أشرف الصباغ
لا أحد يعرف بالضبط كيف وبماذا يعيش المعلم فهيم. فهو ليس من أبناء الوايلي الكبير. يقال إن لديه دكانا كبيرا للفاكهة في الزاوية الحمراء. ويقول آخرون إن دكان الفاكهة ومحل العصير المجاور له، عند مدخل الوايلي من ناحية شارع بورسعيد، ملكا له. كل علاقته بهذا البيت، هو أنه من نفس مسقط رأس زينب والمرحوم زوجها، حيث كانوا يعيشون جميعا في سرياقوس قبل المجيء إلى الوايلي. ولكن عندما عرف البعض أن فهيم من مواليد إحدى قرى أسيوط، قالوا إنه تعرَّف على زوجها أثناء فترة خدمتهما العسكرية في حرب ٦٧. وقرر كل منهما عدم العودة إلى مسقط رأسه، ليبقيا في القاهرة. وتم استدعاؤهما ضمن قوات الاحتياط، بعد أيام من تسريحهما، ليشاركا أيضا في حرب الاستنزاف، ثم في حرب ٧٣. ومنذ ذلك الحين ظلا معا إلى أن أصيب زوج زينب، ذو الثلاثة والثلاثين عاما، بفشل كلوي، ومات بعد عامين تقريبا. زينب نفسها لا تذكر، هل مات بعد مقتل أنور السادات بعدة أشهر أم قبل تولي حسني مبارك السلطة بعدة أسابيع. كل ما في الأمر أنها تؤرخ لموت زوجها بأنه بعد ولادة أيمن بحوالي أربع سنوات، وبلوغها سن التاسعة والعشرين أو الثلاثين.
كان فهيم رجلا طويلا بشكل ملفت، له شارب ضخم وعينان واسعتان وابتسامة دائمة على فمه الكبير ذي الشفتين المتناسقتين تماما مع تلك الوسامة والطيبة اللتين تميزان ملامح وجهه. كان صوته عال فقط. ولكن بعد قليل من الوقت يمكن التعود عليه بجلبابه الطويل الفضفاض مفتوح الصدر وعمامته البيضاء دائما، والتلفيحة الطويلة التي يفردها على كتفه صيفا، ويلف بها رقبته شتاء. هو أيضا رجل المهمات الصعبة ودبلوماسي هذا البيت والبيوت المجاورة. لا يتدخل في مشكلة إلا وخرج المختلفون من عنده متصالحين راضين. أما مجدي أبو سكينه، فهو على العكس منه تماما. فبرغم وسامته، إلا أنه كان متجهما بشكل شبه دائم، والشرر يتطاير على الدوام من عينيه الحمراوين الواسعتين، دائم الشكوى والسباب، وكثيرا ما كان يصب جام غضبه على أم عزة التي كانت تفضل مناداتها بهذا الاسم على الرغم من أنها أنجبت كريم مؤخرا. وكان ذلك أحد أسباب الخلافات بينها وبينه.
كانت الشائعات كثيرة حول علاقة فهيم بزينب. قالوا إنه طلبها للزواج بعد وفاة زوجها، ولكنها رفضت لأنه متزوجا. وقال البعض الآخر إنه ينام معها في السر، فهي امرأة شابة وبحاجة إلى رجل. وهو يظهر دائما وحيدا بدون امرأة رغم وجود ابنه حسن معه على الدوام. كان أهل الحي يتحدثون كثيرا ليس فقط عن علاقة فهيم بزينب، بل وأيضا عن مغامرات مجدي أبو سكينة وصولاته وجولاته بين نساء البيت والبيوت المجاورة. ولكن نبيلة هي الوحيدة التي رأت مجدي صدفة مع أمها أثناء توجهها إلى دورة المياه. يومها صرخت نبيلة التي فتحت الباب فرأت مؤخرته عارية وأمها تشهق وتغنج بين يديه. لحظتها فتحت الأم عينيها على صرخة ابنتها، وأنزلت جلبابها، بينما رفع مجدي بنطاله. تراجعت نبيلة سريعا وهي تبكي وتصرخ. اجتمعت نساء البيت حولهم. ترددت الأسئلة، ولكن نبيلة كما لو كانت فقدت النطق. يومها تسلل مجدي من بين الحشد أمام نظرات زوجته الحارقة، ودخلت زينب باكية إلى غرفتها. في تلك الليلة تصاعد صراخ أم كريم التي نالت علقة ساخنة لأنها أعلنت لمجدي ما تفكر فيه. عرف سكان البيت والبيوت المجاورة من صراخها وكلماتها المتناثرة أن زوجها ينام مع زينب. وفي الصباح امتدت المعركة بين أم كريم وزينب. انضمت نبيلة إلى تلك المعركة عندما رأت جارتهم تصرخ في وجه أمها:
– يا فاجرة.. يا خاينة العيش والملح.. حتى مجدي؟!
