عبلة جابر
المدخل
مضيقٌ أوّل ..
تجلسُ على حافةِ الوقتِ، وغيمةٌ هاربةٌ تداعبُ قلبَ السّماءِ، هذه البلاد التي لا تكفُّ عن البرد والمطر بعيدةٌ عن تضاريسِ الجروح هناك، قريبةٌ من تفاصيل العمر الذّاهبِ فيك والغياب. هل تمطرُ من الداخل أيضاً!
ها هي تمطر الآن وجعا ورملا ينفذ من عمقِ الذّاكرة هل تنزف الذّاكرة أيضاً يا طارق!!
هكذا تحادثُ نفسها سرّا، هذه العادة التي اكتسبتها هنا في ما يسمونه أرض الأحلام "أمريكا" هذه البلاد التي لم تتسع لها رغم ولاياتها الاثنتين والخمسين تدركُ جيدا أن القلوب حين تضيق على أصحابها وتُغلق منافذها الأربعة لن يسعها شيء ولا حتى المجرة نفسها..
تفتح باب البلكونة بعد احتدام الشجار بينهما - كالعادة- هذه المعارك اليومية التي يخوضونها على أتفه سبب فقط لأن روحها لا تحتمل فكرة وجوده هنا على الطرف الأخر من السرير، يلفحها هواءٌ بارد، تُحكم إغلاقَ أزرار الرّوب الشّتويّ، تضمّ أصابعها الأربعة إليها وتبدأ العدّ من الإبهام، هكذا : هزيمةً هزيمة ...
كم هو قاسٍ شتاء الغرباء!
قاسيةٌ أحلامهم المحظورة ، ذاكرتهم المرهقة بالحنين وبالوجوه معا..
أكان لزاما أن أكون "أنا" ؟؟!
لماذا فعلتها يا أبي؟ أضاقت كلّ الأبجديةِ عليك فلم تجد إلا "سِّيلا" اسما لي! أكنت تعلم كمّ الدّموع والآهات التي سأدفعها لاحقا ثمنا لهذا الحنين الحارق...
لماذا يا أبي! !لطالما أرهقها هذا السّؤال، هي التي حاولت البحث عنها فيها، كم مرة حاولتْ الخروج منها إليها، لتكونها ولو ليومٍ واحد. صوتها الباكي لحظات الابتهال في السّاعةِ الأخيرة من الليل وهي تردّدُ في سرّها...لماذا يا رب؟ لماذا لم أكن أسماء؟...
هي الغريبة هنا في مدينةٍ لا تنام، هذه الأضواء التي لا تنطفئ، فلا تكاد تميّز قدوم اللّيل من دخول النّهار، بلادٌ تفتقر النجوم والهدوء معا. تتذكر قريتها البعيدة الآن هذه القرية التي كرهتها، هذه القرية التي لم تتسع يوما لجنونها رغم رحابتها. تذكرُ طفلةً كانتها هناك بأحلامٍ كبيرة وجديلتين، تُلقي بجسدها الهزيل على سطح البيت مراقبةً النّجوم لتواصل العدّ حتى تنام. لطالما حلمت أن تكون نجمةً وأن تصافح الغيوم، أو أن تلامس حدَّ السّماء حسبما كانت تقول. لطالما سكنتها رغبةٌ سريّة في الطّيران والتّحليق عاليا.
هذه الرّغبة التي دفعتها لتقول: نعم.
لتنهار أمامهم دفعةً واحدة.
هي التي ضحّت بكلّ شيءٍ لأجل تذكرة سفرٍ وعبور.
هذه الطّائرة التي علقّت أحلامَها عليها، لتمنحها شرعيةً جديدة لبدايةٍ من حلمٍ وحرية، هي المدفوعة برغبة الاكتشاف والرّحيل، تعرف الآن أنها كانت واهمة وأن ما ظنته حرّية كان مقصلةً للحلم، وأن ما ظنته طيرانا كان سقوطا في الجحيم.
هم الذين حاصروها كثيرا، أصواتهم التي أدخلتها المتاهة لتضيع في الدّهاليز، أما من طريقٍ للخروج اذن!
