فصل من رواية “كريستيانيا والمهاجر”

أحمد الشريف
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أحمد الشريف

(1)

كراسي وموائد مرصوصة في الواجهة الخارجية لمقهى Egon المقابل لمحطة القطارات الرئيسية والمفضي إلى عدة شوارع وأماكن شهيرة في أوسلو، منها شارع كارل يوهان. اخترنا مائدة بعدة كراسي وجلسنا. نرى الخارجين من المحطة والداخلين إليها والشباب والفتيات المتسكعين والمسترخيين قرب مجسم لنمر كبير. يبيع بعض هؤلاء الشباب الحشيش والمواد المخدرة، وأنا بطريقي للمقهى سألني واحد منهم: هل تريد “حشيش” أو شيئًا آخر؟: لا شكرًا. أجبته فانحرف عن طريقي وذهب ليقف مع مجموعة من متشردي الشوارع والمدمنين. كنا خمسة نجلس متحلقين حول المائدة؛ أحد الجالسين معنا هو شاكر محسن، عراقي، كان يعمل مدرسًا بعدة جامعات عربية وفي دولة صربيا بأوروبا الشرقية، كمدرس لتاريخ الفن، كما أنه يرسم بورتريهات واسكتشات خفيفة لها طابع ساخر وكوميدى تمامًا كشخصيته المرحة، لقد تقاعد وصار لاجئًا في النرويج، متعته الجلوس مع الناس، يحكى لهم ويستمع منهم ويلقي التعليقات والنكات والأقوال المأثورة بعدة لهجات عربية ولغات غير عربية.

أما الباقون فمنهم سائق التاكسي والميكانيكي والإعلامي والشاعر وعازف العود والمسرحي وأغلبهم التقيته عند إريك في “البيت المفتوح”، قبل البدء بشرب ما طلبناه جاء شاب له ملامح مغربية، حيا وسلم على الجالسين ثم جلس هو وصديقته على كرسيين متقابلين، على الفور تركزت النظرات عليه وعلى الفتاة التي كانت تضحك من كلامه: “خليه ياخذ الكحبة ويروح منا.”، قال ذلك اثنين أو ثلاثة من الجالسين معنا. على ما يبدو سمع الشاب وربما مصادفة أن قام الشاب والفتاة وغادرا بعد دقائق.

قلت في نفسي ماذا لو كان واحد منهم مكان الشاب، ألا يتمنون أن يكونوا مكانه؟، ثوانٍ وظهرت الابتسامات على الوجوه وعاد الجو المرح، بخاصة بعد شروع شاكر محسن بحكي إحدى حكاياته التى حدثت معه في أواخر السبعينيات من القرن الماضي.

كان قادمًا من جزيرة “بار” بالبحر الأسود إلى جزيرة “باري Bari” الإيطالية، بالباخرة، لشراء تلفزيون وقضاء العطلة، وحدث أن اقتربت منه امرأة إيطالية بمنتصف الثلاثينيات من عمرها وتحدثت إليه، لم يفهم ما قالته ولم يرغب في التواصل معها فقال بالصربية: Tamo idI ـ ابتعدي عنِّي ـ فزاد اقترابها منه بل ولمسته وأخذت يده بين يديها وهي تغمض عينيها وتخفض صوتها، لم يجد مفرًا سوى أن طلب منها التحدث بالإنجليزية لعدم فهم ما تقوله، فقالت: إنه رجل لطيف جريء وشجاع لأنه عبر عن مشاعره بتلقائية، وأنها تحبه أيضًا كما أحبها من أول نظرة.

ــ  لكننى لم أقل أننى أحبك !

