ممدوح رزق
يبدو على ميادة الحزن كما هو حالها أغلب الوقت خصوصًا في الأيام الأخيرة.. أسألها: مالِك؟
تنظر لي ولا ترد ثم تبدأ في المشي ببطء إلى داخل المقهى وأنا أتحرك مع خطواتها ببطء أقل متمنيًا ألا ينتهي اليوم نهاية سيئة.. نجلس فوق طاولة بعيدة إلى حد ما عن بقية الموجودين.. تقول لي بنبرة اتهامية منهكة:
ـ أنت لا تسأل إلا لتطمئن على نفسك.
ـ ألم يحن الوقت كي تتخلصي من هذه الاعتقادات؟
ترتفع نبرتها فجأة وتقول بغضب: أنت لا تساعدني على هذا.
ألتفت حولي مستكشفًا إذا ما كان صوتها قد جذب انتباه أحد من الجالسين.
أسألها مبتسمًا ومدعيًا الهدوء: ممكن نحافظ على نقاشاتنا داخل حدودنا فقط؟
ـ صوتي لم يكن عاليًا.. أنت الذي توهم نفسك دائمًا أن الناس يعيشون في تأهب مستمر لالتقاط أي خجل أو ارتباك أو توهان يبدو عليك حتى يشبعون رغبتهم في السخرية منك.
أنظر إلى رجل يبدو في بداية الخمسينيات يجلس على طاولة مجاورة لباب المقهى برفقة شاب وفتاة في منتصف العشرينيات تقريبًا بعد أن سمعته يخاطبهما بصوت جهوري:
ـ لابد على كل كاتب أن يبذل أقصى ما لديه من جهد من أجلي كقارئ.
أشخر شخرة واطئة محافظًا على ابتسامتي وأنا أعيد وجهي ناحية ميادة بملامح تكتم ألمًا مفاجئًا وأقول لها:
ـ هذا الرجل يبدأ الآن في ضرب خصيتي.
تقول ميادة بضيق ونفاذ صبر: حاول ألا تركز معه.
ـ كيف؟.. ألا تسمعين قوة صوته؟.
أسمع الرجل يصيح مجددًا:
ـ لابد أن يكرّس كل اهتمامه وحرصه على أن يجذبني لمواصلة قراءة روايته، وألا أتركها دون إكمالها.
أغمض عينيّ كأنما أجاهد لتحويل ما أسمعه إلى كابوس طارئ سأفيق منه حين أفتحهما.. أحاول الانشغال عن الرجل وأسأل ميادة بعد تبدد ابتسامتي:
ـ أخبريني، ما الذي يغضبك؟…
ـ كالعادة.. قلة نوم.. كوابيس.. قرف في الشغل.. صحاب ولاد وسخة.
ـ ألم نتفق على عدم الضغط أعصابك من أجل أحد؟
ـ هل تهتم أصلا إذا كنت متضايقة أو أضغط على أعصابي أم لا؟.. أقول لك لماذا تهتم.. لأنني حينما أكون في تلك الحالة لا أستطيع أن أكون معك.. صحيح؟!
أفكر متسائلاً: متى ستقطع علاقاتها بجميع أصدقائها حتى أضمن أنها لن تتحدث معهم عني.
أدير وجهي عنها مبتسمًا وأنا أهز رأسي بإشارة عدم التصديق أن جنونها قد وصل بها إلى هذا الظن الظالم.. أسمع الرجل ذا الصوت العالي يقول للشاب والفتاة:
يأتي كاتب عائش في الدور يتفذلك على دين أبونا، ويقول إنه يكتب لنفسه أولًا، وللقارئ الذي يمكن أن يشاركه تجربة النص بأي طريقة.. مثل هذا يكون كاتبًا فاشلًا، ويداري عجزه بالتنظير العدمي الغرائبي التفكيكي مابعد الحداثي عن القارئ النوعي الذي يتفهم أفق الإبداع ودلالات النص.
