فصل من رواية حسن الختام

فصل من رواية حسن الختام
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

صفاء النجار

الشهر الأول

في عائلتي أجد من يتحدث كثيرا عن الحزن.. تقول جدتي: إنه أسود ثقيل، بينما تصفه أمي بأنه شيء مقبض، لكن لا أحد يتحدث عن الوحدة، وأنا وحيدة دون حزن أو فرح، أسكن على طرف العالم، في منطقة غائمة، تلفني شرنقة، تحاصرني خيوط متراكمة وعلاقات متشابكة،

أين طرف الخيط، أين تبدأ البدايات؟ أين تنتهي؟ لا فرق، فاللعبة محسوبة بدقة جهنمية دون مجال للصدفة سوى إحساسي اللحظي بالعبث.

وحدي أحمل صليبي على كتفي.. بالأدق في رحمي، ينوء ظهري بوطأة ما أحمل فينحنني، ينبطح، يعود ليذوب في التراب الذي أتى منه، فأعود متسقة مع ذاتي، رغم أني دائما ما كنت أحاول التخلص منها، لكنها كانت تحاصرني، ربما كانت تنقصني العزيمة، النية الصادقة، فوجودها في حياتي لم يكن يخلو من فائدة، فهي تملك القدرة الدائمة على أن تكون في الوضع المضبوط، كما يراد لها تماما أن تكون.. وردة، زهرة، غزالة، فراشة،

بعيدة ونائية عن أية قذارة، وابتسامة رضا تغلف وجهها، تتفرج على العالم ولا تشارك فيه، كل ما يحدث من شر بالنسبة لها شر لطيف يقوم به أبطال أفلام الكارتون، وهي تكتفي بالفرجة.. عالمها لوحة بيضاء وفرشاة تنقل من العالم ما تختار من تكوين، زاوية، ألوان، في عالمها لا تتساقط أوراق الخريف، والحزن في لوحاتها أزرق شفيف، كما تجربة عبور أو اختبار صوفي.

عندما رأيت لوحة “سيدة الشرفة” لسلفادور دالي، كنت أعرف أنها أنا/ هي.. السيدة التي تعطي ظهرها للناظر إلى اللوحة وهي تتطلع من شرفة إلى البحر.. وكنت أسائل نفسي تري ماذا ترى؟ هل تنتظر أحدا لم تكن في وضع انتظار، جسدها كان مسترخيا، سمانة قدمها غير مشدودة، تتأمل الخارج، لا تتطلع للهرب من المكان الذي لا نراه، فقط تنظر إليه.

لسنوات طويلة كنت أنا هذه السيدة وكنت أتطلع دوما للخارج دون أن أشارك فيه، مجرد متفرج تمضي الأحداث أمام نافذتي ولكني لست طرفا فيها.. في البيت الكبير في البلد أقف في الشرفة أتابع الأولاد الذين يلعبون الاستغماية أو الحجلة، أتفرج عليهم، من صياحهم أعرف أسماء بعضهم

– محمود.. الدور عليك

– حسن… أنت تغش في اللعب.

أنزل إلى أمي مسرعة:

– ماما.. ممكن ألعب معهم؟

– هل جننت؟ تلعبين مع هؤلاء؟، طبعا لا.

“لا”. الكلمة التي يؤلمني سماعها، “لا”. هي العقاب الذي لا يعادلها بالنسبة لي عقاب.. رفض الآخرين الذي حرصت دوما على تجنبه. لا.. تجرجني، تحفز دموعي، فتسقط حارة سريعة على خدي. تأخذني أمي إليها وتحيطني بذراعيها وتسند ظهري بصدرها وتشير:

– انظري إلى ملابسهم، إنهم مساكين، انظري كيف يلعبون في التراب، يسيرون حفاة..

ثم تدير وجهي إليها وتحتضنه بكفيها :

– ٍلديك لعب كثيرة، العبي بها، لست في حاجة إلى أحد، أنت الأجمل والأحسن، ولديك ما لا يملكه الآخرون، فلا تنظري إليهم.

تتدخل جدتي– اتركي البنت تتنفس.. دعيها تلعب في الحديقة.

تمسك أمي بيدي، نصعد إلى حجرتي، تختار أكبر دب لدي، أمسك دبي الأبيض وألعب به، وبين الحين والآخر أنظر للأولاد، ينزل ساتر شفاف على مشهدهم وهم يتصايحون وينهون لعبهم بعراك، بل إن أحدهم يمسك بطوبة ليقذف بها زملاءه، أنظر لهم وهم يبعدون.. ماما معها حق.

