أحمد المديني
أجمع العلماء الفقهاء على قاعدة جليلة ملفوظُها:” الحكم على الشيء فرعٌ عن تصوّره” وبتعريف الجرجاني فإن التصوّر هو حصولُ الشيء في العقل. والتصور المقصود مرتبط بالإدراك والعقل لا الوهم والتقدير، فيعصِم عن الخطأ ويقود إلى معرفة الأشياء على حقيقتها. من ذا الذي يملك في حاضرنا المختلّ تماماً، وفي العالم أجمع القدرةَ وأهليةَ ووجاهةَ الحكم على واقعنا، بات حصرُ شتاتِ أطرافِه بتشابك معضلاتِه وتناقضاتِه وتضاربِ مصالحِه وتطاحنِ القوى المختلفة اجتماعياِ واقتصادياِ وقيَمياَ بداخله ضرباً من الرّجم بالغيب وحتى المستحيل، وما يوجد لا يعدو مقترحاتٍ ونظراتٍ في حكم تصوراتٍ ذهنية وتأملاتٍ بعضُها مستقى من واقع في غليان ودائم الجريان، وأغلبُها ينهض على الأمل ويُطِلّ من حافة الحاجة.
نعم، لقد قلب الكوفيد 19 موازين ما كان يُظنّ مستقِراً، وخلخل بنياتٍ وهزَّ مفاهيمَ وقيماً، وقضّ مضجعَ الأحياء يَسُوقهم زرافاتٍ ووحداناً بين مواكب التشييع والدفن فُرادى بلا عزاء. لم يكن عالمُنا، ومجتمعُنا بداخله، قبل الوباء في مأمَن من الشرور، كلّ بلد على حدة يشكو همَّه وأوجاعَه، وبلدانُ العالم الثالث منذ استقلت وهي تتطلع للتحرر وتحقيقِ العدالة والعيش الكريم، تستبدّ داخلها أنظمةٌ وتعبثُ بمصالحها حساباتٌ أجنبية متخِذةً من بعض رجالها بيادق في لعبتها التي تسميها استراتيجيات، وتصطنع لها الحروبَ وحتى الثورات المزعومة نحن وقودُها ما دامت تلبّي وُكدَها في استمرار الهيمنة والتوسّع لا يعنيها دوامُ انتشار غيوم الفساد.
بدأ هذا منذ الألفية الثالثة، وقُبيلها انخرط العالمُ في سِلك تحولاتٍ كبرى عقب انهياراتٍ وإثر انقلاباتٍ في الإيديولوجيات وموازين القوى بين الكبار يمشي في ظلهم الصغار أقزاما وتراكيزَ أو تائهين. وحين يتساءل بعضٌ بتجاهل مقصود، وإمّا عن جهل بالخفِيّ والظاهر أين الفكر الفريد والنظر السّديد لأحوال عالمنا الجديد، تغيب عنهم وكذلك عن أفق استشرافهم أسئلة ما فتئ باحثون ناشؤون يستنبتونها من صميم هذه التحولات من دون أن يجزِموا فيها برأي أو يقرّوها دوغما، بل التساؤل إلى حدّ استنكار واستغراب الافتقار إلى فلسفة حديثة تعقُب تيارات نقد ما بعد الحداثة، الغربية دائما بطبيعة الحال، وكأن عالم اليوم عقيم توقف مفكروه ومبدعوه عن العقل والخيال، مع إغفال أن الغياب والعبور في صحراء الصمت هو سؤالٌ أيضا وموقفٌ وإشكالية، وبما أن الفلسفة لا توجد إلا بتوليد المفاهيم أدواتٍ وأوعيةً لتأمل واستيعاب الوجود والزمن والكائن في جدل دوامة الواقع، فإنها تحتاج قبل هذا إلى استقرار بنياتٍ ورؤى أخرى تسمح بتكوين مفاهيمَ مستجِدة وتبلور الرّؤى وصياغةِ المصطلحات الحاملة للمعاني المتحوّلة. ما عدنا قادرين على الحكم والتقويم المعقول لافتقاد التصور الذي يَعقِل الوجود، وفعل هذا بمفاهيم قديمة منبتّة الصلة بصيروة الواقع والعالم لا ينتج إلا ثقافةً عقيمة وتفكيرَ الاستنساخ، فكيف لو لم تُبيّأ وإما جعجعة بلا طحين، شأن ما يسطّره ويردده بعض المفوهين في العالم العربي، منهم من اتخذ من النعيب والنحيب وجلد الذات والتشهير بالمثقفين، هكذا بالمطلق، حرفة للتكسّب، ذاك أسهل من البحث عن سؤال معرفي بمفهوم جديد، والتساؤل بجرأة هل يمكن حقا أن ينتج المثقفون ثقافة التنوير بوعي وجدارة وهم يتداعون لها من منابر ألذ أعدائها عصبة الظلاميين والمستبدين، يتسترون بحديث الأنساق والمنهج والإطار المرجعي( كذا)، الجميع أصبح يخوض اليوم في ما يشاء مطمئناً بل ومستخِفّاً أن ليس ثمة رقيب عتيد؛ حتى إن الكيل طفح، وبعد أن غاض ماءُ الحياء في وجه من يزعم التفكير انتقل إلى ابتذال السياسة ورهط من السياسيين يفتون بزوال كل المرجعيات، إلا مرجعيتهم بداهة؛ فهل بعد من يقين؟!
