الشخصية الرئيسية (أكره “الرئيسة”؛ تذكرني بسوزان مبارك، أو بحسني مبارك بالأحرى) في روايتي ستكون لامرأة، حرصا على ألا يعرف أحد مصدر الرواية. هذه المرأة لا تريد أن تكتب رواية عن نفسها شأن “أحمد رجائي”، ولكنها، مثلا، وقد عاشت طول عمرها محاسبة في بنك الائتمان الزراعي، تريد أن تمتلك قطعة أرض، وهي تعرف أشياء عن “مندل” من أيام الثانوي، وطلع في دماغها ذات صباح، بعدما حلمت بأختها، التي ماتت في شبابها وفي بيت حبيبها، (فالحبكات الفرعية مهمة) أن تؤلف في هذه الأرض نباتات جديدة. تريد المرأة أيضا أن تكون الأرض بين مجتمعين من مجتمعات الصحراء المستزرعة، التي لا هي قرى، ولا هي واحات، ولا وهي حتى سجون. وهي طول الرواية تحارب فقر خيالها: كل النباتات التي تتصورها لا تخرج عن نباتات مرمية في الجنة منذ ما قبل خلق الخليقة، وكل البيوت التي ترسمها لأيامها الأخيرة تنتهي على ورق المكنة ـ كما يطلقون في البنك على الورق مقاس A4 ـ قبورا موحشة في صحراء موحشة.
عندها أولاد؟ ثلاثة ربنا يخلي. عندها أحفاد؟ خمسة في عين العدو، وأصغرهم “طه” ـ قال يعني “طه حسين” بجد ـ يقضي عندها كل سبت لترتاح من رعايته جدته لأمه التي سبقتها بسنوات إلى المعاش. عندها جيران؟ مصر بخير والله ولا تصدقوا الإعلام.
ولكن الراتب الكافي (الذي تقرض منه ميدو الصغير ليكمل الشهر ثم لا يرد القروض بسبب السهتانة التي ظنتها آسيا امرأة فرعون فاتضح أنها هند بنت عتبة) والأبناء المحبين، والجيران، والونس، لا تبرر لحياة انتهت أن تستمر. أو لا تبرر لتغيير وجب أن يتأخر، أو يهمل بالمرة؟
هل لهذا علاقة برجوع الشيخ؟ لست واثقا، ولكن، هكذا يكون التقليد.
*
ما معنى أن يكون عمل قابلا للتقليد؟ ما معنى أن يكون عمل فني قابلا للتقليد؟
معنى ذلك، أو من معاني ذلك، في ظني أنا على الأقل، وفي هذه اللحظة على الأقل، أن وراءه قدرا أقل من الروح.
أقول الروح ولا أقول التجربة. أقول وراءه ولا أقول فيه.
*
أول مرة كتبت فيها عن كتاب لـ “محمد عبد النبي” كان بمناسبة صدور رواية قديمة له هي “أطياف حبيسة”. وكان مما قلته في ورقتي ـ التي تلوتها تلاوة البيان في قاعة من قصر ثقافة نجيب الريحاني ـ إن عبد النبي لن يكون محتشدا يوما لكتابة بمثل ما كان محتشدا لكتابته هذه. كانت الرواية ـ أو بدت لي ـ سيرية. وتلك كانت الموضة أيامها: كل واحد يكتب روايته، حكايته الشخصية، اللصيقة، الحميمية، يكتب عما يعرف، يمارس الصدق، الأخلاقي وليس الثاني الفني الذي لا أعرف معناه أصلا.
القصد. أطياف حبيسة رواية وراءها تجربة. والآن أنا أقول الروح، ولا أقول التجربة.
*
ثم إن عندي أنا أيضا رواية اسمها “رحلة سوسو”. وهي ـ بما أنها رواية ـ قابلة للتقليد. ولأن أحدا قد لا يعنى بتقليدها فأستطيع أنا أن أقلدها، ولن يكون هناك داع هذه المرة للمبالغة في الاحتياط. فلا ينبغي تحويل الشخصية الرئيسة (أكره “الرئيسية”؛ تذكرني بسوزان مبارك، أو بحسني مبارك بالأحرى) من امرأة إلى رجل، يكفي تحويلها من شابة تتعلم على يد شاب كيف تهرب من حياتها بالخيال، إلى عجوز تتعلم بنفسها كيف تهرب من حياتها إلى مزرعة خيالية في صحراء موجودة.