قيودهم التي ضيّقتْ عليها حدود الاختيار. وصبرها المحدود الذي دفعها لأقصر الطّرق. أو ما ظنته خطّاً مستقيما لم يكن إلّا حلقةً من نار. كم مرة يلزمها أن تتعلم القفز قبل أن تحترق أكثر!!..
تذكر الآن آخر ليلةٍ لها، قبل أن تقرّر نصب مشنقتها الأولى بيديها، تسللت إلى أبرد حجرةٍ في البيت، أطفأت الأنوار و"صوبا" الغاز عمدا، وكأنها أرادت أن تتأكد من تجمّد قلبها وانطفاء أحاسيسها، هذه البرودة التي أحالتها قطعة جليد صلبة. لم تدرك حينها أنها ستذوب مع أولّ لفحة شوقٍ لتنهار باكيةً على خساراتها، وما أكثرها!
لم تدرك حينها أن خسارات القلب أكبر من أن تُعَوَّض، وأن نزيف الرّوح لن يضمده شيء، وأن الذّاكرة فعلٌ مستمرٌ لا يموت،. وأن طارق سيبقى كما هو يشقّ سماوات الحنين فيها ليضيء أكثر.
هذا الحنين الذي يحاصرها من كلّ اتجاه، وصوت فيروز الذي يُحكم ربط المشنقة على قلبها.
"أنا عندي حنين ما بعرف لمين"...هكذا لتختنق بأنينها ونشيجها معا.
كانت تعرف تماما لمن يأخذها هذا الحنين الموجع، لمن تنبض هذه العضلة الواهية بين ضلوعها، هذه المضخة التي تؤجج حرائقا في جسمها لا دماء.
لتهذي وحيدةً آخر الليل رغم التصاقه فيها على ذات الوسادة، هو الغريب عن عالم مشاعرها تماما. هكذا تزيح يدهُ من على كتفها تجاهد نفسها بقوةٍ كي لا تبصق عليه، هذا الذي أصبح وفق عقدٍ ورقيٍ زوجا لها وهو البعيد كل البعد عن مملكة روحها السرية، وهي التي ينتابها الغثيان كلما استيقظت على وقع أنفاسه عليها، قبلاته المحمومة التي تصيبها بالدّوار تشظي كيانها كلّما طارحها ما يسميه الغرام.
أما هي فكانت تسميه اغتصابا مشروعا بمباركةٍ أممية، هذا الألم الذي يبلغ ذروته بعد كلّ خيانةٍ للقلب لتغرز أظافرها العشرة التي ربتها طويلا حدادا على الحبّ،في كل نواحي جسدها الملقى على صبّارة حزن.
هي التي تمنّعت عنه طويلا، وهو الذي احتواها أوّل الأمر مبررا تمنعها بالخجل وربما الخوف؛ ذلك لأن فترة خطوبتهما القصيرة لم تعطها الزمن الكافي للحب أو حتى الصّداقة، مجرد أسبوعين فقط ليكونا علنيا زوجا وزوجة.
هو الذي كان يتعجّل الارتباط لدواعٍ حياتية منها السفر وبدء دوامه الجامعيّ في سنته الأخيرة للدكتوراه –هناك- في أمريكا. "أمريكا" هي الكلمة السّحرية التي أغوتها فيه لتقول: نعم، رغم انكسارها، هي التي كانت ترفض استقبال العرسان لفترةٍ طويلة، متحججة ًبدراستها وأطروحتها وأشياء أخرى، يومها تعجّب الجميع منها، لا سيّما اخوتها الذين رفعوا حواجبهم باستغراب "أيعقل!."
لم يعرفوا أن "أمريكا" هي الكلمة السّرية التي ستغير خريطة حياتها لتهوي بها في قاع السّعير. قلبها الذي لم يتعاف من خيبةِ الانتظار بعد، وطارق الذي أبى إلا أن يحرقها أكثر،
لم تمنح نفسها فرصةً للنقاهة أو حتى للتفكير، كغريقةٍ تشبثت بهِ، كانت مدفوعة برغبةٍ قوية في الهرب أو الانتقام، لم تعلم حينها أنها تنتقم منها بها ليس أكثر، هكذا أنكرت قلبها وتنكرتَ لروحها ووجودها وكل شيء وكأنها أصبحت أخرى بين عشيةٍ وضحاها.
