في البدء كانت الكتابة ..

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

 

باب البيت أخضر، قديم وتبدو عليه علامات مضي الزمن، كسر نقار الخشب أجزاء من حافته العليا, فرُقعت بقطع خشبية صغيرة بدت متنافرة مع الأخضر بلونها الخشبي الطبيعي.

 نقار الخشب يذكرني بأخي وطفولتنا، وأفلام الكارتون التي أمتعتنا بالصغر.  نقار الخشب كان أحد أبطالها ولم أره قبل أن دق حافة احدى نوافذ بيتي كي يختلس قطعا من خشبها، سوى على شاشة التلفاز المربعة، وقت كان التلفاز مربع الأبعاد كصندوق.

 

 

اعتدت الدق من الداخل كي أخيفه ليبتعد، وفهم حيلتي بعد حين وصار يبتعد برهة ليعود ويدق ناقرا، لأجيبه من الداخل بدق أقوى بتصميم وأصيح “كفى” فيعود للشجرة المواجهة وأبادله من خلف النافذة نظرات يفهمها كلانا.

لكن بتلك القارة التي هي بالأصل غابات كثيفة استوطنها الانسان وشق بأحراشها طرقا وبني بيوتا، نحن البشر ضيوف على الطبيعة ومخلوقاتها.

طبيعة ضخمة كحضن جبل والأشجار محيطة بكل شيء والأخضر مترامي الأطراف إذا ما حل الربيع الذي يدعو الكائنات للخروج من مكامنها بعد ذوبان الجليد ويتحول المحيط لغابة كبيرة نسكنها مع كل تلك الكائنات، مثل نقار الخشب الذي لا يشبه ذلك الذي كنت أشاهده مع أخي ومثل السناجب التي تمرح في حديقة البيت الخلفية وتركض على السطح بالمساء كي تُقلق صمت السبات. 

في الصباح الباكر أتسلل من دفء الفراش للدور السفلي كي أعد قهوتي، وألقي على الخضرة المعانقة زرقة السماء نظرة امتنان ثم أهمس “صباح السكر”

وأعجب كيف انتهى المطاف هنا، بفتاة صغيرة كانت تكلم القمر وتكتب له قصائد شعر تسأله فيها عن معنى الوجود!

ما الذي أوحى لفتاة لم تتم بعد عامها العاشر أن تسأل سؤال كهذا!  لا أذكر مصدر الوحي، لكني أعرف أنه قد يكون أي شيء، كل الأشياء في عقل الكاتب قد توحي بشيء ما.  لا يوجد منطق ظاهر ولا مدلولات محددة.

الأمر قد يبدو عشوائي بشكل يصعب وصفه، لكنه مفهوم ومريح بالنسبة لنا ككتاب وغير مستغرب.

المستغرب هو أن يحيط بك مصادر عدة للوحي ولا تجذبك الأفكار الخلاقة لتركض بأثرها. 

مثلما حدث لي هنا بعامي الأول بمنفاي الاختياري هذا، مدينة “الربيع الفضي” التي بدت لي في وحشة صمت الكتابة محل خريفا لا ينتهي!

مهلا.. تلك العبارة المجازية الأخيرة بها من التهويل والميلودرامية ما لا أستطيع أن أنكر، فنجم الوحي لم يأفل تماما وهي الحقيقة التي لن أنكرها إن كنت سأتحرى الصدق التام لكن ليس الصدق هو الغرض، لأن هذا ليس ببحث علمي ولأن الكتابة الإبداعية بالأصل لعبة مزج خيال بواقع ومحاولة رد كل عبارة إلى أصل وحيها هو تمزيق متعمد لنسيج النص.

ولك أن تتخيل ألم النص وعذاب صاحبه عندما يحاول عقلك تمزيقه بتلك الطريقة بدلا من تلقيه كما هو ثم الاستمتاع به أو تحليل مواطن الإبداع فيه ومناطق الملل أو حتى رفضه ككل.  احكم عليه بما شئت المهم ألا تمزقه إربا وتحرق قلوبنا عليه. وإن كنت أحد هؤلاء الوحشيين فأنا لا أريد الحديث إليك.

لكني لن أستسلم وأصمت تماما لمجرد أن العالم مليء بالمتوحشين، الذين يمزقون نصوصنا على أسنة رماح الرفض، الاحتقار والحكم المسبق!