ابتسمت وقالت: “هل نسيت ما قلت؟ “، بعد أخذ ورد وفي نهاية الحوار فهم ما وقع فيه من خطأ وسوء فهم سببه اللغة. فالجملة الصربية التى تفوه بها قريبة الوقع والإيقاع من الجملة الإيطالية “Tjamo” ـ أحبك ـ  سوء الفهم هذا أدى لبداية علاقة غير متوقعة مع المرأة. ذهب معها بعد توقف الباخرة إلى منزلها بأحد أحياء “بارى”، سارا معًا حتى توقفا عند مدخل بيت من طابقين. طرقت الباب فخرجت امرأة كبيرة في العمر تبدو أمها. تكلما معًا ثم ظهر وجه طفل خلف المرأة العجوز ففتحت المرأة الشابة ذراعيها واحتضنته. صعد بعد ذلك مع المرأة والطفل إلى الطابق الثاني.

في الطريق من الباخرة كان قد حكى لها عن وظيفته، وأنه رسام أيضًا فهزت رأسها وسرحتْ قليلًا. على أية حال أمضيا وقتًا بالطابق الثاني، وأكلا وشربا، وبعد الأكل فضل شاكر الجلوس أمام نافذة متوسطة الحجم ليرى الشارع وطبيعة المكان. بعد مدة قصيرة سمع المرأة تقرأ شيئًا من كتاب لطفلها وتترجم الكلمات والجمل إلى اللغة الإنجليزية بصوتٍ مرتفع: ـ هذا يعنى عضو أنثى الحيوان!

ــ وهذا يعني عضو الذكر.

ــ هي تريد ممارسة الحب معه.

ــ هل تعتقد أنه يريد أيضًا؟

انتبه للكلمات والجمل وما تحمل من معانٍ، بات مثارًا، نظر إليها وغمز بعينه قائلًا: “نعم يريد”، بعدها أمرت المرأة الطفل بالنزول عند جدته بالطابق الأول.

في المساء أخبرته أن أباها مزارع وصانع نبيذ بمدينة “نابلى” وأنها تقترح عليه زيارته معًا، فربما يمكنه مساعدة الوالد.

ــ كيف وفي ماذا؟

أجابت بأن والدها يبحث عن ملصق أو صورة أو رسم أو شىء مميز كي يضعه على زجاجات النبيذ لجذب الزبائن في ظل المنافسة الكبيرة.

ــ لا بأس.

قال بعد تردد لكن المغامرة تستحق فالموضوع صار أكثر إثارة وجمالًا مع الخمر والنبيذ.

صباح اليوم التالي ركبا القطار من محطة باري إلى نابلي، استغرقت الرحلة ما يزيد على ثلاث ساعات، وصلا ومشيا بشوارع نابلي الضيقة إلى المكان الذي يقيم فيه الأب.

رحب بهما باللغة الإيطالية ودعاهما للجلوس حتى ينتهى مما بيده، كانت تترجم له كما فهم أنها أخبرت الأب تليفونيًّا بمجيئهما، المكان عبارة عن مزرعة كبيرة ملحق بها بيت، عاد الرجل ودعاه عبر ابنته لمشاهدة معالم المكان، رأى آلات صناعة الخمور وبراميل خشبية، ومعدات لتخمير البيرة، أنابيب تقطير لعرق العنب وأخيرًا الركن الخاص بالنبيذ.

جلسا على كراسي حديدية علاها الصدأ وأمامهما مائدة تغص بالقوارير، وبالأركان كراتين مملوءة بالزجاجات وعلى الحائط صور قديمة ملونة لزجاجات خمر كبيرة الحجم ومتوسطة مكتوب أسفلها كلمات باللغة الإيطالية.

وضع الرجل على المائدة عدة زجاجات من النبيذ وطلب منهما تذوقها وإبداء الرأي.  كان النبيذ الأحمر الكثيف القوام والمحمل بنكهة الكرز الأحمر والتوت الأسود الناضج والقرنفل والتوابل وأعشاب البحر المتوسط، يثير الأحاسيس ويشيع جوًا من البهجة والجمال، غير أن الزجاجات لم يكن عليها لواصق أو صور، فكانت لذلك أشبه بفتاة جميلة فقيرة الثياب، في الأثناء حدث شىء يبدو بسيطًا فقد التصق قط كان بالمكان برجل الرجل فحمله بين يديه وداعبه ومسد شعره، هنا جاءت الفكرة الملهمة لشاكر: رسم قط يقف على مخلبيه الخلفيين ورافعًا أو ماسكًا بمخلبيه الأماميين زجاجة نبيذ ومقربًا إياها لفمه.

