شهرة بلغول
شهدت الرواية الجزائريّة خلال السنوات القليلة الماضيّة بروز الاشتغال على تيمة الجريمة، مستعينة بتقنيات السرد البوليسي في مطارحتها لقضايا مجتمعيّة أعقد وأعمق من مجرد التشويق والتسليّة، ومن أبرز النصوص الروائية التي شغلت الساحة النقديّة في هذا المجال نذكر: سكرات نجمة لأمل بوشارب، طير الليل لعمارة لخوص، اختفاء السيّد لا أحد لأحمد طيباوي، نهاية الصحراء لسعيد خطيبي، وقد بدا هذا الخيار – على اختلاف تمظهراته- منسجمًا إلى حد بعيد مع نزعة مساءلة التاريخ السياسي والاجتماعي في أبعاده الهامشيّة بعيدًا عن التقيّد بنمطيّة الخطاب المركزي الذي طبع العديد من التجارب الروائيّة على اختلاف مراحلها.
تستعيد رواية نهاية الصحراء للروائي سعيد خطيبي، الصادرة عن دار نوفل/ هاشيت أنطوان سنة 2022، حقبة حرجة من تاريخ الجزائر المعاصر، هي خريف 1988 الذي شهد أكبر أزمة سياسيّة واجتماعيّة أعقبت الاستقلال؛ لكنّها تتجنّب الخوض في حيثياتها المباشرة، مكتفيّة باستحضار مقدماتها وتتبّع ظلالها التي ارتسمت على مسرح الحياة الاجتماعيّة، لتلتقط التفاصيل الحياتية لفئات هشة ومهمّشة؛ لكن هشاشتها لا تعني براءتها، بحكم أنّ لكل منها يد ملطّخة بآثار الجريمة التي اختار الكاتب لها رمزيًا مقتل مغنيّة شابة عثر على جثتها في منطقة صحراويّة نائية، للإحالة إلى وضعيّة المرأة في مجتمع مكبّل بإرث ثقيل من عنف الذكورة المجروحة، ولعلّ هذا المنحى في المعالجة يعكس إلى حد ما الرغبة في التحرّر من خطاب نمطي تعوّد نمذجة البطولة واختزال الحقيقة في أحد أبعادها.
يزيح الروائي المحقّق عن دوره التقليدي في السرد البوليسي، مسندًا تحقيقًا موازيًا للمحاميّة نورة التي تتولّى تتبع تفاصيل الجريمة، عبر نسج حوارات جمعتها بمختلف الشخصيات التي تقاطعت مساراتها مع الضحيّة، فتفتقت بذلك سجلاّت أخرى لضحايا ومجرمين مفترضين، أغفلتهم أعين السلطة وحراسها (لعلّ إهمال التحقيق البوليسي لشريط الفيديو في الجهاز الذي عثر عليه عند الضحيّة فيه إشارة ضمنيّة إلى ذلك)، فغدت هي الأخرى مدانة بوصفها طرفًا أسهم بطرق شتّى في ارتكاب الجريمة، لا الحفاظ على النظام، بدءًا بالتحالف بين السياسة والمال الفاسد وليس انتهاء بالتحالف بين السياسة والدين.
يحيل عنوان الرواية “نهاية الصحراء” ومنذ البداية إلى غياب المخرج، بحكم أنّ التصوّر الأقرب عن الصحراء يرتبط عادة بالتيه الذي ينتهي بالموت، وتأتي صورة شريط الفيلم والمقص على ظهر الغلاف لتضفي التباسًا ينجلي شيئًا فشيئًا بعد تتبع مسارات الحكاية التي كان فندق “الصحراء” مسرحًا لأحداثها، وقبل أن تطلعنا الرواية على نهاية هذا المكان الذي بدا هو الآخر هامشًا احتضن الحياة ومباهجها، وسط محيط تعطّلت فيه محركاتها دون أن تجفف منابع التوق إلى معانقتها، ممّا صيّر العمر محطة انتظار طويل لمواسم الهجرة نحو الشمال (العاصمة أو أوروبا)، تأتي الجريمة لتكشف الوجه الزائف لهذه الحياة، والطعم المرير للبهجة التي صنعتها نساء لفظهن المجتمع خارج حدوده، بعد أن سحق أحلامهن، فغدت الحياة في كنفه هروبًا مؤقتًا من الهاوية التي ابتلعت الجميع.