ليست مشكلة رجوع الشيخ إذن. ولكن الروايات ـ أرجو أن تكونوا اقتنعتم الآن ـ قابلة للتقليد.
*
وهناك ما لا يقبل التقليد.
*
وليس عدم القابلية للتقليد قيمة في ذاته. فالبصمة غير قابلة للتقليد. وجلد الحمار الوحشي غير قابل للتقليد. والحرافيش تقليد لأولاد حارتنا، والاثنتان عظيمتان.
عدم القابلية للتقليد سمة. بهذه البساطة.
ثم إنني ببساطة أيضا يمكن أن أتنازل عن كل ما كتبته من قبل باستثناء أن هناك ما لا يقبل التقليد.
*
مما لا يقبل التقليد عند “محمد عبد النبي”:
كم تخيلتك هكذا تماماً؛ بلا وجه.
أنت مجرد صورة في مرآة، ماذا تريد؟
أنا أيضاً عرفت الحب، يا معزتي!
وأنا؟ ما اسمي بعد أن أصابك الصمم؟
يا يده، يا أصابعه، من هو؟
هذه يدي؛ مد يدك لو كنت هناك.
وكان لي صاحبان، أكلهما الضباب، وخرجت وحدي.
امسح دموعك، أنت مانيكان، لا وقت للعبث!
ألن تسمح لي بالنوم ولو قليلاً يا طيفه؟
تصبحين على خير يا مرآتي.
في فراشي متسع لأحلامك؛ فقط لو تنام هنا.
هؤلاء ضمن مجموعة شارفت على الخمسين أو تجاوزتها. كتابات أطلقها “محمد عبد النبي” مؤخرا من خلال حسابه على فيسبوك. ومن قبل أطلق الكثير غيرها، والكثير.
ذلك أنه يحدث في ليلة، كل بضعة شهور، أن يصفو مزاج محمد أو يتعكر، أن يحضره عفريته أو يتخلى عنه، أن يسكر أو يفيق، يحدث له شيء ما فيقعده، ليمضي في نشر هذه المنمنمات:
هل يكتبها في لحظتها، يرتجلها يعني، أم تكون مكتوبة من قبل، ومنقحة، ومعدة للنشر في ليلة يحتاج فيها كاتبها لبعض التصفيق والإعجابات والتعليقات؟
أنا أعرف محمد
*
هذه كتابة لا يمكن تقليدها لاعتبارات كثيرة، منها أنك ستقلد ماذا؟
مرة كنت أتكلم مع صديق هندي وقلت له إن وزيرا في الحكومة المصرية قال إن الحكومة لا تمانع في منح تراخيص للتوك توك، ولكن ترخصّه كماذا، وهو لا حصّل سيارة ولا حصل دراجة نارية، وهذه فعلا أزمة.
فالذي يريد تقليد عبد النبي في هذا الذي يكتبه، سيقلده في ماذا؟ ما جنسه هذا الذي يكتبه محمد؟
أنا لا أقول إنه غير مسبوق ككتابة، هناك كتاب كثيرون كتبوا شذرات كهذه. “إميل سيوران” مثلا. “لاو تسو” في الطاو. نيتشه في بعض كتبه. على سبيل المثال لا الحصر. و”على سبيل المثال لا الحصر” تستخدم عادة، وفي هذه الحالة، للإيحاء بوجود معرفة غير موجودة. أنا فعلا لا تحضرني غير هذه الأسماء. لكن من المؤكد أنها صحبة مرضية لنيبو. ولكي أنغص عليه هذه الصحبة يمكنني القول إن ما يفعله الثلاثة ليس بالضبط ما يفعله هو في شذراته، وليس ما يفعله بعضهم البعض، وليس من مبرر في الدنيا يجعلنا نجمع الصيني على الألماني على الشبراوي، أو يجعلنا نتخذ من مجرد القصر محددا لجنس كتابي. كتاب الطاو ليس فلسفة، وشذرات نيتشه ليست سورة الكوثر. وما يكتبه هؤلاء جميعا يختلف عما يقال له الإبجرام، يختلف عن البينيسيه، يختلف عن البرقية، يختلف عن ما يكتب على الأضرحة، يختلف عن ½ كلمة، عن الرباعية …
إذن، من أسباب عدم قابلية هذا المنتج للتقليد أنه ليس مصنفا بعد.
