فراولة

فراولة
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

سامية مصطفى عيّاش

أشار نحوي بإصبع غاضبة: قومي حلّي المسألة!

فأدركتُ أني علقت بالوحل..

لمّا دخلتُ الصفّ متأخرة، كان صوته متسخا بحدة وهو يصرخ بثقة النظيفين: مفهوم؟

لم يكن صوته مزعجا بالنسبة لي رغم ذلك، كنتُ مشغولة بما هو ألعن من نتوءات صوته، بالطين الذي علق أسفل حذائي ليضاعف من ثقله، بعد مشي ثلث ساعة مؤلمة من بيتنا في أول المخيم، حتى نهايته، وصولا إلى هذه المدرسة الصدئة! 

مِلت على زينب قليلا؛ أسألها إن كانت تملك دفتر خرابيش، أخفيت عنها أني أنوي نزع أربع ورقات دفعة واحدة، ومسح قعر حذائي بها، جيد أني أخفيت نواياي، لو علمت لكانت جُلطت من فورها.. قالت أنها لا تملك أي واحد، ولا حتى في بيتهم. أنا لا أصدقها؛ والدها عنده دكان أشتري منه أقلام الرصاص، ودفاتر، وقليلا من السكاكر التي أخفيها لأخي خالد ولأمي، أخفيها حتى عن أبي الذي سينعتني بالمسرفة إن علم، لكن، ولمجرد أن أقول لأمي: "غمْضي عينيكِ وافتحي فمك"، وألقمها ما بيدي بخفة، حتى تنفرج عن بسمة رضا، فأفرح!

 

يكرر الأستاذ: مفهوم؟ وينظر نحوي بعينين راجيتين، لكني أصفعه… أصفع صوته البائس الفقير، وألهو.. سيعرف الأستاذ أني غير آبهة بغضبه، وبمسألة الرياضيات السخيفة!

زممتُ شفتيّ إلى الأمام، ورفعتُ قلم الرصاص بين إبهامي وسبابتي بخفة متمرس، وتركته فوق الشفة العليا معلقا بعد أن جررت الهواء بقوة إلى أنفي. بدا القلم معلقا بين أنفي وشفتي العليا، كطير مهتز بين سماء وأرض.. سحرني فكرة أنه معلّق، فعاودت تعليقه مرات.

وتكرر صوت الأستاذ العجوز: مفهوم؟

لم أستطع فهم كلماته ذات المصطلحات الضخمة، فتركت صوته وشأنه، وعدت ألعب بالطير الذي يهتز بين الشفة والأنف!

ولأن صفنا يطل على ثلاثة شبابيك واسعة، فإن حصصا كهذه فرصة لا تعوّض، للغوص خلال الشبابيك: تلاحق فتيات المخيّم الليل، في محاولة لاسترداده، عبثا! يفركن أعينهن وقد أدركن أن ما فات لن يعود، لكن لحظة الإدراك على سطوتها، تعلن أرجحة لاحتمالات القادم خلف الدروس المملة.. ربما بالتجسس على شباب المخيم، ذوي الياقات المطوية، وكرّاسات السلك الطويلة،  وربما بمتابعة بنات الصف السابع والثامن، وهنّ يخفين أجسادهنّ التي بدأت تتبرعم. أو التطفل على البيوت التي بدأت تُبنى من أسقف إسمنتية، وتتدلى منها دالية عنب لا تعلم إحداهنّ كيف كبرت هكذا، بسرعة صاروخ!

كرر الأستاذ: مفهوم؟

ارتفعت الأصوات تكرر الكلمة، تلقائيا، وتزيد من ميلها أمام العجوز صاحب الأنفاس القصيرة. انتظر الأستاذ كثيرا وهو ينظر في الوجوه الندية عن الذي فُهِم. لم يكن ثمة إجابة. لقد امتدت أعينهن نحو الأمام فقط، كنوتة موسيقية قفزت خطأ، فتلف كل اللحن.

ماذا يعني أن أعرف كيف يتحوّل الموجب للسالب لو نقلته لطرف المعادلة؟ هذا سخف لا يحدث أبدا، لو نقلوني إلى مدرسة أخرى سأصبح موجبة أو سالبة مثلا..! الأمر مضحك!!

سرقتُ نظرة نحو عينيّ الأستاذ، كان غضبه قد نضج تماما.

سيصرخ عليّ، أعرف ذلك من نظرته التي اصطادتني..

