هبة الله شاهين
كعادتي كنت أول من حضر لساحة الانتظار، الهواء أكثر برودةً من كل يوم، اخترت الجلوس على المقعد الأخير، دائما ما كنت أفضل الصف الأخير بمدرج الكلية، الكرسي الأخير في الباص، والعربة الأخيرة في محطة المترو، يمنحك آخر مقعد دائما فرصا كثيرة لتراقب المشهد كاملاً، لا كادر ناقص ولا زاوية مُجتزأة، ترى الجميع ولا أحد يراك، تبكي بصوت خفيض فلا يصل أنينك للجالسين في المقدمة، لا بأس عقرب الساعة الصغير يقترب من الخامسة، في تمام الخامسة، لم يعد هناك المزيد من الوقت أحصي فيه حبات الحصى المتراصة على الرصيف، أو أعد أزواج الأحذية المارة من أمامي على الحافة، سيأتي القطار، يقلنا جميعاً وتنتهي هذه المُزحة السخيفة.
عقارب ساعة تتململ وتخطو نحو الخلف ثانية، وهواء بارد يضرب أنفي، فيُفجر شعيراتها الدموية وتسقط قطرات الدم على أزرار بلوزتي البيضاء، الرُكاب يتوافدون تباعاً والصقيع يضرب مؤخرة رأسي، أحاول التزحزح قليلاً نحو طرف المقعد، الهامش، أفضل هامش الأشياء، الزاوية غير المرئية منها، هناك يكون الانتظار أفضل أهدأ وأعراضه أخف وطأةً،
ما أكثر الأشياء التي انتظرتها ولم تأت
كثُرت الأشياء التي انتظرتها، حتى أنني لم أعد اتذكر ماذا انتظر بالضبط، أجلس على حافة المقعد الأخير بمحطة قطارات على أطراف بلدة نائية، لا أعلم وجهتي ومتى عليّ اللحاق بركب المسافرين لكني أنتظر ربما مقعدي في القطار القادم أو ما سيليه، المسافرون حولي كُثر، جميعهم ينتظرون، حقائب وأمتعة وحكايات استمع آليها بنصف أذن والأخرى تلتقط إشارات القطارات لعلي أجد إشارتي، فيقولون دائما أن كل ما تنتظره حتماً هو آت، البرودة تشتد، تتسلل بين أظافري ولحم إصبع الإبهام، المحطة تُفرغ حمولتها من البشر عشرات المرات، أشعر بدفء المقعد أسفل أردافي.
تجلس خمسينية تستوطن مئات الشعيرات البيضاء رأسها، أسألها كم مرة كان عليكِ الانتظار حتى نبتت كل هذه الخصلات الثلجية؟ يوم أسبوعين شهرين أم عاماً كاملاً؟ فلا تفهم ما أقوله، تمط شفتيها ممتعضة، تخبرني بأن القطار اعتاد أن يتأخر آخر شهرين عن موعده نصف ساعة كاملة، لكنها تأتي قبل موعدها في كل مرة، فيبدو أنها أدمنت الانتظار لتبدأ في عد احتمالات تأخر القطار عن موعده، عُطل في غرفة التحكم والقيادة، راكب من فئة الـVip تأخر عن موعده فأُمرت عربات القطار جميعها بأن تنتظر، وقف السائق لتناول ساندويتشه الأخير قبل التحرك؟ لا يهمها ماذا عطله عن القدوم في موعده، يكفيها اللحاق بآخر مقعد بساحة المحطة، لا تجلس فيه المرأة السمينة كثيرة الكلام والأسئلة، هذه المرة كانت انا والشعرة البيضاء تقبض عليها أصابعي، وساعة تسير عقاربها بعكس الاتجاه.
مثقلون بالانتظار والأمل لكن.. لا خيار
دقت ساعة محطة القطار تمام الرابعة، كانت قبل قليل الخامسة والثلث، لا بأس مازالت الراكبة تنفخ سيجارتها وتهز قدميها على إيقاع دقات الساعة، تلعن المدينة والمسئولين والسائق ومن باع لها كوب الشاي دون أكياس سكر إضافية، اتحسس جيب معطفي، أبحث عن هاتفي، هذه المرة لا لأني أنتظر رسالة لا تأتي، لكنه الفضول لمتابعة آخر الأخبار في تلك البقعة البعيدة عن العالم، حيث تسير عقارب الساعات نحو الخلف، الوقت هنا لا يمر وزفرات السيدة تتعالى، مئات المنشورات يوقفني أحدهم لأقرأه عشر مرات بصوت مرتفع، عبارة كتبها إميل سيوران ربما كان وقتذاك ينتظر موعد قطاره، ” مُثخنون بالأمل وننتظر، وكلنا لانزال ننتظر، والحياة ليست سوى تجسيد للانتظار” تهز الخمسينية رأسها وتبتسم، فقد وجدت عزاءها فيما قاله سيوران، يبدو أن ألم الانتظار يصبح أخف على الصدر، حين يتقاسمه الكثيرون! لأنه لا خيار سوى مزيد من الأمل والشعيرات البيضاء وخطوط اليد الرفيعة والتجاعيد الصلبة.