*
ونحن كبرنا. ولم يعد يصح أن نقول عن شذرات عبد النبي إنها هايكو، لأن:
اللي تخاف منه
ما يجيش أحسن،
منه.
مثل شعبي، لا هايكو.
*
واستمرارا للتنغيص على عبد النبي، هناك في الشذرات/العبارات/الأقوال التي أوردتها سابقا ما يمكن تقليده، انظروا إلى هذا:
ألن تسمح لي بالنوم ولو قليلاً يا طيفه؟
هذه ترجمة فصيحة ومخلة لقول “ابراهيم الأبيض” لصديقه في اختراع عامي عجيب “بتطيِّف عليَّ” والذي كان يقصد منه أن طيف حبيبته ـ التي بذلت مجهودا خرافيا ولم تلتقط في النهاية شبشبها ببراعة ـ كان يظهر له في زنزانته فيحرمه من النوم.
هذه إذن شذرة قابلة للتقليد. بل إنها هي نفسها مقلدة. أقصد أنها ليس أصيلة. ولعل هذا كاف للتنغيص على صديقي.
فإن لم يكن، فعندي ما هو أكثر:
امسح دموعك، أنت مانيكان، لا وقت للعبث!
هذه أيضا كتابة سهلة التقليد، لأن آلية إنتاجها مكشوفة، أو هكذا تبدو لي. هذه كتابة من النوع الذي يحتاج كل كاتب في الدنيا تقريبا إلى إنتاجه ليملأ فراغات بين كتابات أخرى، ليثبت أنه قادر على أن يصنع من الفسيخ شربات. لمجرد الممارسة. لتحريك مفاصل الأصابع على رأي “راسل إدسن”.
انتبه أيها الطائر
فبين جناحيك كائن آخر
لا يعرف الطيران.
والله! أدهشتنا يا رجل! هذه من كتاباتي أنا (وأتذكر هنا قول عبد الفتاح القصري لنجيب الريحاني “دي من مقتنياتي أنا”). ووراءها في تصوري نفس الآلية التي تضع دموعا مزورة على خدي مانيكان.
(وكنا سهرانين مرة أنا ونيبو وهاني فضل وأدهم الصفتي وآخرين ولعبنا لعبة عجيبة: أن نرتجل قصة شفاهية فقال أحدنا: عجوز تضع الطلاء على الصورة المنعكسة لشفتيها في المرآة. الصياغة كانت بالعامية، وكانت أظرف من هذه الصياغة كثيرا. وقال نيبو: “الله!”. أعجبته! مع أنني الآن أراها في منتهى الخيابة، وأتمنى لو لم أكن أنا الذي قلتها، ولكن قصيدة النثر التسعينية كتفتني (كحال فاتن حمامة والشيطان). صورة كتلك، تبدو لي الآن منتمية إلى المستوى الأول من المفارقة، والأسهل والأقرب إلى الذهن. تبدو ضحلة وعبيطة. فأي عجوز في هذا الموقف وتريد أن تفعل شيئا ذا جدوى، لن أقترح عليها أن تضع الطلاء على شفتيها بدلا من وضعه على المرآة، بل عليها أن تكسر المرآة وتخلص.)
مثل هذه الكتابة وراءها رغبة في الكتابة، وهذه رغبة مشروعة، ومحترمة أيضا، وهي إن تحولت إلى كتابة جميلة ـ شأن إحدى الكتابتين السابقتين على الأقل ـ يكون وجودها مبررا ومنطقيا، وربما ضروريا أيضا.
ولكن هناك كتابة أخرى.
*
أنا أيضاً عرفت الحب، يا معزتي!
تحار أيها القارئ المسكين فيمن هي الشخصية الرئيسية (ولماذا لا تذكرني هذه الكلمة أبدا بمرسي، أو ببديع بالأحرى): “أنا”، أم “المعزة”؟! تحار: أليس له أحد يبثه ما به إلا المعزة؟ وقد يسهل عليك أن تقول إنه يسقط عليها الحب، مثلما يسقط على المانيكان دموعا ما هي بدموعه. ولكن في هذه الشذرة ما يوقفني عند حدي. القارئ الآن هو أنا، وأنا غير قادر على الظن إلا بأن المعزة عاشقة، وأنه ـ الذات المتكلمة ـ بطريقة أو بأخرى عرف هذا.