لم تنم ليلتها، حاصرتها خيالاتٌ عديدة كانت تجد نفسها وحيدةً في غرفةٍ مظلمة وحولها هياكلٌ عظمية وجماجم تماما كمشرحة مختبر التشريح الذي انتظرت أسماء أمام بوابته عمرا بأكمله وهي تمارس الطب في خيالها ولو حلما.
رائحة الجثث التي تسربت من الخيال إليها لتحك أنفها بيدها، علمت حينها أن شيئا ما في داخلها مات إلى الأبد، قفزت من سريرها على صوت آذان الفجر. توضأت وصلت وجلست تقرأ قليلا من القرآن، تنبهت أمها عليها أجلستها قربها لتروي لها مناما لم تره، فقط لتحاول صبغَ اختيارها بطابعٍ سماويٍ ولو كذبا.
ها هي تنسلُّ من فراشها كل ليلةٍ عاريةً ممزقة بعد أن تُقدم جسدها قربانا على مائدة الزواج، تصفق الباب ورائها بشدة وتبكي.
"طارق" الذي يهيمن على كل تفاصيلها الآن، طارق الذي أرادت الانتقام منه بزواجها من الآخر بهروبها بعيدا عنه، هي التي أرادت ردّ الاعتبار لكبرياء أنوثتها فإذا بها تغزر السكين في خاصرة العمر، تبكي هذا الزمن المتسرب من بين أصابعها كمسبحةٍ انفرطت دفعةً واحدة، هذا الوقت الذي ما عادت تحياه هكذا وكأنهم كفّنوها يوم زفوها بالأبيض ووضعوها في تابوتٍ كبير اسمه الزواج.
لم تصدّق جدّتَها وهي طفلة حين كانت تقول بقرويتها المحببة إليها:
"الزواج هو الموتة الأولى للبنت عشان هيك بلبسوها الأبيض مثله مثل الكفن يا ميمتي. "
تتذكر جدتها مريم الآن، جدتها التي رحلت إلى الأبد قبل أن تودّعها، قبل أن تقول لها كم أحبتها وكم كانت صادقة وعميقة بحكمتها. سرقها الموت منها ليظلّ حيز رحيلها كذبةً لا تصدق ولا تزول.
تربط شالا على خصرها النازف، تضع موسيقى شرقية –كعادتها- هي التي بقيت وفيةً لشرقيتها ولأبجديتها الأولى،تأخذها نوبةُ جنون هستيرية لتهزّ جسدها بقوةٍ متماهيةً بعذاباتها وهي تقول:
وأنا وصدْقا
شبّ فيّ الاحتراق
من يطفئ النار التي؟
من يمنح الحبّ النقاء؟
إيّاك يا أنت الّذي...
أبحرْت فيّ كما تشاء..
هذه الرقصة المازوشيةِ التي واظبت عليها استكمالا لضرائب الحنين هذا الذي لا زالت تدفع ثمنه إلى الآن، هكذا لتختمها بحرقةٍ وبكاء: لماذا يارب لماذا لم أكن أسماء!!
مع الوقت اعتادت على جلد نفسها بسياط الذّاكرة، بل أصبحت تشعر بمتعةٍ سرية مع كل إشارة اتهام توجهها لنفسها مع كل رصاصةٍ تطلقها على قلبها ولا تموت، لتصرخ: أنا السبب، نعم، أنا السبب.
بطنها الذي يتكوّر على بعد خيانةٍ منه، هذه البذرة المشؤومة التي تسللت إلى داخلها، ها هي تكبر الآن.
هل تجهض مرّةً أخرى؟!
