فن الراب: الجسر بين الشارع والفن

فن الشارع
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

مروة مجدي

أهم ما في كتاب “فن الشارع” الصادر عن دار صفصافة 2024 للكاتب سيد عبد الحميد، ليس تحليله لأسباب انتشار الراب، ولا استعراضه رحلة صعود رواده، ولا ربطه كل ذلك بالمشهد الثقافي والاجتماعي والسياسي، بل أنه يجعل من يكره هذا النوع من الموسيقى مشدودًا ومنتبهًا وفضوليًا تجاهها.

يجد القارئ نفسه مدفوعًا للبحث عن هؤلاء الرابرز، لسماعهم، الالتفات إليهم، التعرف على صوتهم في الكتابة، فتتغير النظرة تجاههم تمامًا.

النظرة الأولى للراب: التحول من الاحتقار إلى الفهم

قبل قراءة هذا الكتاب، لم أكن أرى الراب فنًا. كنت أحتقره، أنفر من رداءته. فما الفن في موسيقى صاخبة، تصيب الرأس بالصداع، ولا تستطيع فهم الكلمات من تسارع الإيقاع. وبحكم أنني شاعرة والكلمة عندي لها ميزان ذهبي، كان النفور أشد. لم أجد فيه إلا استعراضًا ذاتيًا ومبارزات كلامية -يسمونها هم معارك راب، وأسميها “أي كلام”- ليقولوا إنهم الأفضل على الإطلاق.

لكن بعد قراءة كتاب “فن الشارع”، وجدتني، ويا للغرابة، أبحث عن الجوكر مثلاً. أولاً تعاطفت معه، فهو شاعر في الأساس، فازت قصائده بجائزة. شاعر لم ينل حظه من الانتشار فلجأ إلى العامية ومن ثم إلى الراب. هذه قصة في حد ذاتها، حكاية تتماس معي بشكل ذاتي وخاص. أكتب الشعر الفصيح أو بالأحرى النثر الفصيح، مما يثير غضب الأكاديميين كارهي قصيدة النثر، إذ يفضلون القصيدة العمودية والتفعيلة. لكني أحب النثر؛ إذ يشبع داخلي رغبة ملحة في التحرر.

لكن كثيرًا ما أفكر، هل سيقرأ رجل الشارع البسيط قصائدي يومًا ما؟ هل سيفهم المغزى أو المعنى منها؟ منذ أيام، دُعيت إلى أمسية شعرية وألقيت قصيدة نثرية لم يفهمها معظم الشعراء. مما سبب لي إحباطًا شديدًا. إذا كان هذا هو حال الشعراء، فما بال القراء أو البسطاء؟ جعلني هذا أفكر جديًا في كتابة العامية، لا لشيء إلا للنزول إلى أرض الشارع، والاحتكاك بالناس، دون ثقافة أو جماليات أو حتى فن، بل للتواصل، لبناء جسر بيني وبينهم، لغة مشتركة.

الراب كجسر بين الشارع والفن: اللغة المشتركة والتعبير الصادق

أعتقد أن الراب هو هذا الجسر، هو اللغة المشتركة بين الشارع والفن. ولذلك جاء عنوان الكتاب مضبوطًا بالشعرة، دقيقًا جدًا في تعبيره عن المحتوى. هذا فن نشأ من الشارع، من أحلام شباب ثوري متمرد، فتح عينيه لأول مرة على ثورة، على أناس يقللون من شأنه، يتعمدون تهميشه، احتقاره، خنق صوته، محو رأيه، وأده بشكل كامل كما فعلوا مع الثورة. فكان طبيعيًا جدًا أن يتولد كل هذا الدفاع عن النفس، وكل هذا الاعتزاز بها، الذي أراه ليس تعاليًا ولا غرورًا، بل هو دفاع عن كونهم شبابًا لديهم طموح وكلمة مختلفة أرادوا أن يقولوها بشكل مختلف، بشكل سريع وملائم جدًا للعصر الذي نعيشه، والذي يخنقنا في آن واحد.

الراب والثورة: التعبير عن الهموم الشخصية والقضايا الكبرى

من أكبر اكتشافاتي الشخصية بعد قراءة هذا الكتاب، والذي بالمناسبة سبب لي ندمًا حقيقيًا وحزنًا من نفسي، أن هؤلاء الرابرز كتبوا عن ثورة يناير بجرأة وتجرد شديدين. غنوا بصوت عالٍ، عبروا عن أهم حدث سياسي واجتماعي فارق، كأنهم يقولون: اسمعوا لنا، كلامنا له جدوى وقيمة، لسنا مجرد حمقى، لدينا وعي كبير بالثورات والأحداث العربية والمجتمع، وهذا وعي شديد الأهمية.