ــ ما رأيكما؟

سألهما فصرخا معًا في صوت واحد إعجابًا وفرحًا بالفكرة.

سألته المرأة إذا كان بإمكانه رسم ذلك الآن، فأجاب: إن أدوات الرسم ليست معه. ترجمتْ إجابته للأب الذي أخرج من جيبه نقودًا وطلب منها أخذ الرسام والذهاب ليشتريا ما يريده من ألوان وأوراق، ذهبا معًا وبالقرب من محطة القطارات وجدا مكتبة صغيرة اشتريا منها المطلوب، وما أن تجاوزا المكتبة حتى قال لها إنه يشعر بالتعب ويريد الراحة ولو ساعة، حينذاك رفعت بصرها وقرأت اسم فندق مكتوب على يافطة.

الفندق قديم، بوابته مسنودة بقطعة خشب، دخلا وطلبت سريراً لمدة ساعتين على الأكثر، هز رجل الاستقبال رأسه وأعطاها مفتاحًا لغرفة. 

أثناء صعودهما الدرج كانت بعض الفتيات والنساء يجلسن باسترخاء شبه عاريات، لم يهتما وأكملا الصعود.

عندما فتحت باب الغرفة لم يجدا فيها سوى كرسيّ عتيق مترب ودولاب مكسورة ضلفته الوحيدة وسرير في الركن، شرعت في خلع ملابسها وتحرك هو ناحية السرير فاكتشف أنه ليس سريرًا عاديًا بل رسمًا على الحائط لشكل السرير وأسفل الرسم مصطبة من الأسمنت عليها بطانية ممزقة.

ــ ها ها ها ها

وهنا لم يتمالك الجالسون أنفسهم وانفجروا ضاحكين وانسابت التعليقات من أفواههم:

ــ مغامرة حلوة.

ــ  ياريتنى كنت وياك.

ــ  المره كانت حلوه ؟

قبيل انتهاء الجلسة اتفقنا على السفر إلى مدينة Strømsted السويدية للتبضع وتغيير المكان وشراء الخمر والسجائر الرخيصة من هناك.

* * * * *

استقللنا سيارتين في طريقنا إلى Strømstad كان يمكن السفر هناك أيضًا عبر اللسان البحري في العبًارة إلا أن الرفاق رجحوا كفة السفر بالسيارتين لأسباب عملية.

تبعد المدينة 13 ميلاً من أوسلو وحوالى 5 كيلو مترات، تقطع في مدة نصف ساعة من مدينتيFredrikstad  و Sarpsborg الحدوديتين، لذلك يكثر في المدينة النرويجيين الذين يعملون أو يقيمون أو من لهم بيوتٌ وأكواخ، يصيفون فيها ويقضون العطلات.

كانت جلستي في السيارة التي يقودها مدرس تاريخ الفن ورسام البورتريهات شاكر.

على جانبي الطريق الأشجار والغابات والسيارات القادمة من المدينة. عندما اقتربنا رأينا نهرًا متدفقًا يقطع الحدود في منظر جماله يفجر فيك علاقة حب مع الطبيعة. وأنا مندمج سألني شاكر:

ــ تعرف شنو اللي صبرنه على حكم صدام حسين ؟

قلت له بعد تفكير دام لثوانٍ لا أعرف. سمعت ضحك من الصحبة بالسيارة، ثم أجاب أحدهم نيابة عني: ” العرق والأفلام والمسلسلات والأغاني المصرية. “،  التفتُ اليه وسألته مبتسمًا ومشاكسًا: ” يعنى العرق والأفلام والمسلسلات المصرية بس مفيش حاجة تاني ؟ “، عادت الضحكات من جديد وقبل الإجابة عن سؤالى جاء سؤال آخر من شاكر فقال إن الإخوان بالسيارة الأولى يسألون هل ندخل مركز المدينة مباشرة أم نقف على الأطراف أولًا لنشترى من محلات البقالة العراقية ما نحتاج إليه من لحوم ودواجن حلال وأشياء أخرى ؟، الإجابة: التوجه إلى مركز المدينة أولًا.