أشار نحوي أخيرا: قومي حلّي المسألة!

لا مفرّ!

أمشي نحو اللوح، أرفع طبشورة خضراء كأملي في حلّ يسعفني بدل بهدلة ستستمر لأشهر قادمة كلما رآني. ببطء أحلّ المسألة، أفكّر بصوت عالٍ، وأكتب ما أفكر مرجّحة الصواب، يفقد الأستاذ صوابه كلما كنت بطيئة، يصرخ: ولِك صحّ، ليش بطيئة هالقد؟ خلصينا!

أصبحتُ بطيئة أكثر، أغيظه، أعزف على الطبشور ببطء، فيفور، ويخلّصني هو: منار! كمّلي الحلّ..

علقَت المسكينة!

تأكل بهدلة خفيفة، ويرنّ الجرس.

الصوت البشع يصبح نافذة للجمال، لمّا أعلن انتهاء حصة الرياضيات أخيرا!

نحو الشباك المطل على الساحة، التقيتُ وذلك الوجه الذي جاء على عجل، من أين جاء الأستاذ همام؟

أولاد المخيم كلهم تمنوا لو كانوا الأستاذ همام.

مرة واحدة تغيرت وجهة أمنيات الشباب في المخيم، من رونالدو إلى الأستاذ همام!

كانت خطواته السريعة نحونا، وملابسه المكوية بعناية شديدة، خاصة البنطلون الكتّان ذا الخط الواحد المارّ بركبة تفرج عن امتلاء ملفوف، وصوته القوي، ويده الناعمة التي تخلو من الشقوق والجروح، ونظارته اللامعة، كل هذا جعلهم مشدوهين إليه، جلّ حلمهم، يتعاظم كلما امتدت رقابهم نحو مدرسة البنات، وهم يتأوهون: أخ! لو كنت هُمام!

لا يُدرسنا الأستاذ همام. يدرّس الصفّ الأعلى منا، لكنه يمُر من صفنا، فتصطف البنات على طول الممر. هند حلفت أمامنا أنه سيرضخ لجمالها، وسيقبل يدها كالأفلام، وأكملت وهي تغمض عينيها، سيقبلها بذلك الهدوء الشديد، ورجفة التوق  تشلّه. ضحكنا عليها، فزعلت.

وجدتُ الدار مقلوبة، إذ كانت كل أشيائي في الساحة الصغيرة! بقيتُ في ملابسي، بينما ظهر والدي وأخي من بعيد يجران لوحا ضخما من الخشب الأملس، كنتُ أرقبهما بلا أسئلة، متتبعة ما يفعلانه بدقة. 

كانت المفاجأة أن والدي قَسَم غرفتنا إلى نصفين، نصف ضيق وآخر أوسع قليلا. مبهورة أنظر إلى الغرفة المقسومة، وبضيق أرى عتمتها من الخارج، ما الذي أقوله لأبي كي يعدل عن قرار شرع في تنفيذه وأوشك على الانتهاء! أغمضت عينيّ، أدخل إلى نفسي: الغرفة ضيّقة، روحي ضيقة، الهواء قليل، قليل، كيف يقسمها أبي هكذا؟ سأهيل الحائط فوق رؤوسهم، وتوجعهم، ثم يندمون لأنهم لم يشاوروني!

اللحظة التي أشرع فيها بالصراخ، هي ذات اللحظة التي تلمح عيني الأستاذ هُمام عند الباب الخارجي، حاملا حقيبة، ومبتسما لملابسي المدرسية، وربما لي!

هل يمكن أن يكون ابتسم لي؟

أخي وأبي يهللان، احتفاء يبدأ بالأوجه المنتشية ولا ينتهي، ارقب ضمة والدي لهمام، يدخله الغرفة الأصغر، يشير بيديه وقدميه، يرسم أشكالا، كمسطح رأسي وآخر أفقي، لا أفهم شيئا، أنظر نحوهما وأنتظر أن يخرجوا لأدخل أشيائي المتناثرة، وأرتاح.. لكنهم لا يخرجون، يستمر والدي بالعمل، ويساعده همام وأخي، فأجن!

أنادي أخي، وأصرخ في وجهه: ماذا تفعلون؟ فهّمني!

يجيب: الأستاذ همام سيستأجر الغرفة هذه، أبي يفتح له بابا خارجيا، ونحن في الغرفة الصغيرة، التي تفتح على الصالة والخارج. ربك رزّاق!

