انطفأ النور مرة أخرى، سمع مَنْ يصرخ في الخارج بأن أسلاك الكهرباء مُزقت بفعل فاعل. في حجرة الجلوس كشاف شحن متوسط، معلق على مسمار بجوار السرير، اتجه ناحيته ليضيئه. أوقفته أربع خبطات رتيبة عالية على الباب من الخارج. هي نفسها خبطات “فُلْك النور” التي سمعها أمس، وفى نفس الموعد. سقط قلبه في حوض من مكعبات الثلج، وتوقف الزغب الذي يغطى ساقيه، وذراعيه. حلقت رأسه في السقف، وتشبثت به. أمسك أنفاسه؛ كي لا تخونه، وتخرج عالية مضطربة. لن يتحرك في أي اتجاه قبل أن يستعد. بعد دقيقتين كان قد حلم فيهما أن ينتهي الطرق وصاحبتَه إلى الأبد.
تكرر الطرق مرة ثانية بصورة أسرع، مرة ثالثة بعصبية، وإلحاح. لعله ساكن من الساكنين الاثنين. أحدهما يعمل سائقًا لجرار زراعي، والآخر موظفًا بالشئون الاجتماعية، أو “محمد عثمان” نفسه وقد أتى ليطمئنه، طرح تلك الاحتمالات على نفسه، لكن الصوت على الباب كان مميزًا. حين طرق “محمد عثمان” الباب من قبل كان طرقه سريًعا مع صوت مصاحب: “افتح يا أستاذ! أنا عمك محمد”. حين طرق ابنه الباب كان بنفس السمت: “افتح يا أستاذ! أنا سمير”. والساكنان كل واحد منهما لَمَّ أولاده، ودخل إلى شقته. واحد على مسافة ثلاثة أمتار من شقته، والآخر في الدور العلوي، والشقة التي لم تكتمل بعد بها بعض العفش القديم، والكراتين المغلقة. أما السطح فعلى نصفه مزرعة دواجن، والنصف الآخر خال؛ أي طلوع “محمد عثمان”، أو “سمير” ابنه الأكبر إلى السطح في أي وقت أمر طبيعي. “لو يأتي أحدهما الآن! ماذا لو أغلقت عيني، وتخيلت أنني في مكان آخر أكثر نورًا، وصخبًا وودًا؟!”. أغلق عينيه، فصفعه الصوت للمرة الرابعة بنفس الإصرار الذي لم ينثنِ. تحرك خطوة في محيط الظلام، فخال أنه اصطدم بجسد لدن، حتى أنه في ارتجافه رفع يده إلى أعلى، وتحسس ملامح وجه. عينان وأنف وجبهة بها خطوط غائرة. أمسكت به أصابع جافة كبيرة. أحس بوخز أظافرها، ولم يتمالك أنفاسه أكثر من ذلك، فأطلق صرخة عالية، وسقط على الأرض. كان يناضل بين أيادٍ، وأقدام كثيرة ليقف مرة أخرى. كان أحدهم يفتح عينيه، ودهمته رائحة كريهة ثقيلة، ففتح عينيه بصعوبة. كاد يصرخ مرة أخرى؛ لأن عيونًا كثيرة كان “تبربش” أمام عينيه. وجوه صغيرة وكبيرة. استعاد وعيه شيئًا فشيئًا إلى أن أدرك أن الواقفين حوله هم “محمد عثمان”، وزوجه، و”سمير”. تذكر ما حدث.
– هل كنت تطرق الباب منذ وقت يا عم محمد؟
– لا.
