فصل من رواية “مراكب الغياب”

مراكب الغياب
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أشرف الصباغ

لم ترحل أم حافظ قبل أن تطمئن علىَّ، وكأن الأقدار أجلت كل شيء ورتبته بطريقتها، لكي ترحل مراكب قديمة نحو الغياب، وتأتي أخرى جديدة ربما تكون حاملة معها التميمة والبشارة والوعد.

في عزاء نبيل ميخائيل، استجمعتُ قواي وابتسمتُ، كدتُ أقول بصوت عال إن أكبر خدمة قدمها لي موت نبيل، ومن قبله موت يونس القاضي، بساتين مديحة. لكنني توقفت في آخر لحظة عندما تذكرت ما قاله يونس القاضي في عزاء أحمد التايه، وما حدث ليونس نفسه بعد ساعات من ذلك.

للرب يد حانية تصنع المعجزات. ولمديحة كف ساحرة تلهب الأرواح. رحلت المراكب بأحمد التايه ويونس القاضي، ثم بنبيل ميخائبل. وجاءت أخرى بغائبين وغرباء وأحباء، وبمؤن تروي العطشى وتربت على قلوب التائهين. جاءت بمديحة.

ومديحة مثل الحياة. لا تسكن ولا تنام ولا تكبر أو تشيخ. هي تلك الصبية الصغيرة بوجهها الأسمر وذراعيها السمراوين البرونزيتين، وعينيها السوداوين البريئتين، وملامحها الهادئة التي تخفي وحشا كامنا يتعجل الانفلات. هي نفسها التي رأيناها عندما حملتنا المراكب إلى الغرزة لأول مرة بعد تخرجنا، وربما قبل التخرج بعام أو اثنين. لم يفكر أي منا في مغازلتها أو حتى التفكير في احتمال الاختلاء بها لساعة أو اثنتين في أي غرفة من غرف بيتهم الكثيرة التي تسمح بذلك في أي وقت. لم نكن على يقين بأنها تمنح الزبائن بعضا من قبسها. لكن عيون الزبائن ودخولهم وخروجهم تشي بالمكنون، وبأن مديحة تقدم لهم ما يريدون وتقوم بخدمتهم على أكمل وجه. فالحشيش والخمر والزبائن المساطيل والسكارى، وامرأتان تملآن المكان حركة وسخونة وحظا، كل ذلك يشكل لوحة لا يمكن أن تخلو من بعض الحب والعبث والجنس.

كبرت الصبية دون أن نلاحظ. طَلَّت ملامح الوحش بهدوء وثقة من خلف براءة العينين السنجابيتين. اكتمل أنفها واستقام في وسط وجهها مثل نبقة، يحيطه خدان موردان مشدودان كما لو كانا رأسي نسرين يحرسان شفتين بكريتين تتفجران بالعسل، يحملهما فك دقيق هش. بينما الندبة الصغيرة على جانب قمها، أسفل شفتها العليا، بطعم السكر. اكتنزت ذراعاها واستدارت أكتافها حول صدر واسع يضم نهدين بضين متحررين وراسخين دوما مثل ثمرتي كمثرى متوسطتي الحجم.

صارت مديحة، فجأة، امرأة من لحم ودم، تجمع ما بين حلاوة الصورة وطراوة الحقيقة. ألعن من القاهرة وأقسى من خربشاتها، أمكر من حية وأحن من قلب أم. عيونها شفاء ولمستها حياة وبسمتها قَدَر. لا تسكن لها حركة ولا تنام لها روح، لا يغمض لها جفن ولا تختفي لها بسمة. مثل خلية أولى انقسمت فوضعت إلها على العرش، ثم زينت الكون ببشر يعبدونه، وراحت تضع في كل كون آدم بعد آدم بعد آخر، حتى حطت كفها فوق كفي، ومسحت بكفها الأخرى على صدري فلم تكن بردا ولا سلاما، بل بشارة لا حملتها مراكب ولا رحلت بها من قبل.

هنا في تلك الحارة الكونية التي تجمع دوما بين أرواح السابقين والقادمين، صارت مديحة تمدح نفسها مديحا لا يليق إلا بالأول والآخر والكل والسمت والألق والبحر والمد والعشق، تشفي الروح وتمنح من نفسها قبسا من نور، ودفئا وحضنا فتعيدني سيرتي الأولى. توارب الأبواب تارة وتفتحها تارة أخرى. تنقسم كل يوم وتولد من جديد في أبهى صورها، ترسل الرسائل بلا كلل على سهام من نار. تشع بنور يغوي القادمين بالمدد ويَعِدُ الرائحين بالأمل. تهوى الشياطين والمتمردين والمجدفين والأشقياء وخفيفي الظل والسكارى والمساطيل والمغنين والحفاة.

مثل جنية الماء، لا يراها إلا الممسوسون والموعودون والمصطفون، تلبستني شهورا طويلة، وأنا أخشى الغرق. لم أسبح في هذه البحار من قبل، ولم أنعم بخيرات مراكبها. رحت أهرب من رجب ورشاد، أغيب عنهما وعن مقابرهما وشققهما المفروشة، وعن أحاديث نسمة عثمان ومعارك تحرير المرأة وتحرير القدس وعودة مصر إلى محيطها العربي. رحتُ أتعلم السير وحيدا نحو مكتبة أم مديحة. ولما تكررت زياراتي، اتسعت ابتسامات مديحة وزاد الألق في عينيها. وبحدس لبؤة استنشقت رائحة ذكرها، أدركت أن سهامها ارتدت حاملة البشارة. لم يعد عم قنديل يطيل النظر نحوي بعينيه الهادئتين الماكرتين. وكثيرا ما كان يغط في النوم بمجرد انصراف آخر زبون، متجاهلا وجودي تماما وكأنني مجرد شبح. بينما تدخل الأم، بعد أذان الفجر، إلى غرفتها بعد أن تنظر إلى نظرة طويلة عميقة مربكة، وتشيعني بابتسامة ودودة تزيد من ارتباكي. 

