في عيادة “الحكيم أوغلو”

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

منى أبو عامر

انتظرت طويلًا ، قرابة الساعتين ونصف الساعة، كُنت قد أحضرت معي كتابًا يحمل بين وريقاته سطورًا خفيفة كذلك كانت عدد صفحاته، بالكاد أعرف مُسبقًا أن الانتظار داخل عيادات الأطباء أكثر مللًا من مراقبة سرب نملِ ملتصقٍ بأحد الجدران وهو يخطو بخطواته الهادئة والأكثر رتابة من أي شئ أخر عندما يحاول أن يبنى مبيتًا للشتاء!

 

تجول بعينك في كل أنحاء المكان لتبحث عن شئٍ آخر يشغلك عن مراقبة الملصقات الدعائية التي تحمل صورًا لمرضى والتي تكون في الغالب  قد غطت جدران العيادة كاملة،  فتشعر وكأنها تساهم في تضيق المكان كلما زاد عددها بدلًا من أن يحدث العكس!

  بالطبع هذا بعد أن تشغلك عشرات  الأسئلة السخيفة وشبه الوجودية كــ لماذا يستغرق المرضي وقتًا طويلًا بالداخل في حين أنه عندما تدخل انت لا تستغرق أكثر من دقائق مهما بلغ أمرك!!

بقيت منتظرة .. ومن وقت لأخر أتردد على السكرتيرة ذات الوجه الخمري والتى بدا وكأنها صبغت شعرها للتو باللون الذهبي المائل الى الأشقر، وددت لو أن هناك فرصة لأقول  لها بأن اللون البني المائل للحُمرة سيصبح أجمل على وجهها! لكن ربما لا يتناسب مع مقدار حزنها  الذي كسى ملامح وجهها كاملًا .

سألتها بلكنة تركية ركيكة “هل بلغ دوري الأن؟”، أجابتني دون أن تنظر إلىّ وبلهجة سريعة أن أمامى العشرات من المرضى حتى يحين دوري، وأنني إذا أردت الدخول في الحال وجب على دفع قيمة الكشف مضاعفة! وتبعته بكلام كثير بالتركية لم أفهم منه شيئاً، تمنيت لو  أسعفتني الذاكرة  ببعض الكلمات لأقول لها أنني استغرقت الكثير من الوقت حتى أحفظ بعض الجمل بالتركية لمجاراة الحديث مع الطبيب! حتى أصبحت أرددها لاحقًا أمامه بشكل مثير للضحك!

أعود إلى مكاني وافتح الكتاب مرة أخرى، والذي كان يحمل بين سطوره حوارًا مسليًا لا يتناسب مع سرعة اختيارى له، أو ربما أوهمت نفسي بذلك حتى يمر الوقت.  

قبل موعد إغلاق العيادة بدقائق حان دورى، حتى وإن لم يحنّ لم يتبق بالعيادة غيري، وكأن كل من كان هنا سابقًا سدد قيمة الكشف مضاعفة! كنت قد أوشكت على الانتهاء من الكتاب، طويت صفحاته وخطوت بخطى هادئة على عكس ما كنت أبدو، أشارت لى الممرضة إلى غرفة جانبية صغيرة ، كانت مستطيلة لا تتجاوز مساحتها المترين في المتر، وبها سرير  صغير يحتل  ثلثي مساحة الغرفة، والثلث الأخير به جهاز كمبيوتر تجلس أمامه فتاة عرفت بعدها أنها تدون مايمليه عليها الطبيب من استنتاجات، وشاشة أخرى تبدو لى جانبية عندما اتمدد على السرير.