وصلنا بعد دقائق لمركز المدينة وكما توقعنا، كان مزدحمًا بالناس معظمهم نرويجيون يشترون الخمور والسجائر والطعام وبضائع تكفيهم لأسابيع وشهور. تفرق من معنا في المكان من أجل التبضع والمشي والذهاب لدورات المياه، كنا اتفقنا أن نتجمع جوار السيارتين بعد ساعة كي نذهب إلى المرفأ ثم العودة لأطراف المدينة، وبالفعل بعد ساعة عاد الجميع ومعهم حقائب بلاستيكية وورقية محملة بما أشتروه، وقد كتب كل منهم اسمه على الحقائب منعًا للخطأ والالتباس، وانطلقنا بعد ذلك إلى قلب المدينة الصغيرة الجميلة بشوارعها ومبانيها وألوانها الهادئة.

التقط الأصدقاء الصور وخلفهم ميناء المدينة الفريد والحيوى بلا صخب أو ضجيج. بعد التقاط الصور جلسنا جميعًا بمقهى قبالة الميناء للتمتع بالمنظر ومشاهدة المراكب والسفن القادمة والذاهبة. كان بمنتصف حائط المقهى تلفزيون كبير الحجم ينقل  مظاهرة وأحداث صاخبة وساخنة ومهمة: بعض الناس لهم ملامح عراقية وسورية وباكستانية ومن أوروبا الشرقية يرفعون لافتات مكتوب عليها: ” لا للوسيال “، “ارجعوا إلينا أبنائنا”، “ارجعوا إلى ابني”، “ارجعوا إلى ابنتي”، هذه المظاهرة أثرت علينا جميعًا وأرجعتنا للوراء قليلًا عندما كانت مؤسسة “حماية الطفل” النرويجية تأخذ أيضًا الأطفال من أسرهم لأتفه الأسباب، الأمر الذي دفع إلى احتجاج ليس فقط في النرويج بل عدة دول انطلقت فيها مظاهرات خاصة بدول أوروبا الشرقية، ونشرت الصحف وقتئذٍ عناوين مثل: “لاتذهب إلى النرويج لأنهم سيأخذون منك طفلك أو أطفالك”، بعد ذلك وبعد الانتقادات الداخلية حدث تغيير في سياسة المؤسسة وقلت حالات التشدد وأخذ الأبناء من أسرهم، والآن الأمر نفسه يحدث في السويد. تتابع الصور واللقاءات على شاشة التلفزيون لآباء وأمهات من جنسيات مختلفة ومذاهب وأديان مختلفة يشتكون ويصرخون ويبكون بعد أخذ أولادهم، تتحدث امرأة عن ابنتها التي أخُذت منها منذ سنوات: “وين الشرطة وين الحكومة وين الحكومة العراقية وين الأمم المتحدة وين بنتى.” وتصرخ المرأة: “وين أنتى وين أنتى. “، وانفجرت بالبكاء.

بدأت التعليقات على ما نشاهده تنهمر وبغضب من الحضور فالموضوع خطير جدًا ولا أحد منا بمنأى عما حدث ويحدث.

ــ حسبنا الله ونعم الوكيل هذه خطورة العيش في دول الغرب، وهذا جزء من الثمن الباهظ الذي ندفعه مقابل كل شىء تعطيه هذ الدول، وهذا هو الوجه الحقيقى لما يسمى بالديمقراطية الغربية والأمريكية.