أتأرجح بين الفرح والحزن، طوال الوقت، أبتسم وأشعر أن الدمع مخنوق في حلقي، أدخلت أشيائي بعد الليل، بقيت خارج البيت، أرقب الغرفة الأوسع في بيتنا والتي صارت ككل البيت تشبه زقاقا.

رتبت أشيائي كلها بعناية لتتناسب وحجم الغرفة الجديد. وحين انتهيت من كل شيء، ألقيت نفسي على السرير. حملقت بالسقف حتى نمت. نسيت صباحا أمر الغرفة، وحين نظرت حولي، شعرتُ بضيق يفرد عضلاته على صدري فينتصر. ذهبت إلى المدرسة، كان الأستاذ همام يمشي ورائي. الشعور بأني تحت مراقبة ما جعلت حركاتي لا تبدو طبيعية، فكرت في منظري من الخلف، لم أفكر في هذا قبلا، انتظرته حتى يمّر من أمامي، فأصبح خلفه بلا شكوك بأنظار تقلقني، لكنه ابتسم لي وقال: صباح الخير.

سأل عن دروسي وما إذا كانت الرياضيات صعبة، وطلب مني أن أسأله بلا حرج إن استصعبتُ شيئا. لم أكن أنظر إليه؛ أمي علّمتني أن البنت المؤدبة تنظر نحو الأرض فقط، ولا تترك وجهها لمن أمامها. قالت أشياء أخرى عن الكلام مع الرجال، وأنهم يريدون شيئا واحدا، لكني لم أفهم الشيء، ولم أعرف لِم هو شيء واحد فقط. هذا يعني أنهم لا يطمعون كثيرا. سألت أمي: البنات ينظرن، هل يردن شيئا واحدا أيضا؟

لكنها هرعت نحو الباب وأغلقته، وفركت أذني بقسوة وهددتني: ابتعدي عنهنّ، يا ويلك، يحدث شيء تكرهينه. سألتها: مثل ماذا؟

لكنها رمتني بنظرة قاسية. عرفت أخيرا أنها تفتش أشيائي. سلّمها أخي الأكبر هذه المهمة بعدما رأى ملابسي فاعترضت.

لا أنظر لوجه الأستاذ همام. لا أرفع وجهي نحوه، حين وصلنا باب المدرسة استرقت نظرة واحدة إلى وجهه، حين وعدت نفسي بأن لا أضرار وراء ذلك. سلّم عليّ، وسأل: أنتظرك عند الباب في الرواح؟

فانتشرت حرارة في جسدي، وشعرت بأني أرغب في حمام من ثلج.

تجمعت الفتيات حولي، ولم أقل شيئا، قلت لهن أن الأستاذ همام مثل أخي الكبير، وأنه سكن في غرفة خارجية من بيتنا. نزعت صورة الأستاذ همام من أخي، فصلتهما عن بعضهما، أخي يعبث بأشيائي، لن يفعل هذا الأستاذ همام. كتبت زينب ورقة ووضعتها في جيب مريولي. ووشوشتني: الأستاذ همام مثل أخيك، أعطه هذه، وسأمنحك دفترا كاملا، وحين صمتُ قليلا، أتبعتها: وقلما!

وجدتُ الأستاذ همام في انتظاري عند الباب. أخبرته عن اليوم كله، وانتشرت في وجهي ضحكة حاولت كتمها لكني لم أستطع، وأنا أخبره عن زينب والرسالة؛ تقول ماما: قيمة البنت تفقدها حين تبين أسنانها عن ضحكة أمام رجل! تناسيت جملتها، ومددتُ يدي نحو يده، وأعطيته إياها، أطراف أصابعي لمّا لمست أصابعه، احترقت. فسحبتها بسرعة. هل شعر؟ سألت والخوف يأخذني. وصلنا البيت، رفع يده بخفة نحوي، ولوّح لي ودخل في غرفته. فعلت الشيء نفسه. استغربت أن الغرفة لم تعد ضيقة، وأن في وسعي أن أدور فيها دورة ليست بصغيرة. لكني أيضا، لم أنظر إلى وجه أمي، ونكّسته إلى الأرض. صرتُ أخاف الذهاب مع الأستاذ همام صباحا، أقف عند الباب وأسمع صوته وهو يبتعد نحو المدرسة، ثم أخرج. حين أمشي قربه، يحدث ألا أقاوم رغبتي في النظر إليه، والابتسام. لكنه ظلّ ينتظرني عند باب المدرسة وقت المغادرة، وظللت أنقل له رسائل البنات، وأزهارا، وآخذ أقلاما ودفاتر، ومساطر، ووعودا بأشياء غالية كقرط أو أسورة. هذه المرة طلبت مني ليلى وحسنة وخولة وهند ردا على الرسائل، لكنه طلب ألا آخذ أي رسالة من البنات، وأنه لا يقرأها. أخبرته أنها أصبحت وظيفة جديدة أتقاضى منها أشياء حلوة، وسرعان ما أعطاني أشياء أجمل، لكني زعلت: راح احتراق أطراف أصابعي!