انطلقت نبيلة في وصلة ردح كشفت فيه المستور. قالت لأم كريم كيف رأتها تحت فهيم، وكيف رأتها مع خالها مصطفى. وقالت لها في شماتة:
– حتى ماجد خطيب سماح لم يفلت منك..
بعد أيام نسى الجميع ما حدث. وعادت جلسات التلفزيون، والسهرات الليلية، وكأن شيئا لم يكن.
سكان الشارع لا يتذكرون تلك الحكايات إلا عندما يجد جديد أو تحدث حادثة تذكرهم به. ولكن نبيلة تختزن الحكايات والأحداث، تبكي ليلا وتستيقظ صارخة على كوابيس. وعندما جاءت أسرة عاشور إلى بيتهم، وتوطدت علاقتها به، حكت له كل الحكايات. ولما غادرت الأسرة البيت إلى شقة مكونة من غرفتين وصالة في إحدى الحارات المجاورة، لم تنقطع نبيلة عن زيارتهم لأسباب مختلفة. فأم عاشور كانت تحتاجها أحيانا لمساعدتها في شغل البيت، وأحيانا كانت تذهب لمواصلة تعلم القراءة والكتابة مع عاشور، حتى ظهرت الشائعات مجددا حول علاقتها معه. وكثيرا ما كانت أمه تحذره من حدوث شيء بينه وبينها، وتنصحه بأنه سيكمل تعليمه وسيذهب إلى الجامعة، بينما نبيلة غير متعلمة ولن تكون على نفس مستواه في المستقبل. كانت الأم تحذره وتحكي له الحكايات والعبر والحوادث التي رأتها، لكي لا يفكر في أي علاقة مع نبيلة التي تأتي بشكل شبه يومي إلى شقتهم، بينما كان والده يتوجه إلى بيت زينب يوميا بعد انتهائه من ورديته. لم تكن نبيله تحكي له، ولكنه فوجئ بوجوده ذات مرة عندما ذهب مساء ليطلب من خالته زينب أن تأتي إلى والدته لأمر مهم. يومها طلب منه الأب أن لا يخبر الأم. وكانت زينب مرتبكة. وفي اليوم التالي أدرك أن أمه تشك في أمور كثيرة عندما سمع جانبا من حديثها مع زينب. فهم أن الأم تشك في علاقة الأب مع زوجة مجدي أبو سكينة. لم يذهب تفكيرها إلى أبعد من ذلك، وربما أرادت أن تحذر زينب بشكل غير مباشر. فهم كل هذا بعد وفاة الأم بعدة أيام، عندما لاحظ اهتمام زينب بأبيه.
في تلك الشوارع والحواري والبيوت لا توجد أي أسرار. حتى الأبواب المغلقة لا تواري شيئا ولا تداري أحداثا أو علاقات. فالبيوت بلا أسطح، وستائر النوافذ والبلكونات شفافة حتى ولو كانت مصنوعة من الجلد أو الفولاذ، والعيون لا ترى إلا الآخرين ولا ترصد ألا سكناتهم وحركاتهم. لم تكن تحذيرات أم عاشور من فراغ. فقد أخبرتها إحدى الجارات أنها رأت زوجها يحتضن امرأة على سلم بيت أم سعد. وبعد فترة أكدت لها جارة أخرى أنها رأته يزنق أم سعد نفسها في أحد أركان صالة الشقة العليا المكشوفة. وقالت لها ثالثة إنها رأته خارجا في وضح النهار من بيت أم سعد، ولكن أم كريم زوجة مجدي أبو سكينة هي التي كانت تسير خلفه.