نحن نقرأ، فلسنا أميين، ونصيخ السمع أحيانا، ونفتح كذلك نصفَ عين لشدة ما غشِيَها الضباب. وإذ نسمع يضيع الفهم أو يعوم، كما لو أنك من معلبات مدى أعوام تقتات، وتضرب سمعك الرطانات، ونصمد هنيهات، متشبثين بحبل الكلمات، عسى تُسعف ببصيص يوقظ من سُبات، وإنك لتعجب لبعضهم وهم يثقبون الشاشات بعد أن صدَحوا في الميكروفونات، قد بزّوا الشيخات، من أين لهم بعرمرم المصطلحات وجحفل الشعارات، كيف لمن اسودّ وجهه أن يَعِد قومَه بأيام بيض، أو به عيٌّ غداً يأتي بآيات بينات. الكلمات غدت سلعةً في مزاد، تخرج من أفواه وجوه بيضاء، كالشمع، كالزّبد تُلقى وترحل بدداً هكذا تتبخّر في الهواء، وهذا ببساطة، لأن ما لا يقنع، ما امتحنته الأيام وكشفت عن زيفه المِحن وادّعاء خدمة الشعب، هُراء!
ثم إن الشعب الذي يتوجه له الخطاب، وجلّه سفسطة، طيّبٌ وليس غبياً فلا تستغفلوه، ربما بدا ساذجاً إنما هو أبيّ فلا تركبوه. الشعب كلمة فخمة وشريفة ومصدر السلطات، لا يقال له أريد لك، هو من يريد، يثق ويُكذِّب، يمنح ويرفُض، ولذلك تسمع وجوه الشمع تستجديه بينما يبغي أن تُقنعه، اؤلئك الذين سوّقوه بل سرقوه، سوّفوه بالوعود ثم نكثوا بالعهود في مقاعدهم الوثيرة وهمّشوه؛ أو من يتاجرون بالإنسان لقاء دريهمات، ورأسمالهم السياسي يستثمرونه في سوق الانتخابات، يظهرون على الشاشات ملءَ البراءة والنقاء، فمن أين جاء إذن الفساد العائم، ورائحة ما تزكم من أعطافهم، الشعب يريد الخبز والورد أيضا، وقلبه نفحُ حبّ وملءُ رجاء.
لست أخيراً أصمّ، أبكمَ، ولا أعمى، وكلماتي لا أصنعها من حجر الفلسفة. إنني أتيمّم كلَّ صباح بأريج السماء، وشدو الطير، وأمشي حاملا مصيري على كفي وراحلتي جسدي وخيالي في صخب المدن الهائلة حيث البشر يكدح من الغلس إلى الغسق كي يكسب رزقَه وحقَّه بدَأبِ وصبرِ الأنبياء، ويقول الكلماتِ التي يريد بحرية واختيار. بدأتُ الرحلة والبحث عن اللغة المدجّجة بالرفض والأسماء المجنّحة مبكراً ولم أُفطم بخمر أو حليب غير دمي سكرانَ طافحاً في أودية التذكر والنسيان، وفمي بالأسماء هيمان، بحروفها صائتة وساكنة، حقيقية ومجازية، حاملة مشعل النار، محملة بالدلالات، مختارة بعناية بروست في ” البحث عن الزمن الضائع” واللذة التي يتلمظها وهو ينطق اسم (سوان)، ليس إلا لأنه يعشق ابنته جيلبير، مثار الأحاسيس والأشواق. الكتابة مثل النار تشتعل في الأصابع وتُضرِم الحرائق ولا شأن لي بنزق مفردات فاترة مطرّزة بحكايا جداتٍ هرماتٍ فاتهنّ الهوى، وينطحن الجبل. ضاقت الكتابة بكم أيها الدخلاء. خذوا ما شئتم واتركوا لنا هذا الشبر من الحلم، وارتعوا في الأضاليل بالجمع والمفرّق