هذا السؤال الذي كان يرنُّ في داخلها طويلا ليدوّي صداهُ صراعات لا تنتهي إلا لتبدأ. هذه البذرة التي طالما تمنت أن تتقيأها عليه. أن تُطهر أحشاءها من أثارهِ داخلها.كانت تعلم جيدا أن عقم القلوب أشدّ من عقم الأرحام بل وأوجع! هي التي كانت تؤمل نفسها أن يقذف جسدها تلقائيا هذه النطفة للخارج كما فعلها في المرة الأولى. تذكرُ جيدا كتلة الدم المتجمدة التي انسلت منها في ليلةٍ باردة، لم تبك يومها كعادة النساء،بل كتمت أوجاعها وابتسمت ونادت عليه ببرودٍ من وراء الباب أن يزودها بفوطٍ وبملابس نظيفة.
سألها عن السبب؛ فردت ببرودٍ أتعرض لنزيفٍ اثر الإجهاض هلا أخذتني للمشفى؟ ،راقبت عن كثب ملامح الحزن التي ارتسمت على وجهه هو الذي كان يؤمل نفسه أن يكون الحمل والإنجاب وسيلة ليقربانهما من بعضهما البعض ليكونا عائلة واحدة ولو بعد حين.
أما هي فلم تشعر ولو للحظةٍ واحدة بأنها خسرت جنينا من أحشائها، شعرت فقط أنها تطهرت أخيرا من أثر نفاياته فيها، شعرت أنها أصبحت نقية بعدما رفض جسدها هذه القذارة التي تعلقت بجدار رحمها الداخلي، هكذا كابرت على آلام النزف وعمليات التنظيف لتعود بعدها طاهرة من جديدة ولو بصورةٍ جزئية.
لماذا عدتُ إليه؟؟
أيجبُ أن أعيد الكرّة مرة أخرى ؟
تضرب بطنها بقوة وهي تبكي وتعضُّ على شفتيها، لماذا عدتُ إليه؟؟
لماذا كنتُ أجبن من أن أخطو خطوةً واحدة نحو الحرية؟؟
أما كان لك من نبوءةٍ أجمل يا طارق؟؟!
تستمر بنواحها طويلا، تعترف أنها ما عادت تشعر بالبرد، هكذا وكأن إحساسها بالزمان والمكان انعدم نهائيا. بل حتى إحساسها بوجودها؛ هي التي أصبحت في نظر نفسها مجرد شيء.
لطالما كانت منطقيةً وعملية تحسبُ حياتها بمقاييس الرّبح والخسارة لتصل لحسبةٍ عادلة وفق تصورها للحياة، تنصب ميزانا وهميا وتراقب تأرجح كفتيه بين... بين...
تعلم جيدا أن عودتها هذه المرة كانت بدافع طموحها الأكاديمي بعد أن تحصلت على منحةٍ دراسية.
لطالما كانت شغوفةً بالعلم ترنو لبلوغ قمته سريعا. هي المهوسة بالركض وكأنها في مارثون سحريّ مع الزمن، أرادت أن تقطع الشّوط الأوّل كاملا وبأسرع وقتٍ ممكن، فهي – وكعادتها- لم تكن لتسمح لأي أحدٍ أن يسبقها مهما كان، هي المهووسة بالمثاليات الأفلاطونية والمدن الفاضلة. ما كانت تعلم يومها أن ما يأتي سريعا سيتلاشى بسرعةٍ أكبر، وأن آخر هذا الركض الطويل لهاثٌ مستمر وأنفاسٌ متقطعة، حينها لن تجد الوقت لتلملم ما تساقط منها. وستدرك أكثر أن حبل النجاة سيكون أقصر من أن يصل إليها.
تضحك وتبكي في الوقت ذاته حسرةً على حالها، هي التي أرادت لها وطنا فإذا بها مشردة في النصف الآخر من الأرض. فما من لغةٍ تجمعهما وان كانت لغتهما واحدة، أدركت مؤخرا معنى مقولة باولو بعمق " هناك لغة بلا كلمات"، هذه اللغة تحديدا هي التي تفتقدها معه لتظل غريبةً منفيةً في عالمٍ آخر؛ عالم "طارق" ربما !