يطول وقوفي في الشرفة، وتنتقل بعدها بسنوات إلى شرفة أخرى تطل على النيل بالزمالك.. مع العصر يبدأ شباب في الإقبال على الكورنيش، يتجمعون، كل شاب ينتظر فتاة، أحيانا تأتي الفتاة قبل فتاها تنتظره وعندما يأتي يحملها من وسطها لتجلس على حافة السور الفاصل بين النيل والطريق.. يلتف الذراع المخطط حول البلوزة المشجرة، تمتد اليد الرقيقة إلى فتحة القميص المخطط، تصعد لتستكين الكف خلف العنق، تتسحب اليد الكبيرة أسفل البلوزة، تتقدم ببطء إلى منتصف الظهر، يتقارب الجذعان، يتعانقان، يبتعدان قليلا، لكنهما لا ينفصلان.

وحدي أراقبهم من خلف الستارة.. أتعود الوحدة، والفراغ الذي لا يملؤه سوى أنفاسي، التعود يخفف الغربة والبرودة التي تلف جسدي المتمدد الآن على سرير ليس سريري، في بلاد نائية باردة، في أقصي الطرف الشمالي الغربي، ولا أحد من عائلتي يعرف مكان وجودي.

هل تتخيل جدتي أنني الآن في أدنبرة ؟ وقد ادعيت أنني مسافرة لمنحة دراسية في باريس،

هل تقدر ما أنا مقدمة عليه؟ أيتاح لي في الأيام القادمة أن أراسلها؟ أن أكتب لها كما كنت أفعل وأنا في القاهرة وهي في بلدة “ميت زهرة” تطل على النيل نفسه، وحينما أتطلع إليه من شرفتي كل صباح أرسل لها محبتي وقبلاتي، ومراكب ورقية، أعرف أنها ربما لا تعبر القناطر الخيرية.

وأنا أجهز حقيبة السفر، همست لي:

– حبيبة، أثق تماما في رجاحة عقلك.

الآن لا يمكنني أن أكون عاقلة أو مجنونة، كل ما علىَ هو الاسترخاء وانتظار النتيجة.

تلمس أنفي نسمة هواء باردة رطبة.. كل هواء أدنبرة رطب مشبع بالماء مثقل، لكنه في كل الأحوال ليس حزينا …

أفتح عيني، يدي اليمنى مفرودة إلى جانبي تتدلى منها أنابيب دقيقة توصل المحاليل المغذية، أدوية، هرمونات، تتسرب السوائل إلى دمي، تمتزج به وتذوب في نسيجه وما يعود يفصل بيني وبينها شيء، هذه السوائل تصبح أقرب مني لي، يمكنها أن تتجول بحرية في داخلي، أن تنظر وتتأمل حالي، وأنا التي ظل نظري معلقا بالخارج، هل ستصل إلى الخلايا الموضوعة منذ ساعات في رحمي؟ لا أعرف.

ولا أعرف في أي لحظة تتولد الحياة في هذه الخلايا وتتحول إلى جنين، كائن حي، ذات..؟

يشرح د.برنارد المشرف على التجربة في محاضرته الثانية وأنا أتطلع إليه من مقعدي في أقصي الطرف الأيسر من الحجرة المقسمة إلي صفين: لم يحصل العلماء على دليل يقيني لتحديد لحظة ميلاد الحياة، قال بعضهم: إنها تبدأ بلحظة التعشيش عندما يثبت الجنين نفسه على بطانة الرحم ويستمد أسباب الحياة من الأم، ويقول آخرون: إنها لحظة تشكل القلب والأعضاء الحيوية الأخرى، وآخرون يقولون: إنها تبدأ بالإخصاب..

في حالتي لا يوجد إخصاب، لا يوجد حيوان يهاجم ويناور ويغزو بويضة ناضجة مستكينة في انتظاره، سباق محموم بين ملايين الحيوانات المنوية ينتهي بواحد فقط، تكتب له الحياة ويمكنه الاستمرار والبقاء ولا يصبح هدرا أو مجرد شهوة تم إفراغها.

