في قلع الضرس.. البوكر ومعيار “الهمس الخيالي”

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

بقلم: سمير قسيمي

ثمة حقيقتان لا بد أولا من الاتفاق حولهما: الأولى أن الضرس الفاسد إن تعفن لا بد من اقتلاعه. الثانية أن اقتلاع الضرس ولو بمخدر موضعي جيد كثيرا ما يصاحبه الألم، وقد يمتد الشعور بالألم لأيام طويلة بعد اقتلاعه. حقيقتان تفرضان حقيقة ثالثة، وهي أن قرار قلع الضرس يحتاج إلى الكثير من الشجاعة.

لا أعتقد أن مثل هذه الشجاعة قد تتوفر- في الوقت الراهن- لدى أمناء البوكر العربية المستمرة عهدتهم، والتي تجعلهم يعترفون بفشلهم المدوي في إدارة أهم جائزة عربية وعالمية للرواية العربية، ومن ثمة تقديم استقالتهم جماعيا احتراما لأهمية وموقع وسمعة الجائزة أولا، ومحاولة منهم من لإصلاح ما أفسدوه عبر اختيارهم للجان تحكيم لا تفهم في الرواية إلا ما يفهم البليد من المنطق.

لا أعتقد أن مثل هذه الشجاعة متوفرة لسببن ظاهرين: الأول “شهوة المنصب” التي تجعل من الجالس على الكرسي يعتقد بأن جلوسه عليه يعني أنه الأفضل له، وهو اعتقاد لا تبرره الأهلية بقدر ما تبرره الميزات التي يحظى بها المتمسك بالمنصب. أما السبب الثاني، فهو الاعتقاد بالفوقية المبالغ فيها، إلى حد أن يعتقد “الجالس” أن آراءه غير قابلة للمناقشة.

يبدو ذلك جليا في تصريحات خالد الحروب،أحد أعضاء مجلس أمناء الجائزة العالمية للرواية العربية “البوكر، والتي فيها“:خمسون في المئة من الروايات التي ترشحها دور النشر لا تتصف تماما بمواصفات الرواية…… وهذا يريح لجنة التحكيم، فهي تكاد تستثني نصف الروايات من أول علاقة لها معها… من الفصل الأول… الكتاب نفسه يقول لك أنا مش رواية… ضعني على الرف…… في هذه السنة مثلا كان لدينا 80 – 90 رواية”.

يأتي هذا التصريح كمحاولة لتبرير “سقطة “بروين حبيب في مقال منشور والذي أعقبته بمقال قد شرح بالتفصيل نظرتها السردية، ولربما ستفاجئنا الأيام بتصريحات أخرى لأمناء ومحكمين في البوكر تحاول تبرير المستوى المتدني للروايات المختارة في قوائمها منذ سنوات، سيما في الدورة الحالية ودورة السنة المنصرمة، وبشكل أعم منذ دورة 2010.

للعلم، لا علاقة للدكتور خالد حروب بالرواية بشكل واضح من حيث الاشتغال أو الأكاديمية ولا من حيث الاهتمام، وهو ما تظهره سيرته الذانية المنشورة في أكثر من منبر، ومع ذلك يصرح بملء الفيه متحدثا عن مستوى 50بالمائة من الروايات التي تصل البوكر، أنها لا توصف بالروايات.

لو أخذنا بعين الاعتبار ما يقوله الحروب- وهو تصريح لم يعارضه أحد من الأمناء ولا المحكمين، ما يجعله حقيقة تكرست لدى هؤلاء- فإن مأزق البوكر أعظم مما تصورنا، من باب أن رجلا لا يربطه شيء بالرواية امتلك الموهبة والحدس والقدرة على معرفة ما ليس “رواية”. ألا يشبه هذا ادعاء “الأعمى” بقدرته على تمييز الألوان؟.

بعيدا عن كل هذا، أي ثقة يمكن أن تمنح لرجل معياره في تحديد صنف أو جودة العمل من “همس خيالي” تصدره الروايات ويسمعه هو أو أحد محكميه لدى قراءتهم للفصل الأول: ” الكتاب نفسه يقول لك أنا مش رواية… ضعني على الرف”… أليست مصيبة أن تجد أمينا معياره الهمس الخيالي، ومحكمة معيارها “الشعر واللغة” في تحديد سردية رواية؟.