قلتُ لها قرب فجر يوم صيفي رائق، بعد قبلة طويلة وراء باب بيتهم، من أين أتيتِ؟! جلست وراء الباب وأجلستني أمامها، وقالت، إنه الوعد الذي كانت تنتظر. مسحت بكفها على جبهتي، ومررت أصابعها على وجهي وكأنها تقرأ الطالع وتتحسس ما وراء ملامحي. سحبتني في هدوء إلى الداخل، وأذاقتني عسلا لا عين رأته ولا خطر على قلب بشر.

حلت المراكب بعسل مديحة الذي طفح على وجهي وأغرقني. لم تخطئ عيون أم حافظ طعمه على ملامحي ولساني. راحت تتذوقه معي يوما بيوم وساعة بساعة من دون أن تسأل عن أي شيء. تنظر نحوي بعيون تملؤها الفرحة، وتعابثني قائلة: “شكلك عقلت، يا بني.. مبقاش فيه فوكو وموكو.. إلهي يسعدك”. لم يكن يُخفى عليها شيء. حملت سري الذي لم أفصح لها عنه في كفها مثل عصفور أخضر. أخفته عن عيون الحاسدين والواشين واللائمين. راحت ترعاه، تطعمه وتسقيه وتحفظه في بساتين قلبها، وتنتظر مراكب الفضفضة التي تحمل الرجاء والأمل، وكأنني ولدها من لحمها ودمها. وعندما فرغ صبرها، قالت في إلحاح مشوب بالحنان والخجل: “هشوفها إمتي، يا بني؟”، ودمعت عيناها. لم أدرك ساعتها أن نفاد صبر الصابرين، نذير شؤم.

طلبت من مديحة أن تأتي معي إلى البيت. ضحكت مازحة وقالت، ألا يكفيك ما نفعله هنا؟ قلت لها أن أمي تريد التعرف إليها. صاحت مثل طفلة اكتشفت سرا: “مش أمك ميتة، يا كذَّاب؟”. ضحكت وقلت لها، إن أم حافظ هي أمي التي لم تلدني. ردت وهي تحدق في عيني بألم: “خليها تتفضل عندنا هنا”. أربكني ردها. ولما رأت صمتي، نزلت دموع غزيرة على وجهها. لم أكن أتصور أبدا أن هذا النهر من الألم يمكن أن يتفجر من هذه العيون. نشبت بيننا أول معركة كشفت فيها اللبؤة عن أنيابها. تحولت الندبة الصغيرة الحلوة، على جانب فمها، إلى لعنة. رفضت أن تتحرك من بيتها. تدخلت الأم وحاولت معها لعدة أيام. قالت لها: “دي ست كبيرة، ومش هتقدر تتحرك من مكانها”. هدأت الأمور تدريجيا. وفي ساعة حظ بعد أن أذاقتني عسلها، قالت ساهمة، ورأسها على صدري: “هنروح لأم حافظ إمتى؟”.

عادت أم حافظ إلى الوراء عشرين عاما. حكت لها حكاية “فوكو وموكو وسعيد”. دعتها معها إلى المطبخ. أعدتا الأكل ووضعتاه على البوتاجاز. لم تكفا ولو للحظة واحدة عن الكلام. أخذتها وراحت تلف وتدور بها في الشقة، تعرفها على الغرف وتفتح أمامها الأبواب، تحكي لها أين تعثرتُ وأنا صغير، وأين اصطدمت قدمي بحافة الكومودينو، وأين شددتُ الستارة فوقعت بالحامل على رأسي. قضينا ساعتين من الضحك والحكي. وعند الرحيل، فتحت أم حافظ ذراعيها عن آخرهما وضمت مديحة إلى صدرها، وهمست: “خدي بالك منه. دا غلبان وابن حلال”.

بعد شهرين، ماتت أم حافظ ونفذنا وصيتها. دفنَّاها إلى جوار أمي، واقتصر العزاء على المعارف والجيران في البيت. جاءت مديحة وأم مديحة وعم قنديل ومعهم بعض الأطعمة، وأحضر الجيران مزيدا من الطعام. ظلت مديحة معي حتى المساء تستقبل المعزين وتقدم لهم الواجب، وانصرفت قبل أن يأتي رجب الصافوري ورشاد ورضا. بكي رجب كما لم يبك أبدا. بدا كما لو كان قد احتجز دموع سنوات طويلة خلف سد منيع من الضحك ليريقها نهرا واسعا تسير فيه مراكب أم حافظ في جلال ومهابة ويسر.

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم

ashraf al sabbagh
تراب الحكايات
د. أشرف الصباغ

النملة

ashraf al sabbagh
تراب الحكايات
د. أشرف الصباغ

الكلب

ashraf al sabbagh
تراب الحكايات
د. أشرف الصباغ

الطيور