كل البيوت مليئة بالأشباح.
وانا في بيتي شبح كبير
يلتهمني طوال الوقت.
يخنقني من رقبتي كدجاجة,
يمسكني من قدمي,
يضعني في الماء المغلي.
ينتفني من الريش.
يسلقني,
ويغرف لنفسه عددا لا نهائي من أصحن المرق.
يستعذب الطعم وينهش لحمي المطهو
ويظل يلعق أصابعه من الطعم.
هل أنا مجنونة؟ هل هو طيب؟ وأنا من يضيف له هيئته الشبحية؟
أتمنى أن أقضي على هذا الشبح.
أن أعيده إلى هيئته الآدمية.
أن أبتلعه,
أن أنهش نسائل لحمه,
أن أستعذب الطعم,
أن ألعق المرق,
أن أنتف ريشه,
أن أحمله من قدميه إلى الماء المغلي,
أن أخنقه بيدي كدجاجة.
تحمله من مقعده المتحرك, وتضعه بسهولة على أحد مقاعد القطار. تشعر أن وزنه يزداد خفة بمرور الوقت. لا تعرف هل امتناعه عن تناول الطعام والشراب له علاقة بتلك الخفة, أم أنها خفة الموت. يمضي بهما القطار. بعد نصف ساعة تقريبا يساورها إحساس غريب أنه بدأ يشعر بالبرد, بل يكاد يرتجف من برودة الهواء المندفع من نافذة القطار الخالية تماما من الزجاج والموجودة فوق كتفه بالضبط. تعدل شاله المصنوع من الصوف, تحشره بحرص على جانبي الرقبة وأسفل الذقن, فيتحسن لونه الذي اعتقدت أنه قد مال قليلا إلى الزرقة. تضع في كفه كوبا من حمص الشام الدافيء, الذي تحصل عليه من عامل البوفيه الذي يروح ويجيء في داخل العربة, عارضا قائمة مشروباته على الجميع.
تمسح بالملعقة المبللة بمياه الحمص شفاهه الباردة. تعتقد أنه ابتلع بعض القطرات. فتبلل الملعقة وتحملها نحو فمه من جديد لمرات تالية. تعرف أنه لن يتمكن من ابتلاع حبات الحمص, وربما لن يشرب مياهه الحارة, تكتفي أخيرًا بالحرارة المنبعثة من الكوب الساخن, الذي تضعه ما بين يديه اللتين تسندهما جيدا ما بين كفيها.
تشعر بتعاطف الناس معها. وانجذابهم لتلك الابتسامة الهادئة التي لا تفارق شفاهه غالبا. كالعادة هو يجذب تعاطف المارة كلما مرت به في مكان. تفاجأ بأيدي المساعدة وهي تمتد إليها من كل الاتجاهات. وكأنهم يخبرونها أنها ليست لحالها أبدا في هذا العالم, وأبدا لن تكون. يهتز القطار بشدة فتخشى عليه من السقوط. تضع إحدى الحقائب الثقيلة إلى جواره كي تسنده, قبل أن يأتي أحد الركاب الذين دلفوا إلى القطار من محطة بني سويف, يستئذنها الرجل في إزاحة الحقيبة ليجلس مكانها. يعدها أن يسند جسده الرخو بطريقة أفضل من الحقيبة. تسلم بالقبول وتزيحها ليجلس. بمجرد جلوسه, تراه وهو يميل بكتفه نحو الراكب, وتتعجب لرأسه التي تسقط بمنتهى الأريحية فوق كتف الرجل, الذي يبتسم لها بدوره قائلا .. شفتي قلتللك هسنده أحسن من الشنطة.
