“فيصل.. تحرير أيام الديسك والميكروباص” لحمدي عبد الرحيم.. نظرة من برج مراقبة الحياة

فيصل تحرير أيام الديسك والميكروباص
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

نهلة عبد السلام

من العنوان توقعت كتابًا ساخرًا وضحكًا حتى تدمع عيناى، وأما الأولى فخاب النشان فهو اجتماعى هزلى (هذا وفق رؤيتى بالطبع)، فعلاقة المواطن الميكروباصاتى بالمواطن الديسكاوى علاقة الأكيل بالطباخ، بالنهاية طبق يبتلعه دون أن يدرى عن صنعته شيئاً.

وأما الثانية وبما أنى حساسة بدرجة نكدية ولى صيت ينافس حمادة هلال فكانت الدموع من الإهداء والامتنان الذى يرد الجميل لصانعيه، أربعة سطور تدحر ما صرنا إليه من نكران، حمدى عبد الرحيم أتبع الموصوف بصفة ثم بلقب، أبى الكريم الحاج، أخى الكريم الحاج، وعلى طول خط الميكروباص وبعدد ليالى الديسك لم يغفل رفيقًا ولا صديقًا، سترى اسم من لا يستسيغ بينما أفصح عن فاكهة رحلته، لو كنت أرتدى قبعة لرفعتها ولكن مع الأسف لم أعتمر يوما واحدة فأنا جيزاوية لا باريسية.

حمدى عبد الرحيم يعى أن الشرير فى روايته هو الطيب فى رواية غيره، وربما لذلك عمد إلى إغفال شخصوص أشرار فرضهم المشوار عليه، حتى إنه فى التفاتة منه حاول تجميلهم بأن جعل سوءهم فى ثقل ظلهم أو إدمانهم على التباهى رغم تدنيهم مهنياً، لا طعن لا همز لا لمز، بالنهاية لن تكره ولكن على صعيد آخر ستحب، فمثلاً زينب (أم هيا) لن تنتهى إلا وقد عددتها من عائلتك، باشة ونقية وأخت لم تلدها أمك، زينب التى أود لو عرفت ما آل إليه حالها وحال هيا ابنتها، هشام أبو المكارم صديق البيئة، تصور بنى آدم لحم ودم وأعصاب ويعمل بالديسك وكوارث المحررين لا يشتم أبداً نهائياً مطلقاً، لا يلعن (العيشة واللى عايشنها، أشى خيال يا ناس)، أدفع الباقى من عمرى ويدلنى كيف كظم غيظه وصان مرارته، أظننى بمكانه كنت لأحصل على ذهبية السب والقذف، خالد البلشى والواجب، واجب حفظ ماء وجه الصحافة فيعيد دون تبرم تدوير النفايات كى تليق بآدميين، واجب الولاء للمهنة، وقفات قد تفضى إلى تقاعد، وحتى الأسماء التى ذكرها فى سياق الحكى لم يفته التنويه عنها فى الهوامش، ومعلوم الرحلة برفاقها بميكروباصاتها بباباغنوجها.

وبما إنه لا مفر من مواجهة السائقين والراكبين، فقد قرر حمدى عبد الرحيم أن يصنع من الفسيخ شرباتا، فكان برج المراقبة، الكنبة الأخيرة عكس اتجاه السائق، يكشف مسرح الجريمة أو قل الجرائم، جرائم السائق الدجاجى المدمن على البلع والحقن والشد ثم يد تديرالمحرك ورجل تضغط بنزين ثم قل على الركاب يا رحمن يا رحيم، مسجل خطر “وكدا كدا خربانة”، جرائم الخصخصة والتى أذلت عزيز قوم، من مقعد المكتب إلى مقعد الكابينة، سائق المعاش اللقمة السائغة والنفس التى ما عاد سبيل لجبر كسرها، وفى عتمة القادة الثوار والمتطرفون والسنيّة، وادعاء المستغنى وتباهى الروش يأتى المصرى ليقش ويترك بابًا مواربًا لأمل، أمل التى هرست أصابعها صكات أبواب ثلة سائقين عدلهم التسميم كما أقترح رفيق الديسك.