دائما ما كنت أتحاشى السباقات، المنافسات، والرسم ساعدني على المساهمة في الحياة بعيدا عن التراتبية و المواجهة .. منذ الصف السادس الابتدائي أشارك في مسابقات الأنشطة والمعلومات بدوري أنشطة المدارس، ومع اقتراب نهاية العام يجلس أربعة تلاميذ، فريق واحد يمثل كل مدرسة، يختلف أعضاء الفريق للمدرسة من عام لآخر، أما أنا فمكاني ثابت في الفريق، رسمته على لوحة بيضاء، قبل أسبوع من بدء الدوري بين المدارس يستعد الفريق بمراجعة المناهج الدراسية، وأجلس أنا “حبيبة النحال” أمام لوحة بيضاء للرسم، تهمس مس “نجوى” لمديرة المدرسة فريقنا لديه تسع درجات مضمونة من الرسم وتشير لي. كانت أول لوحة أرسمها بورتريه لجدتي وهي تطلع من شرفتها إلى النيل تنتظر قادما من بعيد، دهش الموجه عندما أخبرته المدرسة أن طالبة في الصف السادس هي التي رسمته، في حجرة النشاط وعلى المنضدة الملوثة بالألوان الزيتية وألوان الشمع، نظر إلى بورتريه جدتي وقال: “هذا البورتريه يتسم بمستوى فني رفيع، فهو يعطي إحساسا بالقوة والجرأة، الملامح منقولة بكل دقة”.

ثم ضغط على كتفي وهو يكمل “أنصحك بمراقبة ملامح من حولك؛ فهذا سيفيدك جدا في التقاط الفروق المميزة لملامح كل شخص، حاولي أن تدربي عينيكِ على متابعة الكتب الفنية، وخصوصا التشريح، لأنك إذا فهمت تركيب عظام الوجنة فستدركين توزيع الظلال، تجاعيد الوجه تحتاج أن تكون طبيعية أكثر، ولكن لا تقلقي، فهذا سيأتي بالممارسة والخبرة.

كانت النصائح التي وجهها لي أكثر من رائعة وان لم استوعب لحظتها نصفها فقط، هززت رأسي مؤمنة، صافحني، شد علي يدي و تشجيعا لي منحني الدرجة النهائية.

الآن و دون منافسة، ينمو الآن محتوي خلية واحدة من كبدي داخل بويضة ناضجة تم تفريغ نواتها حتى تتكاثر دون إخصاب، “دون إخصاب” ليس الأمر بسهولة العبارة السابقة و بساطة حروفها، فمنذ شهر ود.برنارد يأخذ عينات متعددة من أنسجة مختلفة من جسدى، فكان يقشط عددا صغيرا من الخلايا لا أراها بالعين المجردة، يستنبتها على أقراص زجاجية، ويترك الخلايا الأصلية، يقول:

– الخلايا الجديدة المستنبتة تكون أقل تخصصا من أسلافها، وبالتالي أكثر ملائمة للنقل النووي.

بعدها يضعها في أنابيب آلة الطرد المركزي التي تطرد النوى من خلاياها ويتم تجميع هذه النوى في محلول معد خصيصا لحمايتها، بعد اختبارات عديدة استقر رأيه على الحصول على الخلية من الكبد.

–        الأمر لن يحتاج أكثر من تخدير موضعي، وبهذه الإبرة أدخل للكبد من تحت الأضلاع وأحصل على عينة صغيرة. من واحدة من هذه الخلايا نحصل على النواة ثم نزرع هذه النواة في بويضة ناضجة، بعد طرد نواتها.

التخدير الموضعي لا يحتاج لأكثر من تذكر حواديت جدتي.. في الأزمان البعيدة، وذات مساء عاد الرجال من الحرب، كانت أسرَتهم دافئة، أولادهم ينمون كل يوم، أراضيهم مزروعة بالقمح، وكالعادة خرجت النساء تقتسم مع الرجال ما عاد به المحاربون، لكن سيدة واحدة كانت غائبة، جلست بجوار طفلها الرضيع المحموم، فأعلن زوجها أنه سيأخذ نصيبها. في المرات التالية كانت امرأة أو أكثر يكون لديها مهام تشغلها عن توزيع الغنائم وأخذ نصيبها، وكان الكل يردد فلتسترح النساء فالرجل في نهاية الأمر يعود بنصيبه و نصيب زوجته إليها، بعد العديد من المرات لم تعد هناك امرأة تخرج عند تقسيم الغنائم عدا امرأة واحدة كانت تصر على حضور القسمة، اتهمها القوم بالشره، فهجرها زوجها ونفتها القبيلة بعيدا وبقيت وحيدة، منبوذة، هي وطفلتها التي كانت في أحشائها، هذه المرأة صارت أما لكل المنبوذات الوحيدات..

لا أذكر عدد البويضات التي أخذوها مني.

أسال دكتور برنارد:

– ألن يؤدي هذا إلى نفاد بويضاتي ؟

ينظر لي باستنكار: لا تقلقي، المرأة تكون مجهزة منذ يوم ولادتها بحوالي نصف مليون بويضة غير ناضجة وماينضج منها فعلا 500 بويضة.

أحسبها، خمسمائة بويضة بالقسمة على 12 شهر تساوي 41، أي أكثر من 41سنة من الخصوبة، أي لدى كل امراة فرصة للحياة مقدارها 41 سنة.