لقد صمتت النساء تحديدا وقتا طويلا جدا، أطول مما ينبغي. وبإمكانك التحقق من عدم مبالغة تلك العبارة إن درست تاريخ الأدب وقارنت عمر ظهور الكتاب الرجال بعمر ظهور الكاتبات.  كما أنه معروف أن بعض الكاتبات بقرون ماضية عمدن للكتابة تحت أسماء مستعارة لرجال خشية من المجتمع.

الكتابة النسوية وصف يلاحق أي امرأة، وإن دققت قليلا في تاريخ الكتابة والكُتاب وحكايات قصصهم لتبين لك عِظم اجحاف ذلك الوصف.

وكم أكره هذا التعبير ” النسوية”

أن تكتب المرأة كامرأة! ياله من أمر مستهجن ونوعا من أنواع المحدودية، أن يدور فكرها في محور جنسها!

بينما من حق الكاتب أن يكتب مئات الروايات ويكون أبطالها رجالا، ولا يتهمه أحد بالذكورية، لكن المرأة التي تكتب عن المرأة هي قطعا كاتبة نسوية، والرجال في كتابتها فهم عشاقها السريين أو رجال عبروا بحياتها. 

فهناك من يتصور، أن المرأة تكتب فقط كي تبوح للورق بمشاعر مكبوتة، واراها عن التصريح رفض أو استهجان.  والكاتبة في مخيلتهم، امرأة خيالية تطارد الفراشات وتكتب باللون الوردي وتشرب القهوة وتسمع فيروز وتقتني الكتب وتدعي الاختلاف، لأنها تريد أن تكون مختلفة ولأنها بحاجة لأن تتمرد.

ولأن علاقتي بالكتابة أقدم من علاقتي بكل الموجودات بما فيهم الرجال وأنوثتي، ووعيي باختلاف منظور الآخرين فإنني لم أدرك تواجد ذلك التصور الساذج عن المرأة الكاتبة إلا بوقت متأخر بعمري، ولقد أثار تهكمي الداخلي كغيره من التصورات والأحكام العنصرية الغبية.

لكني تنبهت إلى أني قد لا أسلم من هذا التصور وخصوصا إن كان القارئ يعرفني معرفة شخصية، وتثير تلك المعرفة بداخله فضولا.

يحلو لي أحيانا تخيل نفسي عجوز وقد تراكم بتاريخي رصيد معتبر من الكتابة، وهؤلاء الحمقى محدودي النظر بالحكم على الكُتاب يفتشون بين كتاباتي عن طابور العشاق السريين الذين غررت بهم أو غرروا بي.

أسائل شخوصي الخيالية في احدى جلسات سمرنا عن العدد المحتمل للعشاق في حياة امرأة مثلي، ونسخر جميعا من الفكرة، فأصيح بتباهي ساخر “سبعون رجل، محتمل جدا تتبع أثرهم بين أوراقي” فيرد على أحدهم، “ولماذا لا تزيديهم مائة”!

نعم.. شخوصي الخيالية.. أولا أزعم أني كاتبة! وهكذا هم الكتاب، في تصور البعض، غريبي الأطوار يحدثون الهواء على أنه شخص ما، يسهرون طوال الليل، وبعقولهم مس من جنون!

والكاتبة هي امرأة مهمومة بالحب، أوراقها شراشف لمسح دموع العشق وآهاته أو التمرد على المجتمع الذي طحنها وقهرها وإبداعها كله يتمحور حول رجل.

على الرغم من أنه بمنظوري الشخصي لا عيب إن كتب كاتب أو كاتبة عن الحب فقط.

فليكتب كل ما يشاء، كما أراد وبطريقته. 

المهم أن نكتب….

فلنعد إذا للعبارة الميلودرامية المٌهوِلة “بدت المدينة لي كمحل خريف لا ينتهي”

لا يمكن أن أكتب عن هذا، لقد كتبت تلك الفكرة من قبل.. الكاتبة التي صمتت عن الكتابة، والسبب بالطبع كان “رجل”

فكان نص مجازي بالكامل، به من العبارات الموحية ما لا يمكن اغفاله والبطل والبطلة بدون أسماء والقصص الصغيرة متتالية، لكنه اختصر بأكمله بالنسبة للبعض في البحث عن هوية رجل!