نظرتُ حولي فرأيت الجو مشحونًا والأصوات تعلو والتعليقات لا تتوقف، الكل أصيب بالخوف والفزع وتجددت داخلهم الشكوك ومشاعر عدم الأمان، لكن ألم يفكر هؤلاء في الجانب الآخر من الأمور؟ هل اعتقدوا أن الغربة أو الهجرة حقيبة تضع فيها أشياءك وتغادر فقط ؟

بعد خفوت حدة الأصوات والتعليقات، وبعد توقف بث المظاهرة في التلفزيون والانتقال إلى مواضيع وأحداث أخرى، علق شاكر محسن:

ــ يا إخوان بيسووون هيج ويه العوائل النرويجية والسويدية والأوروبية وخلصونه من هاى السالفة.

(2)

كانت الجلسات تتكرر بشكل ثابت بشقة راضي بالطابق الأرضي، وكعادته يجلس راضي هادئًا صامتًا يشرب مع الجالسين ويعلق بكلمة أو اثنتين، لم يعرف أحد ولم يهتم لماذا يعيش وحيدًا ؟ ولماذا ليس له أهل في النرويج كغالبية العراقيين؟ أو ما هو عمله السابق ودراسته عندما كان بالعراق؟ لا، لم يعرف أحد شيئًا ولم يكلف أحد نفسه بسؤاله، ولم يحك راضي أى شىء. لكن مساء الجمعة حدث ما لم يتوقعه أحد. ذهب جبار مبكرًا عند راضي للمساعدة في إعداد المكان للسهرة، رأى راضي بحالة إعياء شديد فاتصل بحسن: “أريدك هسه عند راضي لأمر خطير”، وصل حسن فوجد الباب مفتوحًا وجبار يدلك صدر راضي ليساعده على التنفس بشكل طبيعي، حرارته مرتفعه ويهذى بكلمات غير مفهومة، اقترح حسن الاتصال بالإسعاف، فقال جبار: “إنه اتصل بالفعل ونصحوه بعمل الإسعافات الأولية حتى يأتوا”، لكن لم يأتوا والحالة لا تتحسن. الحل الوحيد نقل راضي بسيارة خاصة إلى قسم الطوارئ في أقرب مستشفى، أثناء ذلك استفاق راضي وقال لهما لا داعي للذهاب للمستشفى فهو يشعر بتحسن ويحتاج إلى أن ينام، ثم التمس منهما الذهاب على أن يعودا لو أرادا في الغد، ومن جهته سيترك الباب الخارجي مواربًا لأنه لا يقدر على القيام وفتح الباب. خرجا وتركاه، ذهب كلٌ لبيته، لكن قبيل منتصف الليل شعر جبار بشىء ما وأنه أخطأ بترك راضي وحيدًا فعاد إلى شقة راضي، ومنذ خطوته الأولى بالداخل أحس بانقباض في صدره، دفع باب غرفة النوم فرأى راضي منطرحًا على السرير مفتوح العينين، نادى عليه، حاول تحريكه وجس نبضه ولم يحدث أي رد فعل فتأكد أن المصيبة وقعت: لقد فارق راضي الحياة وحيدًا. بكى جبار طويلًا وبحرقة جوار جسد راضي، وبعد أن تماسك اتصل بالشرطة التي جاءت بمعية سيارة إسعاف. حكى لهم ما حدث، فقال ضابط الشرطة إنه يشك أن الرجل انتحر فنفى جبار ذلك وسرد له تفاصيل مرض راضي، وأنه ذات مرة اشتكى من شىء ما بقلبه.