تتعرض بويضاتي للعديد من الاختبارات والدراسات، لمعرفة سلوكها ورد فعلها في مختلف البيئات، لا بد للبويضة من التأقلم مع بيئتها الجديدة.

أمد يدي أتحسس مكان الرحم، أضع يدي اليسرى على قاعدة العمود الفقري، وأضع اليمنى على العظم الموجود في أسفل البطن، الرحم موجود بين هاتين النقطتين، بحجم قبضة اليد المضمومة، وجدرانه مصنوعة من العضلات كي تسمح له بالتقلص والاسترخاء.

أمس تم زرع الخلايا التي بدأت في التكاثر في مستنبت داخل الرحم، تم إدخال أنبوبة طويلة من المطاط في مهبلي، ومنها إلي رحمى، طرفها الآخر كان متصلا بمحقن به الخلايا المتكاثرة، بدفع المحقن تخرج الخلايا إلى الأنبوبة إلى الرحم، أمرني الطبيب بالراحة وتجنب الحركة والتزام الهدوء لمدة بضع دقائق، وكان يمكنني أن أنام دهرا وأصحو مثل أهل الكهف.

خلية واحدة.. تتكاثر، تتجمع، تتقوقع على نفسها، لها بصمتها وحجمها وكتلتها التي لا تتعدى أقل كثيرا من المليجرامات، خالية من الألوان، الظل والنور، لكن أبعادها موجودة، هالتها حولها، تترابط، تتجاذب، تسير في نفس الاتجاه وعكسه، من أجل هوية لا أدري إن كانت ستكون جديدة أم أنها امتداد لهويتي، تتجاذب الخلايا أصبحت الآن 4، 8، 16،.. يتاح لي أن أتابع نموي، أن أري ماحدث لي قبل أن أكون، تقترب الخلايا من بعضها، تتضام. تتحرك كل خلية في اتجاه الأخرى، لكنها كلها تتحرك ككتلة واحدة، خلية واحدة تتحول إلى متوالية هندسية، لن يستطيع”مالتوس” إحصاءها، ورغم ترابطها الحميم تنكفئ كل واحدة على ذاتها، تتمايز، تتباين وتصبح شيئا جديدا عينا، قلبا، جلدا،..،.. تتمايز، تتخصص، لكنها لا تبتعد، لا تنفصل، مرتبطة للأبد، لا فكاك، تدور في أفلاكها، وتربطها قوة مجهولة، لو أن هذه الجاذبية الساحرة تلاشت، سوف ينهار مجهود شهور.

هذه هي التجربة الأولى، فهل أكون محظوظة وتمضي خلاياي في طريقها ؟ أيام ويتضح كل شيء، هذه الأيام لا أحسبها بالدقائق أو الساعات بل بحركة انقسام الخلايا دون تفككها، حتى تنغرس في الرحم وتبدأ في النمو.. ماذا لو امتد نموها إلى ما لا نهاية؟ أخاف من اللانهاية، من اللامحدد، من الأبدية

في المدرسة تسألني مدرسة التربية الدينية، حبيبة: أين الله؟

أجيبها بثقة

–        في السماء.

تغضب المدرسة مني، تتفاجأ بإجابتي. وأتفاجأ أكثر بأن الله موجود في كل مكان.

ينهار حلم طفولتي بالكرسي الهزاز الذي يجلس عليه الله، يراجع أفعالنا وينظر إلينا من السماء، كما تفعل مديرة المدرسة المختفية خلف الستائر القطيفية الزيتونية اللون .

لا تدري كم صدمتني حين قالت إنه موجود في كل مكان.. ما معنى هذا؟

هل يخالط البائعين؟، ويتوسخ شرابه الأبيض؟، ويسمع الكلمات القبيحة؟، أفقد فضولي لمعرفة الله، وكيف يكون بيته وقصره وحدائقه ويخفت فضولي ويقل تطلعي للسماء أو النظر إلى سقف حجرتي، فربما كان الله في هذه اللحظة في الشارع أو في الحمام.