عندما علمت زينب بخبر انهيار البيت الذي كانت تسكن فيه أسرة عاشور، ووفاة الأم مع عشرات السكان تحت الأنقاض، نزلت حاسرة الرأس حافية وراحت مثل بقية سكان الشارع ترفع الأنقاض إلى أن جاء من المدرسة. احتضنته يومها وضمته إلى صدرها وهي تبكي. لم تكن تعرف لماذا تبكي وعلى من تبكي هكذا بحرقة لم تحدث حتى في موت زوجها. أخذته إلى بيتها إلى أن جاء الأب وفوجئ بالمصيبة. وعاد الأب والابن إلى غرفتهما مرة أخرى في الطابق الثاني عند زينب. وظل عاشور يذهب إلى المدرسة، ويعلم نبيلة القراءة والكتابة. رفضت أن تأخذ أي أموال مقابل إيجار الغرفة. فبدأ والد عاشور بالمساهمة في مصاريف الأكل والشرب. وأصبح يساهم أيضا في قعدات الحشيش الليلية. وعاد الكلام من جديد حول والد عاشور وحولها. طال لسان أم عزة زوجة مجدي أبو سكينة. حكت فقط لجارتين أنه يعاشرها، وسرعان ما انتشر الخبر على ألسنة الجميع. نشبت المعارك مرة أخرى بين النساء وظهر على ألسنتهن ما كان مخفيا منذ آخر معركة.
لم يلاحظ أحد التقارب الذي بدأ بين نبيلة وعاشور. لم يكن يخطر ببال أي من النساء أو الرجال أن يكون بينهما شيء. لكن نبيلة كانت قد قررت وانتهى الأمر. اقتربت منه كثيرا، فتحت له أبوابها الصغيرة ومدته بحنان ودفء جديدين. أذاقته الأبجديات الأولى لطعم شفاهها ورحيقها العذب. صار سرها الحلو وحلمها ببداية حياة جديدة، وبتقديم أوراقها بعد الحصول على شهادة محو الأمية للعمل في مصنع النسيج، والحلم اليومي بالزواج من شخص يختلف عن صلاح منصور الحرامي وماجد زوج أختها العاطل وخالها صاحب السوابق. لم يكن يخطر ببال أحد أن خروجهما معا إلى السينما أو جلوسهما منفردين يصنعان العصافير والمراكب الورقية، قد تجاوزا كلمات الحب الأولى ومناطق الهمس واللمس إلى ساحة الاختبار، والتسلل إلى مكامن الدفء ومذاقاتها الخاصة وسيولة مائها، واختلاط مياه النهر الجارفة بأسرار مياه البحيرة المقدسة.
كان موت والد عاشور المفاجئ، سببا إضافيا لقربه من نبيلة، وبقائه في بيت زينب التي صممت على أن يبقى معهم لينتهي ولو حتى من السنة الأخيرة بالمدرسة، وبعدها يحلها صاحب الحل والربط. كان موت لا يقل عن فجيعة موت الأم. فقد خرج الأب مبكرا كعادته بعد سهرة طويلة أنهت على صندوقين من البيرة وكل ما جاؤوا به من حشيش. كانت ليلة لا تشبه الليالي السابقة. شربوا ودخنوا، وتذكروا كل المناسبات والمعارك. ضحكوا وتبادلوا النكات، وأظهروا قوتهم وجبروتهم في إشعال الفحم على حجر الجوزة، وتباروا في شرب زجاجة البيرة دفعة واحدة. كرروا تذويب الحشيش في كنكة القهوة، وقرب أذان الفجر، هنَّأوا بعضهم بالعيد، وافترقوا. لم ينم والد عاشور، غيَّر ملابسه وانطلق إلى وردية الصباح. وقبل الظهر جاء خبر حادثة اصطدام الباص الذي يقوده مع سيارة نقل. لم تعرف زينب يومها كيف تتصرف: هل تذهب إلى مدرسة عاشور وتأخذه، ثم يتوجهان إلى المشرحة، أم تذهب إلى نبيلة في مصنع النسيج لتصحبها إلى مدرسة عاشور، ويتوجهون ثلاثتهم إلى المشرحة. أنقذ المعلم فهيم الوضع، وأيقظ ماجد من نومه، ونادى على مجدي أبو سكينة شبه العاطل أيضا، وتوجهوا إلى المشرحة، بينما انطلقت زينب إلى نبيلة في المصنع وذهبتا لإحضار عاشور من المدرسة.
مر موت الأب مثل نفس تلك الومضة التي ربما ظهرت أمام عيني الأم عندما انهار البيت فوق رأسها ورأس السكان. مر وكأنه وخزة إبرة عابرة أو اصطدام قدم بحجر في الظلام. تلقفته زينب في أحضانها وصار مثل ولديها سعد وأيمن. لم تسلمه نبيلة ولو لحظة واحدة للصمت، لم تدعه يجلس وحيدا في مواجهة أفكاره وأحاسيسه بعد فقدان الأم والأب خلال شهور قليلة، حجبت عنه كل الأفكار والأحاسيس التي قد تستولي عليه، ووقفت حاجزا منيعا في مواجهة الحزن والأسى والإحساس باليتم.