ثمة عالم كامل لا أقول إنه وراء هذه الشذرة، ولا أعود إلى مجاز جبل الجليد المبتذل. هناك عالم كامل معلق في هذه الشذرة.
وثمة هايكو ـ لإيسا؟ ـ تقول:
من ثقب الباب
الورقي:
المجرة.
من هذه الشذرة الخفيفة، المجرةُ. معلق إلى هذه الشذرة، عالمٌ كامل.
*
وهذه واحدة أخرى
كم تخيلتك هكذا تماماً؛ بلا وجه.
وهي الأخرى تشير إلى عالم لا سبيل في الحقيقة إلى معرفته، ولكن لا سبيل إلى تجاهل اليقين بوجوده، بوجود ما هو أكثر من هذه الكلمات.
بمن التقت هذه الذات: بالله، أم بالشيطان، أم بالذات نفسها؟
يبدو أنه لقاء مع شيء مهم. شيء طال بشخص تخيله. ومن ثم يصعب الظن أنه لقاء مع شيء عادي يمكن لأي إنسان أن يقابله.
هذه الشذرة والشذرة السابقة تمثلان كتابة قادرة على إقناع القارئ بالتمهل، والتأمل، والمضي مع الخطوط المتاحة في كل الاتجاهات الممكنة. كتابة تذكرك أنك قادر دائما أن ترى السماء كلها منعكسة في قطرة ماء.
لكن أي سماء، الزرقاء النهارية، أم السوداء؟ الزرقاء الصيفية، أم الملبدة؟ الحاجبة من ورائها إلها، أم المشكوك في وجودها هي شخصيا؟
هذه الكتابة قادرة على فتح أبواب على فضاءات لا نهاية لها. ولكنها ربما لا تساعد على أكثر من ذلك، ربما يبقى القارئ لها على العتبة هكذا إلى الأبد. ونعم، ما لعلكم بدأتم تستشعرونه صحيح، ليست هاتان الشذرتان هما أكثر ما أريد أن أقف عنده من شذرات محمد عبد النبي.
*
أقول الروح، ولا أقول التجربة. أقول وراءها ولا أقول فيها.
*
منذ اللحظة الأولى، وأنا رافض فكرة أن أكتب عن “رجوع الشيخ”. ليس منذ لحظة صدورها، أو قراءتي لها، بل منذ لحظة أن عرفت بأمر إعداد هذا الملف. أردت ألا أكتب عن الكتابة، بل عن الشخص. عن الصديق.
ولكنني تقريبا لا أعرف محمد عبد النبي.
وأعتقد أن هذه هي أصدق جملة يمكن أن أكتبها عن أحد. لأنني غير قابل لأن أعرف أحدا، ولأن أحدا غير قابل لأن يعرف. ولأن المعرفة شيءآخر غير الذي يقصده فيسبوك حين يضع لك ناسا تحت قائمة عنوانها “People You May Know“.
ولكن، برغم استحالة المعرفة، واضح أننا معلقون ببعض. كل الناس بكل الناس. كل واحد عالم وشذرة، في الوقت نفسه.
كل واحد ثقب في الباب الورقي، وكل واحد المجرة، في الوقت نفسه.
*
أستطيع أن أكتب عن محمد عبد النبي، صديقي، طبعا. أقول هذا لنفسي. لأثبت ماذا؟ لأدفع نفسي؟ أستطيع طبعا أن أكتب، أن أحكي عن لقائنا الأول لأنني لم أنسه، وعن لقائنا الثاني لأنني لم أنسه، وعن لقاءات تلو لقاءات في مقاه وحانات وسينمات وشوارع وبيوت ومكتبات، أستطيع أن أكتب عن الصمت الذي يغني عن الكلام، والكلام الذي يغني عن الخمر، والضحك الذي أختزن منه في شهر من العام ما يقيني موت الروح في الصحراء طيلة العام الطويل.