يجذبني فضول آخر، على الإنترنت تسبح في عقول العشرات، تدخل مواقع تتلقى معلومات ورسائل، عالم افتراضي يتحول إلى عالم مستقل، كلما توغلت فيه تاهت عني حقيقته.. على إيميلي أجد عشرات الرسائل الغريبة: من أشخاص لا أعرفهم. يطلب أحدهم استخدام اسمي لتحويل مبلغ 50مليون دولار من كوتي ديفوار ولي نسبة 20%من المبلغ .. من أين حصل على إيميلي من قاموس كوتي ديفوار.. من موزمبيق، من جنوب أفريقيا.. هاي أكتب لك وكلي أمل أن أجد فيك الحب الذي أبحث عنه، لقد انفصلت مؤخرا عن صديقي، لأنني اكتشفت أننا كنا زوجا لطيفا ليس أكثر من ذلك؟ لم يكن حبي الحقيقي لذا قررت الاستمرار في البحث، وربما تكون لي فرصة معك، ما رأيك؟، أتمنى أن نكون معا، إذا كنت مهتما ابحث، عني على موقع… ويمكننا أن نبدأ علاقتنا الحقيقية .. المخلصة ماري. يسعدنا أن نخبرك أنك فزت في سحب اللوترية الأوربية الذي عقد في 27 يوليو وقد حصل إيميلك على رقم 05-32-44-45-50-0 (01-07) وقيمة الجائزة مليون يورو وقد تم اختيار إيميلك من بين 250 ألف إيميل في سحب علني، مجموعات ترغب في الانضمام لصفحتي على الفيس بوك، آخرون يدعونني إليهم، دعوات للاحتجاج، للتظاهر،.. صخب وضجيج ومحرك البحث لا يتوقف من وصلة إلى أخرى حتى وقعت عينى عليه، مجرد صدفة قادتني إلى صفحة بها إعلان عن الرغبة في متطوعات تختارها الشركة لإجراء تجارب طبية علمية، المزايا الإقامة الكاملة..، أتصفح موقع الشركة.. أقرأ الاستمارة ، الرد خلال أسبوع، لن يلتفت إلى طلبات إرسال البيانات على ايميل خاص وسيتم الرد خلال أسبوعين.

بدافع الفضول حفظت الإعلان والصفحة الرئيسية للموقع، بعدها بخمسة أيام أرسلت الاستمارة وإجابات الأسئلة، وجاء الرد، اتصالات ومناقشات عبر الشات، عقد مؤتمر على تحضيرى على الموقع، كان هناك سؤال، هل كوني مسلمة لن يمثل لي مشكلة، أجبتهم علماء المسلمين دائما يفتون بأن كل جديد حرام وبعد ذلك يكتشفون أنه حلال، وأعتقد أن الأمر سيكون مماثلا.

بعد شهور، أرسلوا إيميل باختياري كمتطوعة ضمن مجموعة لم يحددوا عددها لإجراء تجارب علمية جديدة وأن علي في حالة الموافقة إشعارهم بذلك والتهيؤ للسفر إلى “أدنبرة” وأن لي الحق في أن أرفض هذا العرض، لم يذكروا الاستنساخ صراحة، لكني كنت أفهم، وأشعر أنهم يفهمون أنني أفهم، كانت لعبة وفضول ولم يكن لدي ما أخسره ..

سألوني هل ستصحبين معك مرافقا؟ كانت الإجابة السريعة لا. من يرافقني؟ جدي يحيى؟ أبي؟ أمي، لا. تعودت أن أكون وحدي.

هنا في “أدنبرة” كان هناك ما يقرب من عشرين سيدة وفتاة من مختلف أنحاء العالم استمرت الإقامة ثلاثة شهور وكان عددنا يتضاءل، حتى وصلنا إلى خمسة.

يدخل الطبيب، يبتسم:

–        أنت حامل، لقد تعشش الجنين في الرحم، الخلايا تتضاعف، سنظل نتابع مستوى هرمون الحمل، وسيكون كل شيء على ما يرام، إذا اجتزنا هذه المرحلة يمكن أن تنجح التجربة.

حتى هذه اللحظة هي تجربة بالنسبة لد.برنارد، أتفهم موفقه، لكنها مصير بالنسبة لي، إذا نجحت التجربة يمكنني أن أعود للبلدة وعلى ذراعي طفلتي الصغيرة..

أدفع البوابة الكبيرة، ٍالبوابة ثقيلة، يحتاج دفعها لمجاهدة، وأنا سيجهدني طول الطريق، يسرع شاب صغير لمساعدتي. هل هو ابن عم حامد البواب؟ لا. ربما كان حفيده فعمره يقاربني أو يقل، ألمح جدتي في شرفتها، تتخذ مقعدها الهزاز الذي طالما حكت لي عليه حكايتها، وقرأت مقالات خالي منير ورسائل خالى عاطف.

عندما أصل سيكون الرجال عائدين من صلاة المغرب وغبشة المساء يتردد صداها في نفسي، وفي صدري سؤال حائر: كيف سيستقبلني الجميع، لا ليس الجميع، أمي؟ أبي؟.