كل الناظرين إليها من الخارج، يغبطونها عليه، يتوهمون جاهلين مثالية حياتها فلا يدركون كمّ البراغماتية الطاغية عليها،وكمّ التناقضات والمعارك الدائرة في داخلها، هو الذي يمثل للكثيرات منهن المعجزة التي طال انتظارها والفارس المخلص، وهي التي انتقدت سطحيتهن كثيرا في البحث عن "العريس اللقطة" على حد تعبيرهن وعدد الخاطبين. تلك التي تتباهى بعدد الراغبين فيها والأخرى التي تتفنن في رسم الصورة الأجمل لصاحب الحظ السعيد "عريس الغفلة". هن المدمنات على الانتظار، المعلقات آمالهن على فانوسٍ سحري اسمه الرجل. لطالما قالتها لهن مرارا لا تعقدن حياتكن على رجل، كن أكبر من ذلك، ها هي تقع بفخ كلماتها الآن.
وحدها أسماء، وقفت بوجهها محطمةً صنمها أمامها، لتقول: كفاكِ كذبا على ذاتكِ، عري نفسك أمام المرآة لتعرفي من أنت؟ وأين أنتِ منكِ الآن!، أنتِ الآن لستِ إلا صورةً مصغرةً عن المجتمع الذي حاربته طويلا، كفاكِ تمثيلا وبهرجةً للأقنعةِ وفلسفةً للأمور.
وحدها أسماء كانت تعلم الحقيقة كاملة حين قالتها لها: اياكِ أن تبرري هروبك الآن بشماعة النصيب أوالقدر، كوني أكثر وعيا لخياراتكِ،كوني الحرية التي لطالما دعوتِ لها.
كوني "سِّيلا" التي أعرفها فقط!
يومها بكت.
تذكر كل هذا جيدا ، تذكر الرسائل الطويلة التي تبادلنها لسنواتٍ عديدة، تذكر أحلامهن المجنونة معا.
لماذا هُزمتُ اذن!؟
لماذا لم أكن أسماء؟!
كانت تعلم جيدا أن شيئا ما من روحها ذهب معه إلى الأبد، وأن فاقد الشيء لا يعطيه. هكذا سيبقى قلبها عاجزا عن كل شيءٍ سوى مواصلة عمله الفسيولوجي في ضخّ الدّم وتلقي الطعنات.
كانت تدرك جيدا أن الحب لا يقبل الجدليات العقيمة التي يواسونها بها؛كأن يقولوا أنه سيحدث مع الوقت والعشرة والأطفال، هو قفزة قلبٍ إلى الآخر،واحتواء الجنون بجنونٍ أكبر منه هو شيء يحدث أو لا يحدث ، فهو هدية الله التي لا تقبل التسويف ولا الاحتمالات المؤجلة.
تنتبه على ندف الثلج من حولها، مساحات البياض التي بدأت بالتراكم خارجا، كل هذا ما كان ليزيل سواد قلبها الذي دمغته الأحزان.
تشتد العواصف أكثر، تدخل إلى شقتها الصغيرة التي يطغى عليها طابعها الفوضويّ والعشوائيّ معا، ممسوحة بمسحة حزنٍ وألم تخيم على كل شيءٍ من حولها. تنسل إلى داخل الفراش ملتمسةً قليلا من الدفء علها تنام..
لتبدأ لعبتها اليومية مع القدر حتى تغفو!
أعلي أن أجهض مرةً أخرى ؟!
نعم... لا
نعم ... لا
نعم لا .....
نع....
مطبُ البداية
تماماً كغيمتين التقتا في ظروفٍ باردةٍ وماطرة وصوت فيروز يصدح في الحافلةِ الصباحيةِ المتجهة إلى الجامعة _ جامعة العلوم والتكنولوجيا الأردينة_ عبر طريق إربد السهليةِ بقايا عشبٍ أكله الخريف قضمةً قضمة. هكذا وكل واحدةٍ منهما تُسرّح نظرها في فضاء الكون باحثةً عن حلمٍ هارب ومساحة حبٍ على قيد التشكل كغيوم كانون الآن.
كنتُ أراقبهما عن كثب وأنا أمشط أرجاء الحافلة بعيوني أنا الباحثة عن حكايةٍ في كل شيء .