هذا وقد أسفر برج المراقبة عن إخضاع الركاب لتصنيفات، وعن حكايات مدهشة أيضاً، حكايات يمكن عنونتها بـ (هى دى مصر يا عنتر)، وهذا لأن عبلة نظرت سماء مصر أما حمدى عبد الرحيم والذى فاق عنتر وقد اجتمع عليه الديسك والميكروباص ونجا فنظر دركها الأسفل، مصر بشقيانينها، مصر التى تذهب إلى لجان الإنتخابات بكرتونة سلع تمونينة أو ورقة من فئة المائة، مصر التى استساغت القبح حين فاتها قطار الجمال، حصص الفنون التى ابتلعتها حصص الأحياء، الأحياء بالكاد، أشتعلت قصص الحب والبؤس على مقاعد متهالكة، فى حدائق قاحلة وميادين أكوام القمامة أبرز معالمها، بين مواقف باعتها وبضاعتها كمثل زبائنها، لستخدام قصير المدى يتناسب وقصيرى اليد.

وتتدفق حكايات الميكروباصيين، تلك الجنسية التى خلعها حمدى عبد الرحيم على ذوى الدخول الهزيلة ممن لا يطيقون لسعة التاكسى، أما السيارة الخاصة فامتلاكها يندرج تحت بند الخيال العلمى.

حكايات لا تدين أصحابها بقدر ما تدين القائمين عليهم، تغييب دورالثقافة وجعل المشتغلين بها عرضة للسؤال “الثقافة مبتوكلش عيش” والمساءلة فهى كالقلوب “جلابة مصايب”، مما أفرز شابًا راح بمنتهى الأريحية يتندر بفحولة أبيه وزوجته رقم عشرة على ملأ من أصحابه بل ومن غرباء، وفتاة لم تتورع عن استكمال زينتها ورسم حاجبها وكأن الميكروباصيين صاروا من العائلة الكريمة، وأخرى تركت جسدها لعبث رفيقها وكأن المُطفأ نور حجرة النوم لا صالون الميكروباص، وعزة رمز البزازة، وفريدة التى قلبت الميزان فصارت هى من تأخذ الرجال لحمًا ثم تطردهم من جنتها فترميهم عظمًا.

حكايات من المفارقة بحيث لاتدرى أمن طين خُلق الشعب الميكروباصى أم من نار؟.

 الابن الشاب الصعيدى الجدع، أمه على شفا حفرة من هلاك والسائق منهمك فى شجار تورط به زميله، مقعده خالى والمفتاح ينادى، أدار وطار، أذله وكسر شوكته حتى رد بعض من حياة لأمه، الأخ الحاضر بقوة فى محنة أخته، يطوقها بذراعيه ليحميها من عصف الحياة بها حتى صارت إلى شبح، الزوج الذى صفعته خطيبته بأن استولت على أموال حصلها من الغربة ثم عوضه الله بمن كانت تحبه فى صمت احتراماً لإرتباطه بصديقتها، ثم هاهى تسانده بعد محنة السجن وتقنع به وحده، ثم هذه المرأة البسيطة والتى تبنى جار لها موهبة ابنها تامر، كرة القدم، وتنتقل العدوى إلى سائق الميكروباص فيهب ساندوتش للكابتن الصغير على سبيل التحية والتشجيع.

حمدى عبد الرحيم ما إن يفرغ الكوب حتى يملأه، ما أن نظمأ حتى يروينا، وما أن نندمج مع الميكروباصيين فنصير حبايب قرايب حتى يخطفنا إلى الديسك وغسيله، ويداخلنا الشك بأقلام طالما طالعنا أعمدتها، تحقيقاتها، حواراتها، ونحن كقراء فى غفلة عن كتيبة أضافت البوتاس لمنتجه كى يصير صالحًا للتلقى، ورغم ذلك يخدع نفسه فيصدق أن منتجه كان ناصع البياض، وما أُضيف إليه ليس أكثر من منعم وملطف، فتوجه إحداهن القاضية إلى بلال فضل (ميرسى عالفاينال تاتش).

ويعود حمدى عبدالرحيم فيضمن حكايته شخصيات لابد وأن تستفز خيالك فتتمنى لو صرت جزءًا من عالم الصحافة، والذى أجمل ما فيه أنه كل يوم فى جديد، أنت فى قلب الحدث، وإن قُدر فصرت ديسكاويا فأنت فى قلب المساحيق، فى قلب الكلور والزهرة، فالديسكاوى يغسل ولا أنصع.

   

مقالات من نفس القسم