أقول لميادة وأنا أضم قبضتيّ فوق أذنيّ جازًا على أسناني: أنا فعلًا محتاج أعمل تنظير لطيظ العرص ده.
ـ أرجوك، أتركه في حاله.
ـ كيف؟.. الخراء الذي يتبرزه من فمه يصل لغاية عندي.
ـ أنا من ساعة ماعرفتك وأنا أتأكد كل يوم أنك لا تهتم بشيء يخصني إلا إذا كان له علاقة بمتعتك.
يزعق الرجل في الطاولة الأخرى مجددًا للشاب والفتاة:
هل ماركيز كان ممكن يقول هذا؟.. هل كان ماركيز يكتب لنفسه أو لقارئ نوعي أو أي من هذا الهراء؟.. ماركيز كتب للجميع وأرضى الجميع وأحبه الجميع.
أقول لميادة مشيرًا إلى الرجل والشابين:
ـ أنا متأكد أن هذا الشرموط اصطاد هذين الشابين من على موقع جودريدز، وجمع بينهم حب مصطفى محمود وإحسان عبد القدوس ويوسف السباعي، وكراهية بو وكافكا وبورخيس.. أنتِ لا تعرفين كم أنا مهتم بكِ، والمتعة التي تتكلمين عنها هي أمر يخص وجودنا معًا، حفاظ كل منا على الآخر، وليس مجرد شيء محكوم بالأنانية كما تتصورين.
تشعل ميادة سيجارة بعصبية ثم تقول بصوت مرتفع أكثر من ذي قبل كأنها تهتف في مظاهرة:
حسنًا.. أنت الملاك وأنا الشيطانة المعقدة.. أنا التي تفسّر الاختلاف بين وجودك معي في السرير، ووجودك معي خارجه تفسيرات خاطئة وسيئة.. أنا المريضة الوحيدة على هذه الطاولة، لا وفي المقهى أيضًا، وفي العالم كله.. ارتحت كده؟.
يلتفت جميع الجالسين في المقهى إلينا في صمت بما فيهم الرجل والشابين.. أشعر أن الموجودين في الممر الخارجي سيدخلون لمشاهدتنا الآن واستكمال بقية العرض.. لا أنظر في عيني أحد بل أظل ملصقًا نظرتي بوجه ميادة وأنا أقول لها بنفس الابتسامة المدعية التي تخبئ توترًا عظيمًا، وبحرص على رفع صوتي كي يسمعه الذين وصل إليهم هتافها:
لكني سمعت إن الكاتب الكبير أحمد مراد ينوي إقامة حفل توقيع في سوق الجمعة…
أسمع الرجل يعود لمخاطبة الشاب والفتاة قائلا لهما:
ـ ماركيز كان يعرف أن القارئ دائمًا على صواب، وأن الكاتب الحق هو القادر على توصيل إبداعه لكل متلقٍ مهما كانت مستوياته الثقافية.
أقول لميادة التي وضعت رأسها بين راحتي يديها، وعيناها اللتان على وشك البكاء مجمدتان فوق سطح الطاولة:
هذا الرجل يجب الإشارة له في الأبحاث العلمية باعتباره مكوّنًا من فساء الكلاب.
فجأة ينهض الرجل مغادرًا طاولته ليتقدم نحوي وعلى وجهه مزيج من الاستياء والتعجب بينما الشاب والفتاة يتابعانه من مكانهما.. يوجّه حديثه لي بعد أن أصبح على بُعد خطوة واحدة من الكرسي الذي أجلس عليه:
هذا رأيي وأنا حر، ومن حقي ودوري في الحياة أن أساعد الشباب الصغير على معرفة الحقائق التي ستنفعهم في المستقبل.