خاف أن يكون في حلم لم يستيقظ منه بعد، وأن تكون “فلك النور” لا تزال هنا بالداخل. كان نور الكشاف في أيديهم قويًا في عينيه، فعلقوه على حامل، امتلأت الحجرة بالنور. رأى دوائر من الظل الخفيف على السقف الأبيض المصفر، وبعض الصور المعلقة على حائط. إحداها للنادي “الأهلي”. قديمة من الثمانينيات على ما يظن، وصورًا لممثلات لم يستوعب بعد مَنْ هن. هز رأسه مرة أخرى؛ ليتأكد أن ما يعيشه الآن واقع حقيقي، فسمع “محمد عثمان” وهو يبسمل، ويتلو بعض آيات القرآن. أخبره حين قعد في الفراش، وقد أمسك بكوب الليمون الساقع الذي صنعته زوجه له، أنهم سمعوا من المسقط صرخة قوية، ثم هبدة شيء ثقيل على الأرض. لما كان يملك مفتاحًا احتياطيًا لشقته فقد أمر “سمير” أن يتصل به أولًا؛ ليطمئن، لكن “أكرم” لم يرد. حينئذ صعد الثلاثة. كان مصدر خوفهم الآخر أن يكون قد أغلق بابه بالترباس من الداخل. شكر الظروف في سره مرة أخرى، فحين كان بالداخل فكر أن يغلق الباب بالترباس كما فعل أمس. انقطاع النور فجأة، والطرق المتوالي على الباب منعاه من ذلك. سألهما إن كانوا قد رأوا أحدًا يهبط على السلالم وهم يصعدون إليه، فردوا جميعًا بالتوالي: لا. مع شعور بالشفقة والاستنكار لا يغادر وجوههم وهم ينظرون لبعضهم البعض.
إذا كان يعانى نتيجة قِِلة نومه في اليومين الفائتين، فلا يمكن أن تتجسد أمامه أشياء يلمسها وتلمسه، ويحس لأنفاسها صدمة الكهرباء بجسده نتيجة ذلك البرق الخاطف من عيون ابيضت فجأة وهى تحدق به متوعدة، ويسمع طرقات كما سمع بالأمس في نفس الموعد. فتح الباب بالأمس كان خطأً سببه أنه عائد من جديد إلى بلدته القديمة، رمق “فُلْك النور”، عرفت بوجوده هنا. حدقت فيه بضراوة. أي عداوة تخفيها المرأة له؟! كأن ثأرًا قديمًا لا بد من تسويته بينهما الآن. كان طفلًا حين أشهرت السكين على رقبته لما دخل إلى حجرتها وبعثر أشياءها بحجة البحث عن الكرة ظنًا منه أنها ليست بالداخل، وكان زملاءه من الأطفال يحكون حكايات شبيهة بما يحكيه، لكن هذا لا يمكن أن يكون سببًا حقيقيًا للعداوة بأي حال. كان سور البيت الكبير الذي تلاصقه حجرتها يكمن وراءه بقايا الحديقة الكبيرة التي تركها صاحبها زمان. نخلاتها المهيبة الطالعة في صفين متوازيين، وبعض أشجار التوت، والخوخ، ومنحل كان يشرف عليه فلاح وزوجته مع الجنينة التي لا يملكها أحد. الحقيقة أنه لا النخلات، ولا التوت كانا يشدانه بقدر ما يشده إلى الشقاوة شعور بأنه يشبه أصحابه. حين يخبره أبوه عن بلدته البعيدة التي نشأ بها، وعن إمكانية انتقالهم في أي وقت كان يفرح أمام الأطفال متباهيًا بأنه سينتقل إلى مكان آخر. بينما سكاكين مشحوذة كانت تحز قلبه؛ لأنه لا يستطيع التباهي مثلهم بخالة، أو عمة، أو جد، أو جدة، أو حتى انتماء إلى بلد ما.
قالت أمه زمان إن “فُلْك النور” أتت بعد الحريق الكبير الذي التهم ثلاثة أرباع القرية في منتصف السبعينيات. تحكى أمه على لسان العجائز أن الحريق راح ضحيته ما يجاوز المأتى إنسان، ومال كثير كان مخبأً في كوى مُملَّط عليه بالطين، أو في أدراج من الصاج مغلقة بالمفاتيح في باطن “كنبة” من الخشب الأبيض. أتت “لوريات” ضخمة تحمل غذاءً، ومخيمات؛ لإيواء الأهالي حتى تقوم الجرارات، و”اللودرات” بإعادة الشوارع إلى وضعها السابق، وحمل ركام البيوت، وما تبقى من الناس؛ ليبنى الناس بيوتًا أخرى بمبلغ التعويض الضئيل.. استعادت الشوارع بعد حين قليلًا من سكانها الذين بقوا فى بيوتهم. وجاءت “فُلْك النور”: امرأة عجوز وعفية مثلما هى الآن. لم تَشِخْ، وتنحن، وتتيبس، ثم تنقرض كالعجائز، ولم تمتنع عن المشي في الحواري، والخرابات.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الرواية الفائزة بجائزة الهيئة العامة لقصور الثقافة 2020