ولنفترض أن “الهمس الخيالي” معيار جديد لتقييم وتصنيف الأعمال يضاف إلى المعيار البرويني أو شكل من أشكال النظرية البروينية في الرواية، كيف يعقل مثلا أن رواية كـ”نساء وألماس” لم تهمس لأحد بما فيهم الحروب بحقيقة أنها “ليست رواية”، هل حقا وجدت أحدا تمكن-ولو بمعجزة- أن ينهي ثلاثين صفحة منها من دون أن يصاب بانهيار عصبي أو جلطة دماغية  أو حتى ذبحة قلبية؟.

مهما قيل وسيقال، فإن أي لجنة في العالم وإن تشكلت من نقاد يرأسهم “أمبرتو إيكو” لن تجد مبررات مقبولة أو معقولة في خيارات كثيرة وقعت عليها لجنة تحكيم هذه السنة، لن يوجد روائي كبير وإن كان وزنه لباقة على غرار الروائي الكبير واسيني الأعرج أي كلمة لائقة من قواميس الكلمات “اللبقة” التي تسمح له بمراوغة المنطق ووصف ما اختارته البوكر في قوائمها أنه خيار منطقي.

بين النصوص النسوية المقدمة للترشيح هذه السنة أقرأ نص المصرية منصورة عز الدين الموسوم “جبل الزمرد” وأقارنها بـ”طابق 99″ و”نساء وألماس” فلا أجد أي سبب يبرر وصول هذين النصين إلى القصيرة وعدم وصول رواية منصورة إلى الطويلة. بل ولا أجد سببا واحدا يبرر وصول نصين لم يبلغا سن الرشد السردي-لافتقادها أهم ركائز البناء الروائي- إلى قوائم بوكر هذه السنة.

وفي خضم كل هذا، يحاول البعض تحويل الانتقادات الموجهة للبوكر عن وجهتها الحقيقية، عبر افتراء ما يجب حماية لـ”الفساد” الذي طال البوكر. نقرأ للكويتي ناصر الظفيري مقالة بعنوان “ الجائزة مرة أخرى”، يحاول فيها “شخصة” الانتقادات الموجهة للجائزة، عبر الادعاء أنها انتقادات أسبابها شخصية، سيما وأنها من روائيين ترشحوا للبوكر، وهو في ذلك لا يجد حرجا في ادعاء أن المنتقدين سبق وصرحوا أنهم ضد التمويل الخليجي للجائزة، وهو مجرد افتراء كما تظهره جميع تصريحات المنتقدين للجائزة، حيث لم يسبق لمن ذكرهم الظفيري بالاسم أن انتقدوا الجائزة لهذا السبب. إلا أن مقالة الظفيري لم تكن بريئة، من باب أن الانتقادات مست دورة 2012 التي فاز بها الكويتي سعود السنعوسي، حيث جاء مقاله -ولو ضمنيا- انتصارا لمواطنه وللفوز الكويتي، ورغبة في دفع حقيقة لا بد من ذكرها، وهي أن ساق البامبو رواية جميلة، ولكنها لم تكن الأفضل إلا بين روايات “القائمتين” وليس بين الروايات المقدمة، مع استثناء روايتي “طيور الهوليداي إن” و”قناديل ملك الجليل” اللتان كانتا في الطويلة، حتى إن وضعها في سباق مع هاتين الروايتين، يشبه في ظلمه وضع أعرج في سباق مع رجل سوي.

دوافع الظفيري والكثير من حماة البوكر واضحة بلا ريب، وهي مهما اتصفت من حيادية تدافع عن مصالح معينة، ليست بالضرورة تصب في بحر الحقيقة التي ليست أكثر من أن الفساد قد استشرى في جسد البوكر، ولا خيار إلا في اقتلاعه أو قبول حتمية موت أكبر جائزة عرفتها الرواية العربية لحد اليوم. كما كتب في البداية.. ثمة حقيقتان لا بد من الاتفاق حولهما أولا: الأولى أن الضرس الفاسد إن تعفن لا بد من اقتلاعه. الثانية أن اقتلاع الضرس ولو بمخدر موضعي جيد كثيرا ما يصاحبه الألم، وقد يمتد الشعور بالألم لأيام طويلة بعد اقتلاعه. حقيقتان تفرضان حقيقة ثالثة، وهي أن قرار قلع الضرس يحتاج إلى الكثير من الشجاعة.

 

مقالات من نفس القسم