جدتي لا خوف منها هي تمتلك رحابة وفهم أكثر مما يمكن أن يكون لدى جدي بحيي كما تعودت أن أناديه، سيكون على علم بحالي، بل هو الوحيد الذي سأخبره بموعد وصولي، وعندما يعرض أن يوصلني، ستفاجئني شجاعتي و أنا أقرر:

–        أريد أن أواجهم بمفردي.

علي السلالم الداخلية للبيت تقف أمي مستطلعة، وماأن تتبين هيئتي حتى تنزل مسرعة ومع كل درجة يتساقط غضبها وتلين ملامحها وعندما تصل لي تنظر بعيون ملؤها العتاب وتحتضنني، كان جسدها مستنفرا كقطة متحفزة تريد أن تمنحك نفسها لكنها تخشي غدرك بها ربما كان جسدي أنا هو المتقوس. ربت على ظهرها لمست أصابعي ظهرها،

نحلت أمي كثيرا هل ستصبح يوما أثيرا، تأخذ “مريم”، تتأملتها

– حبيبة.. حلوة قوي .

– اسمها “مريم”

– حبيبة، هي حبيبة.

لقاؤها يجعلني لا ألاحظ غياب أبي

ولكنها تعاجلني

–        بابا في المكتب.

هل أصعد لجدتي أولا أم أذهب إليه؟ وهو الذي لم يحدد موقفه مني، كعادتها تحسم جدتي ترددي، عندما كنت أخطئ ويعاقبني أبي، كانت تدفعني نحوه

– اعتذري لبابا.

لمحتها، تشير لي بعصاتها وهي على رأس السلم المؤدي للدور العلوي، وتحثني

–       بابا الأول، اذهبي.

لكني لن أطيع أمرها، فروحي في حاجة إليها، أصعد السلالم مسرعة تضمني إلي صدرها، قصرت جدتي، دائما ما كانت تقبل شعري، اليوم أقبل أنا مفرق شعرها، صرت طولها، وفي الأصل، كنت أقصر، تبعدني قليلا، و تتأملني وقبل أن تغلبها دموعها، تشد على يدي

– هيا انزلي لبابا.

أنزل السلم خطواتي ثقيلة.

أطرق على باب المكتب .

– ادخل

يواجهني جالسا على مكتبه، لا أدري كيف أشكل عضلات وجهي: أبتسم؟ أتجهم؟ أضع وجهي في الأرض؟ أنظر إليه مباشرة؟

دائما ماكانت إجابة هذه التساؤلات هي التحدي الصعب الذي يواجهني عند لقائي بأبي، وفي كل المرات لم أصل إلى الذي يرضيه، وأنا صغيرة تكونت لدي قناعة أن أبي لا يرضيه شيء، بمرور الأيام تأكد لي أنه لايراني، منفية أنا من ساحته، التجاهل والصمت هو ما يجمعني بأبي، فكيف سيكون حاله مع ابنتي “مريم” حفيدته، في كل الأحوال كان أبي، وفي كل الأحوال سيكون جدها، تنغرس قدمي في السجادة كأنما أجاهد في بحر الرمال، وتزداد وطأة الدقائق واللحظات.

لم يكن أبي يمنحني لحظات خاصة كما في الأفلام الأمريكية، ولم يكن لديه نزعة رومانتيكية، عتاب ثم دموع وأحضان، لكنه بكل بساطة فرد ذراعه من خلف المكتب، وردد عبارة كان يتدرب على قولها:

–       حمد لله على السلامة، اطلعي استريحي.

الهواء المشدود بين اثنين، التوتر الذي ينتظر شيئا يشرخه، يكسره، تعرف أن الأمر ليس طبيعيا، قلقلة ما هناك، شيء تنتظره، تستعد لتلقيه ولكنك تهاب الآخر وتنتظر، وهو أيضا ينتظرك أن تبد أ وتخدش هذا الصمت، يتجسد هذا في المطارات، في إشارات المرور، تكون بينك وبين شخص غريب، أو بيني وبين أبي، هي نقرات أصابع، كلمات مبعثرة، حروف متآكلة، أغنية يتردد صداها داخلي ” بيعز على غني ياحبيبي، لأول مرة مابنكون سوا” ابتسامة على زاوية الفم، معلقة على الناحية اليسرى لا تتسرب لبقية الشفاه، الحنجرة تستعد تحتك الأحبال الصوتية

–       احم اهم

–       كام معلقة سكر؟

–       النسكافيه يدفئ أكثر من الشاي

–       ……

يوقظني الطبيب من أفكاري:

– حبيبة لا أريد أي إجهاد.

أسأله:

– هل سأظل في هذا السرير دون حركة؟، مجرد تحري للأمان، هذه تجربة تستحق الكثير من الحذر.