* * * * *

من خلال فحص موبايل وأوراق راضي تم الاستدلال على أرقام وعناوين أشقائه وقد اُعلموا بخبر موته وكان يجب عليهم الحضور لتسلم الجثة ومن أجل مراسم الدفن. جاء اثنان من بلجيكا وأخت من فنلندا، الصدمة كانت بادية على وجوههم، راضي أصغرهم، عندما سمعت أخته كلمات الإدانة المباشرة وغير المباشرة لتركهم راضي وحيدًا، قالت إنها في الأيام التى سبقت موته حاولت التواصل معه فرد عليها برسالة طلب فيها أن يتركوه وشأنه ولا يزعجوه، كما أنه رفض الذهاب إلى بغداد ليتسلم حقه في إرث أبيه. بعد مراسم الدفن حكتْ عن بعض تفاصيل من حياة راضي ببغداد: درس الصيدلة وصار صيدلانيًّا ماهرًا لعدة سنوات قبل هجرته، ورغم عزلته وابتعاده عن الناس كان داخله حلم تكوين أسرة وأن يجد امرأة تناسبه، لكن فات الوقت وانتهى كل شىء ورحل وحيدًا.

* * * * *

مع الوقت خف وقع الصدمة برحيل راضي خاصة بعد كشف تفاصيل لم يبح بها ومعلومات جديدة عن حياته وحياة أسرته، وأيضًا بسبب انشغال من عرفوه، بحياتهم وأسرهم وأخيرًا وليس آخرًا، الزمن الذي يضرب البشر والأشياء والأماكن ويضغط على الجميع بحذاء ثقيل ولا قدرة لأحد أو شىء على مقاومته ولا حتى إيقاف تقدمه المستمر.

(3)

يوم السبت اتصل بى شاكر محسن وقال إنه يدعوني اليوم لو عندي وقت، لزيارته حيث يقيم بمنطقة “Alna” للحديث وتناول الطعام والمشي جوار النهر والاستمتاع بالطبيعة. لم يترك لي مجالًا للاعتذارعن الزيارة بعد أن أخبرني باستعداد صديق مشترك لنا بالمرور بسيارته واصطحابي إلى هناك والعودة. مرت نصف ساعة وسمعت صوت رنة الموبايل، كان صوت الإعلامي السابق “جبار” يسألنى عن إمكانية أن أكون على أول الشارع. خرجت ومشيت عدة أمتار، رأيته جالسًا بسيارته، مبتسمًا، بعد التحايا والسؤال عن الصحة والأحوال، انطلق بنا حتى وصلنا. ركن السيارة وتمشينا حتى الجسرالمعلق على النهر، دقائق من المشي ولمحنا شاكر محسن يقف عند شلالات النهر. تحيات وسلامات وبعدها بدأنا جولتنا في المشي على ضفاف أطول نهر في أوسلو. وكعادته افتتح شاكر الكلام عن جاره النرويجي الذي انتحر منذ يومين. صمتنا بسبب صدمة الموت واستحضاره، لكن صديقنا هون من الأمر قائلًا إن ما حدث صار حدثًاًعاديًا، خاصة وآخر تقرير ذكر أن أكثر من 600 شخص ينتحرون كل عام بنسبة كبيرة للرجال. والشىء نفسه يحدث بالسويد والدانمارك ودول أوروبية عديدة وأمريكا وأستراليا أيضًا.

ــ اي

قال “جبار” موافقًا على كلام شاكر ومستغربًا من زيادة المنتحرين في النرويج واسكندنافيا عمومًا، خاصة ومستوى الحياة أفضل ومؤشر السعادة، كما يقولون من أعلى المؤشرات في العالم. ضحك شاكر بسخرية بعد سماع كلمة “مؤشرالسعادة” ثم وضح رأيه وأجاب بجدية وبمعلومات:

ــ الاضطرابات النفسية، العزلة الاجتماعية، المرض الجسدي المزمن والإعاقة، الكحول والمخدرات والاكتئاب والبطالة إلخ.