سحبت الستارة  وأحكمتها جيدًا، خلعت النصف العلوي من ملابسي كاملًا، أصبحت نصف عارية.. نصف ممدة.. نصف قلقة.. راحت ضربات قلبي تدفع صدري بقوة وبشكل متتالٍ يصعب السيطرة عليه، بدرجة تجعلها مسموعة من خلال  نصف جسدى العلوى العاري، والصمت والمطبق على الغرفة، حتى امتدت الى أطراف أصابعى وجعلتها تتلون باللون الأزرق بشكل لا يتناسب مع درجة حرارة الغرفة، برزت عروقى حتى أصبحت كـ رسومات ثلاثية الأبعاد.

فجأه اقتحمت ذاكرتي صورة جسدي الهزيل وهو ممد على سرير متحرك داخل غرفة العمليات  وقد برزت منه بطن منتفخة على وشك الانفجار لحظة الولادة.      

تذكرت لحظة انتفاضة جسدى بشدة قبيل حقنة المخدر بلحظات، انتفاضة جعلت ارتطام أسناني ببعضهما يصدر صوتًا مألوفًا أكثر نمطية وبشكل متكرر حتى ضحك ذاك الطبيب أيضًا وقال لي بما أنه لا يوجد ألم بعد .. أتشعرين بالخوف ام البروده؟

فقلت  كلاهمـ..

ظلت الذاكرة تداهمني حتى انتبهت لحركة الطبيب وهو يجلس على الكرسي المجاور للسرير من خلف الستارة راح يضغط على أنبوبه ليفرغ منها سائل أبيض سميك على صدري وهو ينظر إلى الشاشه الجانبيه التي أصبحت لا أرى منها شيًا بعد، بدأ يجول في أنحاء جسدي بالسماعه الموصولة بالجهاز ومع كل ضغطة يملى شيئًا على الفتاه لتدونه. حتى انتهى ارتديت ملابسي وسألته هل أنا مصابة بشئ خطير؟

راح يسألنى دون اكتراث..هل هناك شكوى سابقة في العائلة بسرطان ثدي؟

اجبته لا ..أو .. ربما .. فأنا لهذه اللحظه لا أعرف شيئًا كهذا حدث لإحداهن.

قال لي: أنتِ ايضًا لهذه اللحظة لم يصبك شيء . لكنـ..

قاطعته..

هل هناك عُرضه لحدوث ذلك ؟

قال ربما.. 

رُحت أفتح الكتاب مرة اخرى وتابعت القراءة  كنت قد توقفت عند الصفحة الأخيرة ..(وفي ذلك الوقت المتأخر من الليل بدا الهواء منعشًا من النافذه المفتوحة وأنا أجلس إلى جوار سائق التاكسي الذي كان صامتًا، وعندما رأيت علبة سجائر موضوعه أمامه قلت : ماتعزم على بسجاره.

قال : ـ من عنيا

وأعطاني واحده أشعلها لي وهو يراقب الطريق الذي كان خاليًا . أخبرته أنهم يمنعنوني من التدخين، ولكنني أرغب أحيانًا في تدخين واحدة ، ورحت أدخن)

كنت أعرف مسبقًا شكوتي وعلاجها ولكن خطر في بالي للحظة أن الأمر ربما تطور حتى يصبح ملائمًا أكثر للآلام التى تتردد عليّ من حينٍ  لآخر، أو ربما اردت تصديقها تلك المرة فهى تلائم شكوتي أكثر!  أخبرني يومًا صديقًا أنه يسأم من التدخين كثيرًا حتى أنه لا يحن إليه إطلاقًا فقط عندما يكون حزينًا يدخن سيجارةً واحده أو أكثر هذا يتوقف تمًاما على مدى حزنه.. سألته.. وهل  يزول حزنك  بعدها ؟ قال لا..يزيد، وأضاف.. هذا يروق لى أكثر فأنا أكره أن أسلب من الحزن حقه لحسابي،  فأفتح له الباب على مصراعيه حتى يزول من تلقاء نفسه.

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كاتبة مصريّة
*الاقتباس من كتاب” صديق قديم جدًا” ..لـــ إبراهيم أصلان

مقالات من نفس القسم

تراب الحكايات
موقع الكتابة

خلخال