هل كنت أحتاج الى تأكيد الطبيب أم أني كنت أشعر بنفسي؟

تتغير ذرات أجسامنا على الدوام، ومع كلِّ نَفَس، نستنشق الآلاف المؤلَّفة من الذرات التي سبق لغيرنا من البشر أن استعملها؛ حتى إنه يقال إن في أجسام غالبية الإنكليز بضع ذرات كانت ذات مرة جزءًا من ذرات شكسبير.

أستكين، أعود لمستقبلي، فأصعد إلى جدتي

–        جدتي عندما وصلت كان معك ضيف في الشرفة، يبدو أنه يودعك من هو؟ صديق قديم؟ أين ذهب؟

تبتسم جدتي، تهز رأسها، لا أعرف نفيا أم إثباتا.

–        وصولك جعله ينسحب، يمضي بعيدا .

–        ألن يزورنا مرة أخري؟

–        سيأتي كثيرون للزيارة فلا تستعجلي.

في المناسبات تكون الخالات الثلاثة نور وشمس وقمر، هن أول القادمات، لاشيء قادر على التفريق بينهن، وقد أخذ مني الأمر سنينا طويلة وأحاديث وجلسات سمر ولحظات بكاء وربتات على الكتف وابتسامات وأحضان حتى أستطيع التميز بينهن، وأن أنادي كل واحدة باسمها الصحيح، لم يكن كل المحيطين بهن بحاجة لهذا الجهد، فهن معروفات للجميع داخل وخارج وهذا البيت الكبير بالبنات الثلاث فقط ودون تمييز، والحق أن الأمر لم يكن يفرق معهن، فقد حملت خالتي نور عبء أن يحملن اسمها، وبالتالي قيادة هذا الجمع المتعدد الأوجه المليء بالألغاز والأسرار، فما بينهن شيء خاص لا يدرك كنهه أحد سواهن، لا أستطيع تفسيره.

في بعض الأحيان تهمس جدتي حسنة:

بالتأكيد كانوا نطفة واحدة وخزنتهم “صفية” في بطنها، وكانت تلد كل واحدة وقتما تريد.

هل تقصد جدتي أن “جدتي صفية” قد احتفظت بأجنتها وكانت تتحكم في ولادتهن؟ لو سمع د.برنارد بهذا القول لجاء على الفور، وطلب تحليل DNA الخاص بخالاتي ولما تورع عن طلب فحص جثة جدتي صفية.

جدتي “حسنة” غرائبها لاتنتهي، فقبل سفري وحتى الآن مازالت تردد” صفية تريد تغيير كفنها، بلي الكفن عليها وهي لم تبلي” لم يهتم من داخل البيت بعبارات جدتي، لكن أثره كان كبيرا في النساء اللاتي اتخذن من قبرها مزارا يغطينه دائما بالشموع والأعشاب الخضراء وعرائس مولد النبي.

–        أسميتها مريم؟ عندها كام شهر ؟ ثلاثة شهور، طبعا لم تعملي لها سبوع ؟

السبوع؟ أول رمضان؟ ليلة العيد؟ ليلة رأس السنة؟ شم النسيم؟ كل التفاصيل التي تختزنها ذاكرتي هل تعيشها مريم مرة أخرى؟

أردت لها أن تتحرر من كل أغلالي. هل ترث مادتي الوراثية فقط أم ينطبع في خلايا جسدي التي تكونت منها كل الذكريات.. المرح والفرح شهقات الحزن والدهشة. هل يستطيع د.برنارد أن يحدد أي مكونات في خلاياي تورثتها من أدم وحواء مباشرة وأيها توارثتها من الهواء والطعام والصدمات،هل تتأثر خلايا الإنسان ومادته الوراثية بسلوكياته ولماذا أتذكر النساء فقط.. زليخة، آسيا، سالومي، بينما يتوارى أبائي قابيل، هابيل، عيسى؟.

على مائدة العشاء تجتمع العائلة، خالك يحي والبنات الثلاث وأبوك وأمك التى لاتترك الطفلة بل تضعها على ساقيها وتضمها لصدرها.. تبدأ دادة فاطمة في توزيع الحساء، تهمس لك “وحشتينا ياغالية”، تهزين رأسك، وأنت تعلمين العتاب الذي ستوجهه لك، كيف تلدين دون أن تكون إلى جوارك وهي التي رافقتك كل أيامك، تمسكين يدها بحنان وتقبيلينها للمرة الأولى

– أنت دائما معي يادادة .

تقبل رأسك، ينهي خالك يحيى هذه المليودراما

–        الشوربة يافاطمة.