بلدنا بتتمزق ما بين طوايف شعبها

وكل طايفة شايفة الصورة من زاوية فكرها

مفيش حد نزلها شاف عقدتها وجاب حلها

ماتش والفرقة الكسبانة اللي الجمهور بيهتف لها

 

عايزينا صم بكم والدليل بيحاربوا فكري

تهديد ماهزنيش من امتى صوت الحق بيجري

تراك بلدنا ثمرة تمسحوه اسقيلكو جدري

بكره استيكتكو تخلص ويتبقى حبري

تهدوا اللي بيبني بتبنوا اعلام بيعمي

ف ظل خوفكو الناس تفتح بيهددكوا اسمي

تزيفوا العبادة وتفرشوا السجادة

ازاي بتقابلوا رب بتغضبوه لارضاء السادة

 

التحديات الفنية في الراب: كسر الوزن والإيقاع السريع

لا تخلو كتابة الراب من كسر الوزن، لكن يتم معالجة ذلك في صخب الموسيقى والإيقاع المتسارع الذي يضفي جاذبية على التراك ويجعله ذا شعبية كبيرة. لكن الأهم هو المضمون، الذي ينادي بقيم مثل: الحرية، الحق، الخير، الثورة، أي الانتصار لقيم جميلة.

الراب كوسيلة للتعبير عن الهموم الشخصية

منذ نشأته، كان الراب فنًا للتعبير عن الهموم الشخصية، التعبير عن هموم رجل عادي، يضع العناصر الكاملة من معجم خاص وتقنيات مواكبة للموجة ليضم فئات متعددة إلى جمهوره. والله، هذا مقصد نبيل، عندما يكون هدفهم التعبير عن شرائح أكبر وضم جمهور جديد من خلال الكتابة، أياً كان شكلها. أنا ككاتبة أو شاعرة أتمنى أن أتمكن من تحقيق ذلك.

الصدق والتجرد في التعبير عن الذات

كل ما انسى افتكر كل ما ابقى مدمن ابطل

بعيش أعراض انسحاب والنص جرام في الشنطة

مش هكدب زي نجوم الشاشة واعمل فيها مثالي

هاغني مية دليل ع حرمانية الاغاني

لو حللنا هذا المقطع سنجد فيه كل المشاعر. شخص متخبط نتيجة إدمانه، يحاول الإقلاع ولكنه لا يستطيع. لا يتجمل ولا يخجل من الاعتراف بخطئه مثل نجوم الشاشة. يعترف بكونه بشرًا، غير مثالي، بل والأدهى، يغني مئة دليل على حرمانية الأغاني، كأنه يقول: “أنتم على حق وأنا على خطأ، حتى نوع الأغاني هذا خطأ وحرام، أنا كلي أصلاً خطأ وحرام.” وقفت أمام المقطع بمشاعر تعاطف حقيقية.

ثم يأتي مقطع آخر ليقول:

ما كانش فاشل ولا فقير زي ما انت متخيله

الهيروين محتاجه لاجل ما يواصل إنتاجه

عشان ضعيف وحقيقته مرضه استسهل الهروب كعلاجه

مشي بسرعة الشريط فوجيء في الاخر انه وحيد

هذا رجل صادق، يكتب عن نفسه بصدق شديد وتجرد أكبر. يتجرد من كل شيء، من الادعاء والتزييف ومحاولات التجمل. يصف نفسه بعيوبه وضعفه وهشاشته ووجعه الذي أدى به إلى الإدمان واعترافه بأنه لجأ إليه للهروب. هذه درجة عالية من الصدق قلما أجدها في شخص أو كاتب.

باختصار، أجمل ما في هذا الكتاب أنه لا يشبه إلا نفسه كما فعل كل مغني راب هنا. كل منهم لا يشبه إلا نفسه وتجربته بصدقهم، بغضبهم، هشاشتهم، صوتهم العالي الذي لا يقول إلا أنهم مجموعة شباب طموحة، وكل ما يتمنونه هو أن يُروا، ويُروا بجدية، ليس لمجرد اعتلاء تريند أو شهرة، وإن كان ذلك أيضًا غرضًا، لكن الأساس كان التعبير عن النفس بصوت عالٍ وقوي، يصل إلى أبعد مكان في الكون، وهذا حق أصيل لكل إنسان، فما بالك إن كان موهوبًا.

 

مقالات من نفس القسم