لعنة الله على المتوحشين والأحكام المسبقة!

نقار الخشب يؤمن على لعناتي بثلاث دقات متتالية قبل ان أصيح به بصوت عالي، “أنا أكتب”

لكني لا أكتب حقا..

أنت تكتب لكن كتابتك لا تكتمل سوى بالتجميع والمراجعة والتدقيق.  كتابة غير مكتملة كباب البيت الأخضر هذا، هو لم يزل بابا، غير مكسور ويحمل خلفه حكايات، لكنك غير مستعد بعد لدعوة أحد كي يطرقه، بشكله الغريب ذاك بقطعه الناقصة والقطع الأخرى المرقعة.

حياتي الشخصية بقسوتها وتلاحق أحداثها، مثل نقار الخشب، ماكرة وسارقة لقطع لازمة كي يكتمل الباب المولج للحكاية.

والهجرة تجربة صعبة وفريدة في أثرها.

ينصحني صديق أن أنشئ مدونة عن تجربة الهجرة والعزلة، وأن أستغل موهبتي بالكتابة كي أخلق تفاعلا بيني وبين آخرين من خلالها، فأفيد آخرين وأهون على نفسي قسوة الانعزال وأمارس كتابتي على هيئة مذكرات.

تضحك الكتابة ساخرة، ضحكات عالية تستفزني، فهي تعرف أن المذكرات هي أقل صورها اشباعا لنهمي. 

الكتابة، عشقي الحقيقي والأبدي، تعرفني حق المعرفة، تعرف أني لا أكتب فقط من وحي الشعور.. لم يكن أبدا الدافع أن أكتب نفسي، ولو كان.. لملأت الأوراق حكايات قد لا تُصدق.

ربما لو لم يمنحني أبي صوتي، ولو لم تمنحني أمي العطف، ولم يهبني الرب البصيرة، لو لم أملأ الدنيا صخبا وضجيجا.. لو لم أقل كل شيء، وأفعل كل شيء، لبقي في حلقي بعض الكلمات المكتومة.. عني.

لو لم أحب بعزم ما في.. أو لم أهجر كمن يطوح الرماد ببحر.. لو لم أمارس العشق كحرة أو لم أحزن كمن لم ير ضياء أو لم أفرح كمن لم يذق فقد.

 لو لم أكن قد كتبت بصحائف عمري كل ما استطعت كتابته، لأغوتني بالبوح عن ذاتي رواية.  لكني لم أدخر للأوراق شيء، أنا التي تعيش بحق وتكتب ما أرادت على مآقيهم وبقلوبهم. 

أمثالي لا يكتبون عن أنفسهم، أمثالي يُكتب عنهم ولو بعد حين! مثلما أكتب أنا عن آخرين.

فالحياة أكبر مني ومن حكاياتي الشخصية، والعمر قصير جدا، وأنا نهمة كطفلة تتأرجح بين متعة المعرفة ولذة الدهشة ولا تكتفي. 

أعاند الكتابة العصية وأعاند نفسي وأجلس على المكتب الأسود، بحجرة الشمس، كما نسميها لكونها امتداد للبيت مطل بأبواب زجاجية كاشفة للحديقة الخلفية للمنزل.

حجرتي التي أوصت بها “فيرجينيا ولف” كل كاتبة وهي وصية تلزم كل مبدع. 

كل ما يلزمني هنا، الهدوء، الأوراق والقلم والحاسوب ولوحة المفاتيح الخاصة بي التي أحضرتها معي من مصر ولا أستخدم سواها للكتابة.

طيف الكتابة حولي بمكان ما، يرقبني، ليُشهدني على نفسي, على أني لن أقنع بالذاتية ولن أنشر شيئا عما أمر به.

أهز كتفي باستهانة مصطنعة وأقول لزوجي، “ما الضرر أني لم أنشر رواية أخرى بعد! أنا لست بممثلة يجب أن تملأ الشاشات بحضورها كيلا تُنسى، أنا كاتبة والكاتب مفكر، وإن لم يكن عنده ما يستحق أن يقال فالأحرى به أن يصمت”

لا يصدق على كلامي ويرد على بكلمة واحدة “اكتبي”

وهل عرفني عاقل، ذكر كان أم أنثى ولم ينصحني بالكتابة!