تطمئن لشكل ملامحه الهادئة والمستكينة فوق كتف الراكب. تشعر ببعض الراحة. تتذكر أول مرة أقلته في سيارتها من الوحدة الصحية بسانتماي. تتذكر كم كانت محرجة ومرتبكة يومها. تقارن بين حالتها الآن والبارحة.. حين عاونها إسماعيل عثمان موظف الدفتر الجديد الذي استلم عمله بعد وفاة الأستاذ محمود المسئول السابق عن الدفتر. والذي توفى إثر نوبة قلبية, لم يتمكن الأطباء من إنقاذه منها, كمرتين سابقتين, تم إنقاذه وإسعافه في اللحظات الأخيرة فيهما. عاونها إسماعيل في حمله وإدخاله إلى الكنبة الخلفية. جلس يومها إلى جواره متطوعا لمساعدتها في نقله إلى منزلها, الذي يقع في الطابق الثالث. تتذكر كم كانت غاضبة وحانقة على زملائها الذين ورطوها فيه. بينما إسماعيل يردد أن كل واحد من الزملاء استضافه بالفعل لمدة شهر, وأن هذا هو دورها في الاستضافة. فمنذ عدة سنوات و الأستاذ محمود يؤويه في بيته, يقدم له كل سبل الرعاية الممكنة. حتى نسى الجميع أمره أو ربما تناسوه عن عمد. أراحهم محمود بتحمل مسؤليته, ولكن موته المفاجيء.. وإصرار زوجته سميرة على التخلص منه بعد شهرين من الوفاة قلب الحكاية رأسا على عقب .. حاولت سميرة وقتها أن تطلب ممن تعرفهم من زملاء زوجها الراحل, أن يأخذوه بطريقة ودية, تعللت أن بعد رحيل الراجل لم يعد ممكنا أن تبقى معه في نفس البيت وأن يُغلق عليهم نفس الباب. فللناس أعين تبصر وتتلصص, وألسن لا تتوقف عن الكلام وتوزيع التهم. حتى وإن كان المتهم مجرد ظل باهت لرجل وليس رجلا كاملا, لكن لم يأخذ أحد كلامها بعين الاعتبار وفضل الجميع تجاهلها ظنا منهم أن هذه هي الطريقة المثلى للنجاة من تلك الورطة. لكنها استخدمت سياسة الأمر الواقع. حملته في توكتوك, وألقته عند باب الوحدة. صفقت بيديها, قالت بعزم ما فيها: اللي له حاجة يجي ياخدها. وركبت عائدةً إلى بلدتها. مضت المرأة دون إلتفاتة حتى بعدما انتبه عامل البوابة الذي اندفع راكضًا خلفها محاولا إيقافها ولكنها تعمدت أن تتجاهله مشيرةً إلى سائق التوكتوك بإصرار لكيلا يتوقف.
نزلت ضحى يومها من الطابق الثاني الذي تقع فيه الصيدلية إلى جوار غرف سكن الأطباء المهجورة.. غرفتين كانتا, واحدة للذكور, وأخرى للإناث.. الغرفتان خاليتان منذ عدة سنوات إلا من عائلات صغيرة من القطط تتبدل عليها من وقت لآخر .. ربما كان خالد آخر النزلاء الآدميين للمكان.. لحقت بها الممرضة ومن خلفها الأستاذ إسماعيل.. وجدوه مكوما إلى جوار الحائط المطلي بطبقات من الجير الأصفر..
لا حول الله يارب .. تمتم إسماعيل بينما كان يحمله إلى إحدى الغرف في الطابق الأول حيث مكتب مدير الوحدة, وحجرة الأسنان والحجرة التي يقع فيها مكتبه هو شخصيا.. تعمد ألا يدخل به إلى حجرته.. فتعاطفه معه لا يجب أن يأخذ أكبر من حجمه. خاصة أنه يعرف الحكاية وما فيها.. كان موجودا وقت أن جاءوا به إلى هنا أول مرة. لا يتذكر التاريخ بالضبط لكن يتذكر لسعة البرد, وبرك الطين التي كانت تحاوط المستشفى من كل الجوانب إثر أمطار ثقيلة أغرقت الشوارع في أواخر شهر نوفمبر. ربما ألقوه يومها في نفس المكان. استدعوا المدير والنائب الذين خططوا وطبخوا الطبخة ليلقوها في عب الأستاذ محمود وحده.
حمله إسماعيل إلى حجرة الأسنان. فطبيبة الأسنان حديثة المجيء إلى الوحدة, لا تعرف حكايته, ولن تفكر في معارضة إدخاله إلى حجرتها. خاصة أنها ستظنه مجرد مريض فاقد للوعي.. وهذا ما حدث, حتى لأنها سارعت بإحضار كوب ممتلئ لنصفه بالماء بعدما ذوبت فيه ثلاثة ملاعق من السكر, كمحاولة منها للمساعدة. نظر إسماعيل لكوب الماء مشفقا. وحمله من يديها مباشرة إلى فمه. تجرعه كله على مرة واحدة, وشكرها, تاركا إياها لتغرق في دهشتها وعدم فهمها لما يدور. بينما ضحى والممرضة واقفتان كأن الطير على رأسيهما.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الرواية الصادرة عن دار الهالة ـ معرض القاهرة الدولي للكتاب 2023