تضعين وجهك في طبقك، ترفعين الملعقة المليئة حتى المنتصف ببطء الأفلام القديمة، لا تريدين أن تكوني البادية، تنتظرين سؤالا من أحدهم، عتابا، هجوما، تنتظرين أن تكشفي عن وجهك القديم، لكن الحساء الساخن سيكون فرصة أمام الجميع للروية، ببطء ترفعين ملعقة الشوربة، تتركز عيناك على حبات البازلاء الكروية، والكوسة المستديرة، البطاطس المكعبة، كطفلة في اختبار لا تعرفين متى سيبدأ الامتحان، الصمت يخيم على الحلوق.

يكسر خالك يحيى الصمت بعبارة عقيمة، لا تتوالد منها عبارات تالية..- البطاطس ارتفع سعرها هذا العام.

يهمهم الجالسون – نعم

تتابع عيناك مفرش السفرة من الدانتيلا البيج، رسمته الأساسية أشكال خطوط بيضاوية لكيوبيد بجناحين مفرودين، يضع قبلة على خد فتاة ترتدي فستانا طويل شعرها مفرود خلف ظهرها، تتكرر أربع وحدات على طول المفرش، وعلى العرض تتكرر وحدتان، كل واحدة تجمع كيو بيد والفتاة، وينتهي طرف المفرش بجناحي كيوبيد ليعطى المفرش بروزات بعدد وحداته الطولية، أمام كرسيك ينفرد جناح كيوبيد، تمسكين بطرفه، يمكنك أن تعدي ريشاته تودين لو تستعيريها لتطيري، لكن الطيران والهروب لن يكونا الصفة التي تحتاجها ابنتك منك.

هل سيفاجئك الصمت وأنت التي تعيشين هذا المشهد و تتدربين على تحمله منذ الآن؟ لاتستطعين قطع الصمت..عليهم أن يظهروا رد فعلهم، يرفع السفرجي أطباق الحساء. يسأل أبوك :- هل ستقيمين هنا، أم ستعودين للزمالك؟

تنوب عنك جدتك :- طبعا ستبقى هنا.

ينتهي العشاء البارد، وستعودين بمفردك تجلسين في شرفة البيت الكبير، هذا وقتك الخاص، بناء على ما تفعلين سيتحدد مصير ابنتك.

في الوقت الذي مازلت تحتاجين فيه للتعرف على ذاتك، واختبار قدرتك على العبور، فرد ذراعيك وساقيك والتعرف على عالمك الجديد وحدودك وامكاناتك، تجدين نفسك محاطة بأسئلة صامتة عن ذات وهوية أخرى، تمسكين ذراع الوليدة، تبتسم لك، ابتسامة طفل يعي

ما حوله، يبدو نموها سريعا واستجابتها أسرع ، تتسائلين وأنت تداعبين خدها الناعم كورقة ورد مازال نداها عالقا “أينا الأصل وأينا الصورة؟” هل تزداد وحدتك؟ وتسكنين أنت وهي جزيرة معزولة بالصمت، تقفين أمام مرأة مشروخة، تقسم وجودك إلى عدة صور، تتنافر الجزر، تتشتت الحقيقة المنعكسة على سطح المرآة، تنظرين في داخلك، تركزين على حقيقة واحدة أن لديك طفلة تحتاج إليك، كما تحتاجين أنت إليها.

تتذكرين مقولة “فرانسيس كريك” عن أهمية الإنجاب الأطفال وكيف أنه لا يجب أن يترك عرضة للصدف التي تحكمت في هذه العملية قرونا طويلة، وأن على كل رجل وامرأة مرشحين للزواج أن يثبتا بطريقة معينة صلاحيتهما أو جدارتهما قبل الترخيص لهما بالإنجاب، والاضطلاع بالمسئولية الجسيمة للأبوة والأمومة.

ترفعين وجهك تلتقي عيناك بعيني أبيك، لو تمت هذه الاختبارات حقا من كان سيجتازها “أنت، جدتي، أمي، يهيئ لي أن خالي يحيى هو الرجل الوحيد الذي خلق ليكون أبا”

تبدو النساء دائما مستعدات للأمومة، لكن الآباء دائما مستعدون للرحيل والبحث عن مرعى آخر. الأبوة والبنوة الاختبار الصعب: الأمومة عذراء تتحمل أقذع التهم و تربى وحيدها، وإبراهيم يهم بذبح ابنه، لم يكن الأمر لمريم بذبح ابنها، الأبوة أقل، مجرد نطفة، قضاء شهوة يأتي منها طفل أو لا يأتي.

أما أنا فسيظل السؤال المعلق في ذهني لماذا اختاروني أنا بالذات .

ــــــــــــــــــــــــــــ

*فصل من رواية صدرت أخيراً بالقاهرة عن دار رؤية

 

 

خاص الكتابة

مقالات من نفس القسم