يخيّل إلى القارئ أنّ الزمن في هذا النص متواطئ مع المجرم ليذيقه هو الآخر مرارة الجريمة، إذ يبدو بطيئا يطوّق مصائر الشخصيات كقيد فرض عليهم لا طاقة لهم على الفكاك منه؛ محوّلاً أيامهم إلى حلقة مفرغة من المعنى، وعلى الرغم من حرص الروائي على التوثيق الزمني للمقاطع التي توزعت على مدار أربعين يومًا مثّلت رمزيًا فترة الحداد التي أعقبت مقتل زازا (زكيّة)؛ فلا شيء يوحي بأنّها وضع مؤقت أو استثنائي، إذ تستمر حالة العطالة واللا جدوى التي تؤطر مصائر الشخصيات قبل الجريمة وبعدها، هذا ما يكتشفه كل من بشير وإبراهيم بعد خروجهما من السجن، فلا شيء يتغير على مستوى الوعي بالمكان والزمان سوى الانتقال من سجن صغير إلى سجن أكبر.
تقوّض الرواية دعائم السرد البوليسي التقليدي، الذي يفتتح عادة باكتشاف الجريمة ثم تتبع المسارات لفك خيوطها من قبل محقق لا تثنيه المصاعب عن تحقيق هدفه وتمهيد الطريق أمام العدالة، أمّا هنا فتبدو صورة المحقق شاحبة، مرد ذلك أنّه كان هو الآخر ضحيّة إزاحة سلطويّة، نقل بمقتضاها إلى هذه المنطقة الصحراويّة النائيّة عقابًا له من مديره؛ لكن هذا لا يجعل منه ضحيّة مثاليّة؛ إذ تبدو انتهازيته في استغلال زازا وتحويلها إلى مخبرة تتبّع خصومه مقابل التستر على اختفائها وهروبها من أسرتها، فضلاً عن سعيه للتخلّص من عبء القضية بالعثور على كبش فداء (بشير)، ليأتي قرار إعادته إلى العاصمة لينهي دوره الهامشي في التحقيق الذي لا ينتهي بإلقاء القبض على الجاني وإنّما بحلول الفوضى واتساع دائرتها.
تغيب عن هذا النص معاني البطولة بمختلف تجلياتها (فردية وجماعيّة)، وفي المقابل تتعدّد الجرائم التي تغدو قاسمًا مشتركًا بين الجميع، واضعة مفهوم الجريمة والعقاب موضع مساءلة من المنظورين الأخلاقي والفلسفي، كما يستثمر الروائي ومنذ البداية نصًا روائيًا رومانسيًا استشراقيًا هو رواية “الشيخ” للكاتبة إديث مود هول (1919) ليعارض الفكرة الرومانسيّة عن الحب الذي يمثل بوصفه سبيلاً للخلاص؛ ويقوّض الصورة الاستشراقيّة المتخيّلة عن الصحراء؛ إذ يقابل بين تجربتين عاطفيتين، كانت صحراء الجزائر مسرحًا لأحداثهما: حب الشيخ أحمد بن حسن لديانا في رواية الشيخ، وحب بشير لزكيّة (زازا) في نهاية الصحراء؛ فبينما انتهت الأولى نهاية رومانسيّة حالمة منسجمة إلى حد بعيد مع الخلفيّة الاستشراقيّة، كان مصير الثانيّة نهاية مأساوية داميّة برؤية واقعيّة خالصة، إلاّ أنّ القاسم المشترك بينهما هو جريمة الاغتصاب بأبعادها الواقعيّة والرمزيّة وما ألحقته من تشوّهات نفسيّة على مستوى الشخصيّة، فضلاً عن العقد المجتمعيّة التي كانت عاملاً من العوامل التي أسهمت في تشويه العلاقة بين الرجل والمرأة وبين الغرب والشرق، محوّلة إياها إلى علاقة قائمة على الاستحواذ والهيمنة بدل التواصل في بعديه الإنساني والحضاري.