توقفنا واستندنا على حاجز خشبي صغيرعلى أحد تعرجات ومنحنيات النهر، نرى الأشجار شديدة الخضرة والماء المتدفق والأحجار والصخور بمنتصف النهر وعلى جوانبه. بعد مدة سرنا جوار النهر صعودًا وهبوطًا حتى وصلنا لشلال كبير فجلسنا باسترخاء على بعض الأحجار الملتصقة بجذوع الأشجار. لم ننتبه إلا بعد دقائق بوجود عدة جرائد قديمة بالمكان، التقط شاكر واحدة وقرأ لنا خبرًا عن فصل شرطية من العمل بعد إقامتها علاقة مع نزيل في السجن. أبدى “جبار” تحمسه لسماع المزيد من هذه الأخبار، واضح أن الصحيفة من صحف الأخبار المثيرة والفضائح، فقرأ شاكر مبتسمًا وهو يغمز بعينه خبرًا ثانيًا لكن هذه المرة بإحدى دور الرعاية، فقد قامت امرأة على مشارف الثلاثين بممارسة الجنس مع صبى بالدار عمره سبعة عشر عامًا،  وحكم عليها بالسجن ستة أشهر، علاقة الحب استمرت أيضًا بعد خروج الولد من المؤسسة ولعدت شهور.

الولد كذلك لم يكن بريئًا فقد هددها لإلحاق الأذى بها، بعد أن التقط صورًا لها للضغط عليها.

ــ حلو خش.

علق “جبار” مبديًا رغبته لسماع المزيد من التفاصيل، لكن شاكر وضع الجريدة على النجيل الأخضر قائلًا: “إن ميعاد الطعام حان”، فقمنا ومشينا صوب بيته ونحن نستنشق بعمق الهواء المعبق بشذا الزهور والأشجار ومياه النهر.

(4)

ــ حشيش ؟

يقول الشاب الأفريقى بصوت خافت لدرجة أننى لم أسمعه جيدًا: ” حشيش أخي أتريد حشيشًا ممتازًا بسعر رخيص؟ “،: لا شكرًا. أجبته فانصرف متجهًا لرفاقه المتجمعين والمتناثرين بمنطقة “ستورجاتا “، ما بين مبنى الشرطة القديم وسوبرماركت Kiwi. اليوم السبت، تكثر الحركة ويزيد عدد المترددين والسائرين بوسط المدينة، خاصة الشباب والفتيات، الفتيات بملابسهن الصيفية الكاشفة الكثير من مفاتنهن الجسدية يجذبن الشباب فيبدأوا بالتعليقات ومحاولة التواصل معهن من أجل الصحبة، منهن من يوافقن ومنهن من يفضلن السير أو الجلوس بمكان للثرثرة وتناول المشروبات. وصلتُ لمدخل شارع كارل يوهان، أصوات وأضواء وموسيقى تنبعث من الكافيهات والمطاعم والبارات، استمر حتى مبنى البرلمان، من هناك مشيت متجاوزًا فندق ومقهى “جراند” الشهير، على بعد أمتار منه المسرح النرويجي العريق، أتخيل هنريك إبسن يخرج ماشيًا بهدوء من المسرح إلى المقهى وهو مستغرق التفكير بفكرة ما، ذكرى ما، امرأة من نسائه ومعجباته، أوشخصية من شخصياته المسرحية. مضيت للأمام وعبرت التقاطع إلى ” أولافسجاتا ” تريثت قبالة سينما “ساجا”، على الواجهة بوسترات لفلمين جديدين، لم أهتم بمعرفة الأسماء فقد وجدت نفسى سائرًا حتى وقفت أمام محل لعب وحاجيات الأطفال “Sprell” خلف واجهاته الزجاجية أشكال حيوانات ولعب أطفال مصممة بالخشب ومطلية بألوان مبهجة وبسيطة في آن، دائمًا أتوقف ويعجبنى هذا المحل وما بداخله، كأنما أهدأ نفسى قبل رؤية المبنى الأبيض الكبير الذي يبعد عدة أمتار على اليمين: مركز نوبل للسلام، هذا المبنى يثير داخلي مشاعر متضاربة وأسئلة حول من يديرونه، وجائزته التي استحقها البعض ولم يستحقها البعض الآخر.