أنهض من فوق الكرسي وأقف في مواجهته وأقول له: أي حقائق تلك التي ستنفعهم!.. إنك لو أخذت هذين الشابين إلى بيتك، واغتصبتهما ثم قتلتهما، وقطّعت جثتيهما، ورميت أشلائهما للحيوانات الضالة لكان أرحم لهما من الترهات البضينة التي قلتها عن ماركيز.
ـ ماذا تعرف عني كي تقول هذا؟.. عليك أن تعلم أنني لست مجرد قارئ عادي بل قارئ موسوعي، كما أنني كاتب قصة وباحث في التاريخ وأكتب في النقد الأدبي لذا ما أقوله عن ماركيز ينبغي بالضرورة أن يكون صحيحًا.
ـ تعتقد أن ما قلته عن ماركيز صحيحًا؟!.. حسنًا؛ لماذا لا نسأل ماركيز نفسه عن الحماقات العميقة التي نسبتها إليه.. ها هو السيد ماركيز…
ثم أشير إلى يساري فيلتفت الرجل الواقف أمامي ليجد غابرييل غارسيا ماركيز على وشك دخول حمام المقهى حين ناديته فتوقف.. أقترب أنا والرجل منه ثم أشير لميادة أن تأتي وتنضم إلينا فتترك الطاولة والدموع تتدفق من عينيها المملؤتين بخيبة الأمل وأطلب منها أن تترجم لماركيز ما قاله الرجل إلى الإسبانية التي تجيدها وتسأله عن رأيه.. ينصت ماركيز إلى ميادة باهتمام في حين أظل أنا و”فساء الكلاب” نتابعها حتى انتهت، وهنا بدأ ماركيز يتحدث وهو ينظر إلى الرجل بسخرية، وميادة تترجم كلامه:
هذا رأي عبيط بالطبع، فهناك كثيرون في العالم لم يحبوا “مائة عام من العزلة”، وهذا لا يعني أنني أخطأت في شيء تجاه هؤلاء، أو أنني لم أبذل جهدًا كافيًا لجعلهم يحبونها، ولو كان الأمر كذلك لكان كل الذين أصابهم النفور من “ذاكرة غانياتي الحزينات” لأسباب أخلاقية ـ وما أكثرهم ـ لديهم الحق في إدانتي لأنني لم أرض ذلك النوع من الاحتياج لديهم، أو لأنني مارست اعتداءً على ثوابتهم؛ فأنا لم أكتب لهؤلاء الذين يحاكمون العمل الأدبي بهذا الشكل.. مهما كان الكاتب مشهورًا وذا جماهيرية أو متصفًا بالعظمة عند جموع قرائية في جميع أنحاء العالم فإنه يكتب ذاته وليس خليطًا من الوصفات المشبعة للقراء كافة أو لمعظمهم كما يتخيل.. وحتى القارئ الذي يتصوّر ذلك الكاتب أنه يخاطبه أثناء الكتابة؛ هو جزء منه، يحمل سماته وهواجسه وغموضه وفقًا لإطار يحدس بإمكانية قابليته لمشاركة الآخرين الذين قد يشبهونه، أو قد يُخلق لديهم دافع ما ربما لا يكون متوقعًا للتورط معه.. الكاتب الذي يكرّس جهده لإرضاء القراء أفضل له أن يعمل قوّادًا.. أستأذنكم الآن لأنني على وشك فقدان السيطرة على مثانتي.
تنتهي ميادة من الترجمة وهي لا تزال تجفف دموعها ثم تشير لماركيز بعد عبارته الأخيرة أن يتفضل بدخول الحمام الذي يسرع إليه وهو يفتح سوستة بنطلونه بينما أحدّق مبتسمًا بشماتة إلى وجه الرجل المتجهم الذي يبدأ في التحرك بصمت ثقيل عائدًا إلى طاولته التي اختفى الشاب والفتاة منها.
…………………
*من المتوالية القصصية “البصق في البئر” ـ قيد الكتابة.