لكن في هذا المنفى الاختياري الذي لا أخالط فيه أحد، صعبت علي المواظبة على الكتابة، لثاني مرة بعمري، فعرفت معنى السأم.

 أنا التي منحتها المُتعة عهدا، أن تصير كل نشوة وكأنها الأولى، وكل وداع وكأنه الأخير.  أعرف السأم لأول مرة، ويتخللني كضباب حل بمدينة الشمس بعد مباغتة سحاب.

تعرف الكتابة أني أكتب من وحي الفكرة، لذا عندما زارني الموت واضطربت الأفكار، اعتزلتني الكتابة حتى تستقر.

تعرف الكتابة أني اكتب الآخرين وأني مولعة بحكاياتهم، لذا عندما عُزلت عن البشر، وتجرعت مرارة العزلة، اعتزلتني الكتابة للمرة الثانية.

وعندها صار للأيام بدايات ونهايات، وصار اليوم مجرد معبر ليوم آخر، وأنا أقرأ واكتب و أدرس وأتابع حوارات ومسلسلات وبرامج، كي أقتل الصمت الذي علق بظل وحدتي وأنا أتجول بين أركان البيت الخالي الكبير.

الأصوات ترافقني، عبر الأثير ومن خلال شاشات، لكن الصوت الوحيد الذي يملئني بحق قد خفت لدرجة قاتلة.

من رحمة الرب بي أن شخوص خيالي لم ترافق الكتابة في رحلة العصيان تلك، لقد ظلت معي تؤنسني.  وإن كانت لا تُحادثني كما يتوهم البعض. الكاتب لا يحادث الهواء ولا يرى غير مرئي كمتجسد حي، أو على الأقل لا أفعل أنا!

لكنهم بعقلي وتفاصيلهم تملأ وجداني.  الحكايات التي تخرج للورق بهية، بالقلب مطوية كذكرى قديمة يستدعيها القلم.

لكني قد نحيت كتابة القصص جانبا وكأنما استدراك الكتابة هين، أستحضره بأطراف أناملي عندما أريد!

لكن الكتابة لم تكن أبدا هينة ولا لهوا

وعندما استقر في وعيي أن الكتابة هي جزء لا يتجزأ مني، مثل انسانيتي، مثل ملامحي.

استهنت بتواجدها كأمر مسلم به, فردت لي الاستخفاف بالصمت وتجسدت لي الوحشة في أبشع صورها، ببيت قديم صغير بابه أخضر بمدينة الربيع الفضي البعيدة عن كل ما آلفت

أتحايل علي الوقت بالصبر وأضيف المداد لأداة الكاتب الأهم، عقلي، وأجول بين أفكار آخرين لسانهم غريب عن لساني، وأنتظر حلول ربيعي الوردي الأجمل.

فأنا أحب كوني امرأة كاتبة، ولا آبه كثيرا بأثر هذا على تقييم كتابتي، لكني أحتقر ذلك المنظور المجحف و من حقي مهاجمته إن تسنى لي الوقت.

لقد عشت قناعاتي كتبت عنها أم لم أكتب، لكن تلك ليست هي الحكاية التي أريد أن أكتبها، ولا أبغي كتابة الحب الذي أؤمن به كدين إنساني عظيم، ولا عن تساؤل الفتاة الصغيرة للقمر.

إني أريد الكتابة عن كل تلك الأشياء ممتزجة.

فالحياة تصير محتملة بالفن، كتابة كان أم رسما أم لحنا أم أي صورة كان. 

وتظل الحقيقة التي يعرفها كل من عشق ممارسة الكتابة، هي أننا نتخطى حدود جنسنا وهويتنا عندما نكتب، لنصير مجرد ذرات في تبر إنساني عالمي، ينثره كل من فتح دفتي كتاب ليقرأ، فيستقر بوعي أخر بزمان آخر، بمكان آخر.. بعيد كل البعد عن موقع ذواتنا الشخصية.

وأنا أكتب اليوم من مدينة تبدو ترجمة اسمها شاعريا للغاية بالنسبة لي، لكني لا أعرف من أي مدينة سأكتب غدا، المهم أن أكتب وأن أفتح أبواب حكاياتي للعالم، دون استثناء.

مقالات من نفس القسم