من مركز نوبل الغامض إلى ساحة ” أكيربريجا” ورؤية المراكب والبواخر والسفن الداخلة والخارجة والواقفة في لسان أوسلو البحري.

قرب سياج الحديد الفاصل البحر عن الرصيف تتناثر على الأرض زجاجات البيرة والخمر، فارغة، نصف ممتلئة، وزجاجات ممتلئة لعل أصحابها تركوها وذهبوا. جلستُ في المقهى القريبة والمطلة على قلعة أوسلو القديمة. بعد قليل وكما اتفقنا جاء حسن ومعه شخص لم أره من قبل. بعد التحايا والتقديم جلسا جواري. لم يك في حسبانى أن التقي بأحد و كل ما في الأمر أن حسن اتصل بى وسألنى هل سأخرج مساء السبت فقلت نعم فأخبرنى أننا يمكن أن نلتقى في هذا المقهى بعد الانتهاء من جولتي، إذًًا لقاء من أجل الاسترخاء والحديث، أثناء شرب القهوة سمعت ما دار بين حسن والرجل، حاول حسن إشراكي وأخذ رأيي، لكن لم أعرف بماذا أنصح الرجل، لكل شخص ظروفه الخاصة وحساباته المختلفة.

ــ آني أخذت تقاعد وقررت الرجعة إلى منطقتى بالعراق أو أى بلد ثانى.

قال الرجل.

ــ ليش ؟

سأل حسن بفضول أو اندهاش أو استغراب واستنكار، وربما كل هذه المعاني معًا. الرجل أغلق عينيه وتنفس بعمق ثم أجاب عن سؤال حسن نافد الصبر: ” يا أخى هنا البلد ممل وصار بالنسبة لي مثل السجن: ماكو شي الواحد يتمتع بى، شالو مكاين الفلوس إللي تضرب عليها ويصيبك الحظ، وشالوا الكحاب الحلوات ومنعو الونسة حتى السوبرماركات الرخيصه الحلوه غلقوها مثل “الليدل Lidel” و “الإيكه Ica”، وبعدين الجو موحلو كلش متعب ثلج وبرد ومطر مستمر بالشتاء وريح قوية، وتعب وكآبة وهم ما ينتهى وحتى شمس ماكو. ” ، استمعت للرجل الذي تكلم بحرارة وصدق وعبَر أيضًا عما يجيش بصدور الكثيرين، لكن من يجرؤ ويأخذ قرار العودة؟ ، إلى أين ؟، هذا سؤال أصعب من الأول، إجابته سوف تفتح نوافذ على أسئلة أخرى، لقد وقعنا في الفخ على ما يبدو، لا نحن قادرون على العيش هنا، وهناك سوف نشتاق إلى هنا ونظام وحماية هنا، كما أن هناك قد تغير ونحن تغيرنا كذلك فأين المفر أو الحل؟، تركتهما وخرجت من المقهى. لم أرجع من الطريق نفسه بل عدت من الطريق المار ببورصة أوسلو، الشوارع واسعة هادئة، وصلت لمحطة القطارات الرئيسية، دخلت النفق الواصل بين خارج وداخل المحطة، على جانبي النفق صور ولوحات ورسوم وشعر وأقوال لطلبة المدارس الثانوية، استوقفتنى كلمة قصيرة كتبها طالب، الكلمة مكتوبة على ورقة بيضاء كبيرة الحجم، سميكة ومؤطرة بإطار من الخشب: ” هل أنت بخير؟ هل تسير الأمور بشكل جيد؟ هل هناك شىء يمكنني مساعدتك فيه ؟… ما لا تعرفه أبدًا أن هذه الجمل البسيطة من الممكن أن تنقذ حياة، يجب علينا نشر الإيجابية، المزاج المرح، البهجة، التشجيع، المزاح والمشاركة من أجل خلق وبث الارتياح والسعادة لنتجاوز هذا الأمر”.

…………………………………

*فصل من رواية ” كريستيانيا والمهاجر” قيد النشر

 

 

 

مقالات من نفس القسم