وجوهٌ مكررة كالعادة، ذات التعب وذات البسمة الكاذبة، ذات الصوت الحانق على كل شيء، ذات النساء بملابسهن المحتشمة وكل واحدةٍ فيهن تكرر بقرويتها التقريع ذاته على أولادها لاعنةً اليوم الذي أتوا فيه إلى الدنيا، وذات السائق الهرم بحطته الحمراء وأحافير وجهه العميقة هو الذي حفظنا وحفظناه عن ظهر حلمٍ وانتظار. أذكر يوما أني غرقت في خطوط يده وتجاعيدها الكثيرة هو الذي كان يمسك المقود بيديه وأنا التي كنتُ أسرح في تعاريجهما، أتتبع تفاصيلهما فاصلةً فاصلة لأحيك لكل خطٍ مائلٍ حكايةً وربما اثنتين.
كنتُ حينها أجلس في آخر الحافلة أقرأ كتابا كالعادة، لستُ أذكر ما عنوانه يومها، فكثيرةٌ هي الكتب التي رافقتني في الطريق. هكذا كنتُ أحرق الوقت أنا التي انتميت مطولا لجنس القوارض فلطالما كنتُ فأرة كتبٍ بامتياز. رفعت رأسي قليلا، وأغلقت الكتاب لأتأملهما أكثر،كان أول ما جذبني إليهما الكتاب المفتوح من منتصفه، هل اتفقتا دون سابق إنذار على استعارة الديوان ذاته لسميح القاسم ! دققت النظر عن بعد لتطالعني الحروف ذاتها على الجانبين:
"نحن يا غاليتي من واديين
كل وادٍ يتبناه شبح
فتعالي، لنحيل الشبحين ..
غيمةً يحرسها قوس قزح.."
أي صدفةٍ قدرية تلك التي جمعتهما على نافذتين متقابلتين على ذات الحافلة، وكل واحدةٍ منهما تطالع نفس القصيدة ولكن برؤية مخالفة، هما المتشابهتان حد التناقض هكذا كنتُ أحادث نفسي سرا ونحن نهم بالنزول من الحافلةِ .
كنت حينها في سنتي الجامعية الأولى، حالمةً ومجتهدة. واظبتُ ومنذ يومي الجامعي الأول على تدوين اليوميات،مازلت أذكر أول دفتر يومياتٍ اقتنيته، كنتُ أضحك كثيرا على تفاهة الأسئلة وبساطتها، أذكر منها: ماذا ارتديت اليوم؟ ومن قابلت؟.
مبكرا جدا أدركت أن بداخلي روائية وليس شاعرة فحسب، لهذا حرصت على التدوين، كنتُ أعلم أن هذه الأمور على سخافتها ستساعدني في استرداد التفاصيل وإغواء الذاكرة لأكتب أكثر.
كنتُ وقتها مؤمنةً جدا بما قاله ماركيز " أن الحياة ليست ما نعيشه، بل ما نتذكره وكيف نتذكره لنرويه".
أذكر يومها أني عدتُ إلى البيت لأكتب وأكتب ، "التقيت اليوم فراشتين"، شطبتها وأعدت صياغة العبارة من جديد: التقيت اليوم "عصفورتين محلقتين"،وجدت حينها أن من السخافة وصفهما بالطيور. كلتاهما كانت تحمل كونا بأكمله،أعدت الصياغة مرّةً أخرى: "التقيت اليوم غيمتين " أعجبني الوصف بادئ الأمر، أعدت قراءته من جديد .
أنا لم ألتقهما حقيقة الأمر، أنا تعثرت بمطبّ البداية الذي جمع لقاءهما،ربما.
كنتُ أخمن بحدسي الشاعريّ أنهما ستصطدمان معا وبقوة وأن برقا ورعدا وعواصفا ستضرب المنطقة وسيكون الطوفان حينها.
فهل أنجو!
لا عاصم اليوم من الحكايةِ وقد تورطت فيها عن قصدٍ مني .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
شاعرة وروائية فلسطينية ـ الرواية صادرة مؤخرًا عن ثقافة للنشر والتوزيع