالم السحر الواضح .

لقد استبدل طارق رموزه الأولى و وضع مكانها السحر السردي الشعري ثم الشعبي ليوظفه توظيفاٌ جديداٌ يشبه هذا التوظيف الفني للعفريت ، و رجل العنزة في ( حكايات للأمير حتى ينام ) ، و( أنا و هى و زهور العالم ) ليحي الطاهر عبد الله .

هنا فعلها طارق باقتدار طوال المجموعة الثانية . نختار منها وحدة سحر خاصة لأن فيها عناصر وا ضحة لخلق التناقض بين عالم الظاهر و عالم الباطن في تراثنا الشعبي ، خاصة أننا نجد  بالوحدة شيخاٌ ، سمكة و الشيخ يلقي خطبة الفناء .

(…  كل كل من عليها فان ، فأى وجه بقى ؟ .

السمكة اقتلعت من بين يدي المطرب الميكروفون ، و نفخت فيه فانشقت الأرض عن زميلاتها ، و خرج الشلال من الثقوب السوداء .

الشيخ أعاد صياغة السمكة و قذف بخياشيمها في خليط الخل و الماء ، فعلها التوبة و قضى على الوباء .

غير أنها خرجت –  بعد ما فعل ما انتوى أن يفعل – تشعل الزميلات بنظرة و تطلق الغناء ..) .

و نجد أنفسنا ، و قد آمنا بضرورة الرمز في نصوصنا الجديدة ، لأنها امتداد لرموزنا الشعبية القديمة التى أخفى فيها شعبنا كل آلامه و أحلامه و خطط خداعه للغريب و الأجنبي ، فالراويان الساردان الشاعران القديم منهما و الحديث يتواصلان في مثل هذه الكتابات الجديدة ، و ليس بعيداٌ أن تتواصل عناصر من تراثنا لتصبح من مكونات الحداثة ، و هل تصلح الحداثة من دون ذلك ؟ ، و تستغنى حداثتنا العربية عن هذه المكونات الفنية التى تعب فيها من قبلنا و ميزها عن  سائر السرديات الشعبية في العالمين القديم و الوسيط ،حتى غدت جزءاٌ م حداثة الآخر؟!

     أعتقد لن نستغنى عن هذه المنجزات الشعبية ، كما لن يستغنى عنها الآخر ، و هو يجدد حداثته بالتكنولوجيا ، سيضع ( أليس فى بلاد العجائب ) بجوار ( أوليس ) ، و سيضعهما بجوار القصص و السرد الجديد للخيال العلمي ، بل و لا يزال الآخر يستمتع برحلات السندباد البحري ، و هو يقود أحدث السفن في البحر و في المحيط ، ليست الحداثة رأساٌ مقطوعاٌ عن جسد ليدخل في جسد آخر، بل الحداثة رأس يتجدد بكل منجز حديث في العلم و الفن و الأدب ، و هو واصل مع جسده الذى يحمله حيث يريد الرأس ، ليست الحداثة منبتة الصلة مع التراث الخلاق القادر على الحياة مع الجديد و الحديث و المعاصر . هكذا رأينا حداثة النص عند طارق إمام ، ممزوجة بعناصر تراثية حية ، ليست مربكة للقارىء بل تتواصل مع مكوناته الثقافية و الذوقية، و تعطيه حداثة النص و اللغة و الرؤية و الراوي ، إنه راوي جديد حديث يحكي بلغة خاصة .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* ناقد و أكاديمي مصري .

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم