في العشية: حين تصبح مذكرات الموتى أحد أعظم روايات القرن التاسع عشر

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أيوب الطالبي

تُعدّ رواية “في العشية” للروائي الروسي العظيم إيڤان تورغنيف عملًا أدبيًا عميقًا ينسج ببراعة خيوط المأساة الكبرى التي تتشابك فيها قضايا الوطن، والحب، والتمرد على الأعراف الاجتماعية. تُقدّم الرواية شخصياتها في سياق يسبق التحولات الكبرى، حيث يعيش الأفراد على “عشية” التغيير المصيري، سواء كان شخصيًا أو تاريخيًا.

تتمحور الحبكة الأساسية حول إيلينا ستاخوفا، ابنة العائلة الأرستقراطية المستقرة، التي ترفض المسار التقليدي المرسوم لحياتها. خلف قناع الفتاة النبيلة التي تعيش في أمان ورفاهية، تكمن روحٌ متوثبة تبحث عن معنى أعمق وشغف حقيقي يتجاوز حدود الاستقرار العائلي والمادي. يتجسد هذا التمرد في اختيارها المصيري؛ إذ تفضل الحب المغامر والفقر المحتمل والانخراط في قضايا الحرب على حساب الأمان والاستقرار الذي يمثله محيطها. في البداية، تحيط إيلينا بشابين يمثلان حياتها الممكنة والمألوفة: شوبين، النحات الذي يعيش في كنف عائلتها، وبانشين، الموظف ذو الخلفية الاجتماعية المماثلة. كلاهما يُبدي اهتمامًا بها، لكنها لا تبادلهم سوى الاهتمام الفكري، فهي تبحث عن شيء يتجاوز دائرة الألفة والطبقة.

يأتي ظهور ديمتري إنساروف ليُغيّر مسار الرواية بأكمله. إنه لا يمثل الحب فحسب، بل يجسد الفداء والتكريس. إنساروف هو مهاجر بلغاري يحمل ماضيًا قاسيًا ملطخًا بالدماء واليتم ونار النضال، وقد كرّس حياته للدفاع عن بلغاريا التي ترزح تحت وطأة الاحتلال العثماني. لقاء إيلينا بإنساروف ليس مجرد تعارف عابر، بل هو شرارة تُشعل علاقة حب عظيمة وجارفة تتجاوز الفوارق الاجتماعية والطبقية والقومية. هذا الحب ليس عاطفة شخصية بحتة، بل هو اندماج في قضية وطنية وثورية؛ فإيلينا تتبنى اهتمامات حبيبها وتصبح قضية تحرير بلغاريا هي قضيتها أيضًا. وفي ذروة هذا الشغف، تتخذ إيلينا قرارها الجريء والمتمرد بالزواج من إنساروف سرًا، ضاربةً عرض الحائط برغبة والديها ومعارضة مجتمعها. يغادر الزوجان موسكو نحو أوروبا الشرقية، حيث كان إنساروف يأمل في الانضمام للثوار البلغار. ولكن المصير يتدخل ليُحوّل الحب المتوهج إلى مأساة؛ ففي فيينا، يفتك مرض رئوي مزمن بديمتري إنساروف. الحب العظيم يواجه اختباره الأقسى؛ إذ تتحول إيلينا من ابنة أرستقراطية إلى ممرضة ومساندة في مواجهة المرض العضال. وعلى الرغم من تفانيها، يكون المرض أسرع وأقوى، فيموت إنساروف، لتتحطم أحلامهما المشتركة في الوطن والتحرير. في الفصل الأخير، تتجلى عظمة تضحية إيلينا وصدق تمردها. وفاءً لذكرى حبيبها، لحلمه، وإيمانًا بأفكاره الثورية، ترفض العودة إلى حياة الاستقرار التقليدية. تحمل إيلينا جثمان إنساروف، ومعها حلمه بوطن حر، وتواصل المسيرة إلى بلغاريا. في رسالة أخيرة إلى عائلتها، تعلن قرارها بالتطوع كممرضة في حرب التحرير البلغارية. إنها لا تكتفي بالحداد، بل تُجسّد الميراث النضالي لحبيبها وتتحول إلى بطلة حقيقية لقضية لم تكن قضيتها في الأصل.

لم تكن رواية “في العشية” لمؤلفها إيڤان تورغنيف مجرد إبداع خالص، بل كانت وليدة صدفة أدبية ذات أبعاد مأساوية. ففي قرية متسينسك، تسلّم تورغنيف مذكرات من جاره الشاب الذي كان على وشك الانخراط في حرب القرم، مُدركاً احتمالية تضحيته النهائية. الشاب، الذي توفي لاحقاً في تلك الحرب، ترك خلفه وثيقة عاطفية موجعة: حبّه لفتاة روسية في موسكو، وكيف تخلت عنه لتتبع مهاجراً بلغارياً، مؤثِرةً بذلك المنفى والمجهول على الاستقرار المألوف، ومن ثم واجهت مصيرها بعد وفاة حبيبها البلغاري القصيرة. هذه الواقعة، بكل ما حملته من خيانة فردية وتحول جذري في الاختيار، أصبحت النواة الوجودية للرواية. وهكذا، تجاوز العمل مجرد كونه سرداً مستلهماً ليغدو تجسيداً فنياً عميقاً للمرأة التي تستبدل السعادة الرخوة والروتين الاجتماعي بالالتزام المطلق والمأساة النبيلة، محولةً الحكاية الشخصية إلى بيان حول تفضيل الفعل الثوري على السكون الأرستقراطي.

مقالات من نفس القسم