خيري عبد الجواد
يقدم حسين عبد العليم في روايته الجديدة “فصول من سيرة التراب والنمل”، ذلك العالم الذي دأب على تقديمه لنا منذ أن بدأ الكتابة في منتصف السبعينيات، فقدم ثلاث مجموعات قصصية هي: مهر الصبا الواقف هناك ،1990 الرجل الذي حاول جمع شتات نفسه ،1994 الأمسيات والضحك والولادة ،1996ورواية واحدة هي رائحة النعناع 2000.
هذا العالم ينبني على دعامة أساسية هي: الحنين إلى الماضي الجميل. هذا الجرح الذي لا يندمل، والذي يلهم باستمرار، ويلهب أيضا خياله ووجدانه فيقدمه في كل قصصه ورواياته كزفرة أسي ومرثية تكاد لا تنتهي على أيام ضاعت وزمن فات لن يعودا مرة أخري.
بحمد لهذا الكاتب إخلاصه لمشروعه، ودأبه المستمر في محاولة تطويره، وهو ما نجح فيه إلي حد بعيد في روايته الجديدة فصول من سيرة التراب والنمل، حيث يقدم فيه أحد العوالم غير المألوفة في المشهد الروائي والقصصي المصري، البيئة القبطية بكل همومها وأفراحها وكدحها ومعاناتها وبهجاتها وفواجعها المؤسية حينا، والمثيرة للاشفاق أوحتي للضحك أحيانا، يقدم حسين عبد العليم رحلة حياة أسرة قبطية تعيش في الفيوم، وهو إذ يقدم تفاصيل حياتها اليومية، إنما يتتبع حياتها في رحلة الصعود والهبوط داخل عدة دوائر منفصلة متصلة في آن معا، لكن علينا أن نوضح قبل الولوج في أحداث الرواية، أن الأعمال التي تناولت عالم الأقباط في مصر تكاد تكون نادرة، أذكر منها على سبيل المثال أيقونة فلتس لجورج بھجوري، وبعض أعمال دوار الخراط، يوسف فاخوري، مجيد طوبيا، نبيل نعوم، ورؤوف مسعد، ولاحظ أن هذه الأسماء التي ذكرتها لكتاب أقباط. الجديد هنا هو أن يقوم كاتب مسلم هذا العالم، ليس باعتباره كاتبا مسلما يقدم رؤية سياحية أو فولكلورية لمجتمع الأقباط في مصر، بل هو يقوم برصد هذا العالم من داخله، وكفرد من أفراده، لا تفرقة هنا بين أن يكتب عن أقباط أو عن مسلمين، إنما هو في الحقيقة يكتب عن أسرة مصرية تعيش في مدينة الفيوم، وأقدم تاريخ لهذه الأسرة يتحدث عنه الكاتب هو أربعينيات القرن الماضي، الأب الدكتور عزیز بشری فانوس الذي يعمل طبيبا، وزوجته عايدة سنادة مهاود، وابنا عزيز وعايدة فؤاد وفاروق. لاحظ دلالة الأسماء، فالأسرة ترتبط بمجتمع ما قبل الثورة، أي في فترة حكم الملك فؤاد والملك فاروق، والأم تؤكد على هذا المعني، حين تعلن لزوجها عزيز في أول لقاء بينهما عن هوايتها في جمع صور الأميرات فوزية وفايزة وفايقة شقيقات الملك فاروق والتي جمعتها من مجلة ملونة، تعرض عليه الصور بانبهار وحرص كأنهن مثلها الأعلى، إنها تعيش في هوايتها والتي تملك عليها كل حياتها، فهذه صور الزواج الملكي، وأخري لمحمد أفندي عبد الوهاب وسيرة خلوصي في فيلم الوردة البيضاء كما أنها تكتب أسماء الشوارع والمحلات التي تحلم بزيارتها في القاهرة شارع الملكة نازلى وشارع الملكة فريدة، الأزبكية وشارع إبراهيم باشا وكازينو صفية حلمي والأوبرا الملكية وكازينو بديعة الخ…
الكاتب يستخدم تقنية التواريخ بديلا عن الفصول التقليدية فعناوين الفصول استعاض عنها بالتواريخ هكذا: ،1998 ،1982 ،1977 ،1940 وأتصور أنه نجح في جعل الرواية لا تسير على نهج واحد سهل التتبع من البداية إلى النهاية، بل أتاحت له تقنية استخدام التواريخ في التنقل بحرية في الزمان والمكان، فهو مثلا يفتتح المشهد الروائي في أواخر الثمانينيات على وفاة الدكتور عزیز من خلال نعيه المنشور في الجريدة، وبعده مباشرة ينتقل إلى عزيز في آخر أيام حياته التي أصابتها الفوضى العارمة بعد وفاة زوجته عايدة، ثم مشهد في بداية الأربعينيات حيث تعرف عزيز علي عايدة وبداية زواجهما وتكوين أسرة، وهكذا يلعب الكاتب طوال الوقت علي السلم الزمني بسلاسة وحرية بحيث أن الحدث في الأربعينيات غير استرجاعي، بل هو آني يحدث في نفس وقت حدوثه في أواخر الثمانينيات دون أن يقوم الكاتب بفعل التذكر.
يشعر عزیز بعد وفاة زوجته وسفر ابنه فاروق ثم وفاته في إحدى مستشفيات لندن، بالوحدة، وبأن العالم يتغير من حوله، وأن النمل والتراب يزحفان فيغمران كل شيء، ولا شيء يقف في طريق انتشارهما، لا المبيدات أو النظافة المستمرة طوال الوقت، بل انها أخذا يهجمان بضراوة على ألبومات صور زوجته، وعلي شرائط أغاني عبد الوهاب و أم كلثوم وسيد درويش وأماكن ذكرياتهما معا، ففي صباح كل جمعة من زمن الماضي الجميل، كان الدكتور عزيز يتوجه إلى كازينو صفية حلمي، يتدفأ بشمس الصباح ويجلس في الشرفة الأنيقة التي تطل على دار الأوبرا المصرية والحديقة التي يتوسطها تمثال إبراهيم باشا، يجالس كبار موظفي الدولة والمثقفين، وكم رأي نجيب محفوظ وصلاح أبو سيف وعبد الحميد جودة السحار يقول: في الأول.. الأوبرا اتحرقت، أقاموا مكانها جراج أسمنتي متعدد الطوابق، جهم، ثم أغلقوا شرفة الكازينو، قلنا معلش، وأغلق الكازينو تماما، يا بختك یا عايدة، مشيتي بدري قبل الهوان.
ولم تفلح كل حيل الدكتور عزيز في استعادة الزمن، فقد قام بشراء كل أغاني عبد الوهاب و أم كلثوم، وأغلق الباب على نفسه واستلقى على سريره مستمعا إلى الأغاني القديمة علها تعيده إلي زمنه، ولكن التراب والنمل كانا له بالمرصاد، فقد تسللا إليه وأخذا في الانتشار حتى دفن تحتهما.
رواية حسين عبد العليم حافلة بالإشارات والتلميحات عن العطب الذي أصاب حياتنا، وكاد يلتهم كل ما هو جميل.