*
في لحظة كالتي أمر بها الآن وأنا أكتب هذه الكلمات، طلب “عرفة الشواف” إحضار البنات لتطرية القعدة
*
نرجع إذن للشذرات، للكتابة التي لا يمكن تقليدها
وأنا؟ ما اسمي بعد أن أصابك الصمم؟
شتان بين هذه الأنا وأنا شذرة المعزة. أنا المعزة تعرف أنها تحب، وتعرف أن المعزة تحب، وتعرف أن هذا الحب وذلك الحب واحد. أنا المعزة تعلمنا عن الوجود شيئا. أنا المعزة تكذب. أو هي تزعم.
أما هنا، فهذه الأنا معلق وجودها نفسه بآخر، مهددة بالزوال إن جرى له مكروه (وفي فيلمٍ كانت حياة “صلاح ذو الفقار” معلقة بحياة “ناهد شريف” أنا شخصيا موافق ـ لأن عرافة قالت له إنه سوف يموت بموتها). هذه أنا لا يصير لها اسم، تفقد هويتها، نفسها، إن أصاب الصمم هذا المخاطَب. فمن يكون هذا؟
يا يده، يا أصابعه، من هو؟
بعيد. يبقى بعيدا. تمسك أصابعه بين يديك، تتحسسها، لكنك لأمر ما لا تملك أن توجه إليه هو سؤالا، عنه هو بالذات، تتقرب إلى أصابعه زلفى إليه، تريد أن تعرف من هو. أم أنك لا تمسك شيئا بين أصابعك؟ أم أنك تتوهم أن بين يديك يدا والحقيقة أنك غريق، تصارع الموج، وفي يأس تمد يدك:
هذه يدي؛ مد يدك لو كنت هناك.
هذه “أنا” لا يعادل شكها في وجود آخر إلا قوة رجائها في أن يكون موجودا. هذه أنا غرقها رحمة، ولكنها كل مرة تنجو:
وكان لي صاحبان، أكلهما الضباب، وخرجت وحدي
أي عالم هذا الذي يبدو زائلا زوال الضباب، قادرا مع هذا على الافتراس، قادرا على أن يعاقب بالعدم مثلما يعاقب بالوجود، على أن يهلك بالهلاك مثلما يهلك بالنجاة.
*
أقول الروح
ولا أقول التجربة
أقول وراءها
وأقول فيها.
*
هناك شيء شديد الوطأة في هذه المقالة من أولها إلى آخرها، شيء يقف في الحلق، على حافة العين، شيء يوشك أن ينفجر. شيء يدفعني إلى التوقف هنا، فورا، دون أن أتصور أن سبب ذلك يمكن أن يكون غير واضح لأحد
*
وبعد أربع ساعات…
كأني بنفسي وضعت قاعدة. كأني قلت إن الكتابة غير القابلة للتقليد هي تلك التي تأتي من روح، مع أن الروح ـ معروف طبعا ـ من أمر ربي.
كأني أقول إن ما أعرفه من هذه الشذرات عن “محمد عبد النبي” أكثر مما أعرفه عنه من “رجوع الشيخ”، أو “بعد أن يخرج الأمير للصيد” ـ أحب أعماله إليّ.
لعلي قلت هذا، ولكن ليس هذا ما أعنيه.
بل لعلي ـ وأنا من فلول المؤمنين بموت المؤلف ـ آخر من يمكنه أن يقول بهذا.
ما أستطيع أن أقوله باطمئنان أنه لا سبيل إلى معرفة “محمد عبد النبي” من خلال أعماله أصلا.
ما أستطيع أن أقوله باطمئنان، هو أن من بين شذرات محمد، ومن بين كتبه بلا شك، ما يمثل أبوابا مشرعة طول الوقت على إنسان ما، لا يهمني فعلا أن يكون اسمه “محمد عبد النبي”، أو “نيبو”، أو مهما يكن الاسم، يهمني أنها تحمل دليلا قاطعا على أنها قادمة من إنسان لا من لاعب أكروبات، من ذات مهمومة لا من ذات ماهرة خبيرة بالأساليب، وهذا ما يجعل لهذه الأعمال بصمة غير قابلة للتكرار، لأن كاتبها لا يمكن أن يكون قد بقي بعد كتابتها نفسه، ولأن قارئها لا يبقى بعد قراءتها نفسه.
هل كنت أتكلم طول الوقت عن ما يسمى بـ الأصالة؟ نعم
يناير 2013