الوقت لا يمر والتجاعيد تزحف للكف اليسرى
من الرابعة والنصف للرابعة، الوقت هنا ثقيل بارد تفوح منه رائحة الكافور والنعناع، كلما اقتربت الساعة نحو الخامسة تنحرف العقارب بعيداً، تعلن إضرابها الكامل، ألعن حظي وبائع الشاي الذي لم يُحضر للسيدة المزيد من أكياس السكر، قالها أحدهم بصوت مرتفع، بينما يجلس في منتصف المقعد الثاني يقلب صفحات جريدة قديمة تشبعت بزيت البطاطا وشرائح الباذنجان،”الوقت هنا لا يمر” بدلاً من ذلك لنجعل الانتظار ينتظرنا! استمع لصوت الشعرة البيضاء الجديدة وهي تنتصب واقفةً، هذه المرة ليست في رأسي، أراها ترقد تحت تجلد إصبعي الأصغر، البرودة تزيد ورائحة الكافور تملأ صدري ورصيف المحطة، تزحف التجاعيد الجافة نحو كفي الأيسر، المعصم وباطن ذراعي.
لا أعلم كيف يمضي الوقت هنا، كم لبسنا ونحن ننتظر؟ ساعة، ساعتين أم مائة عام؟! كل شيء كما هو، وأنا لم أبرح مقعد انتظاري بعد، أخاف إذا تركته يستولى عليه أحدهم، خاصة هذا الشاب الذي تذمر مراراً من نقص المقاعد بالمحطة، “مادمنا سننتظر كل هذا الوقت، ليحضروا لكل واحد منا مقعداً”، البرودة تتسلل لأسفل ضهري تكاد أن تشقه نصفين، الخمسينية تبحث عن آخر سيجارة في حقيبتها، والمُتذمر يستند للحائط يبدل قدم بأخرى، وددت لو أعطيته مكاني، لكن أخاف أن أمكث أكثر من ذلك فتخونني قدمي وأسقط، يكفي ألم الانتظار الضارب من جذور الرقبة لقاع سلسلة الظهر.
في الانتظار تعد لي الذكريات حفل عشاء أخير
اتأمل خطوط التجاعيد وهي تتابع زحفها، تنتقل من الكف اليسرى لليمنى، أتحسسها اتابعها بتوجس، تنبض بخفة ووهن، تتوقف قدمي الخمسينية عن الاهتزاز أرى ابتسامتها للمرة الأولى وهي تكشف عن أسنان بنية متآكلة وندبة لحرج قديم باللثة العلوية، يبدو أن أخدهم قد أثنى على الجيب القصيرة التي ترتديها، “اشتريتها في نهاية الموسم الشتوي الماضي”، اتركها للابتسامة الهادئة، واستعد لحفل عشائي الأخير تعده لي رأسي الصغيرة، كلما انتظرت بالمحطة، لبعض المواقف والذكريات غير المنسية، الوقت يكفي بعد لأعيد تنظيمها حسب الأهمية، ربما تعود الساعة للثانية ظهراً الآن، الذكرى تأتي تباعاً الواحدة تلو الأخرى، في الانتظار فقط بإمكانك أن تحصي عدد خيباتك ومرات السقوط من درابزين السلم، وارتطام رأسك بحافة باب الميكروباص، والأفواه التي ابتسمت وأنت تحبس صرخة في عمق صدرك، وآه لم تعبر فوهة الحَلق.
كيف كبرت في ساعة واحدة عشرين سنة ويزيد؟
في الانتظار تنمو برأسي شعرة بيضاء جديدة، قصيرة جافة وصلبة، تنبت فجأة، تقفز واقفة مُعلنة عن نفسها، تبدو أكثر خشونة من خصلات شعري الناعمة بالأساس، تمنحني فرصتي الأخيرة كي لا انتظر، فتزحف أصابعي نحوها لاقتلعها من جذورها، تترك الجذور والمكان لخصلة جديدة، فرغما عني أتحسسها برفق وانتظر المزيد، يجف جلد وجهي ويتجعد يترقق، ثم يتجعد أكثر، لا مرآة معي لكن أصابعي مرآتي، أتحسس وجهي برفق، أظنني كبرت هاهنا عشرين سنة أو يزيد في ساعة واحدة!
حسنًا.. هرول العقرب ناحية تمام الثالثة، الجميع ينفخ الهواء الساخن في وقت واحد، المقاعد ممتلئة عن آخرها، وأنا أحاول السيطرة على القشور البنية الجافة التي تنمو على كفي وذراعي ورقبتي، بينما تتضاءل قدرتي على رؤية لافتة الخروج في نهاية الممر، دقات قلبي تهدأ والتنميل يضرب قدمي وكتفي، أراهم من حولي وقد تقوست ظهورهم وساد البياض مقدمة الرؤوس والحاجبين، اسأل الخمسينية، كم بقينا هنا؟ تفتح فمهما فلا أرى أسنانها المتآكلة، فراغ وظُلمة شديدة في الداخل، تميل برأسها على كتفي ويعلو صوت شخيرها، تهمس في أذني قائلة:”حسناً سيأتي القطار بعد قليل يا حلوة”.