صباحا، انتظرت أن يخرج عند الباب، لكنه لم يخرج. وحين شعرتُ أني سأتأخر، ذهبت إلى المدرسة. عشت يوما كئيبا أنتظر نهايته. وحين وجدته عند الباب، هرعت نحوه وصرخت في وجهه: أين كنت صباحا؟

ندمت لأني فعلت ذلك. بقي صامتا طوال الطريق.

ولم أعد أنتظره صباحا، أو أذهب معه مساء. صرت أتبعه بنظري في المدرسة حين يمر من صفنا. أسلم عليه وأنسحب، لكني بقيت أحاول معرفة إن كان خلفي أم لا، وبقيت أتخيل منظري من الخلف: حلو، أم لا؟

الدنيا حرّ، آخر الربيع. بدأ أخوتي ينامون في حوش الدار الصغير. وظللت أنام في غرفتي. كان أخواي يشاركانني فيها، أنام على السرير، وينامان أرضا بعيدا من سريري. يصبح الليل هادئا، أسمع نباح كلاب كثيرة، وعتمة تشملنا. في المخيم، يشغلون الكهرباء ليلا حتى منتصف الليل، ثم تقطع.

 انتصف الليل، ولم أعد أسمع إلا صوت كلب هنا أو هناك. لم أفلح في النوم. كانت ليلة مقلقة، بعد دقائق، سمعت صوت همهمة وآهة مكتومة بين حين وآخر. شربت ماء كثيرا، لمّا شعرت بعد الآهة الصادرة بجفاف في حلقي. انتبهت إلى خط من النور على مستوى الحائط الذي قبالتي وقد اشتعل، نور شحيح، بدا من سراج صغير. حاولت النوم، خشخشة خفيفة ثم صوت الماء. اقتربت من خط النور الضئيل، أغمضت عينا، وفتحتُ أخرى، كتمت شهقة في اللحظة الأخيرة من خروجها. جالسا على كرسي صغير. ظهره نحوي، عتمة ونور يلعبان، وماء وبخار، ورغوة صابون كثيرة على رأسه. يسكب الماء، فيصبح ظهره نقيا، أبيض. شامة حمراء، أعلى ظهره نحو كتفه الأيمن، يحكّها قليلا، فتحمّر أكثر، حبة فراولة، حبة فراولة!

كنت أغني لها،  بدا لي أني رفعتُ صوتي، أن شيئا ما وصله، فاختبأت في فراشي أرجف.

مرضتُ. أصابتني الحمى. رحت في هذيان طويل، أحلم بحبة فراولة في فمي. حمدت أمي الله. كان موسم فراولة على أية حال. وأطعمتني حتى ظنّت أني شبعت. راحت الحمى، ولم أشبع!

زارني الأستاذ همام في مرضي، يقول أخي، وفضحتنا بهذه الفراولة في هذيانك، خجلنا، وخشينا أن يظن أننا لا نطعمك. راح واشترى فراولة لك.

عدتُ إلى المدرسة. مشيت خلفه. أحفظ مكانها. أستطيع أن أحددها من هنا. أرسمها في الهواء كمجنونة. التفت إليّ فانتظرني. يشعر بي! سلّم علي، وأصبح أحمر اللون، كفراولة كتفه. هذه المرة، نكّس وجهه، ومشى قربي صامتا. لم ينتظرني عند انتهاء الدوام. ولم يذهب للدوام اليوم الذي تلاه، أخبرتني أمي أنه التقط المرض مني بسرعة. زرته مع أبي، زجرني أبي لأني سأذهب لأجل مسألة الرياضيات الصعبة، وهو مريض، ونثقل عليه. لكني أصررت إصرارا!

تهلل وجهه، أو أني ظننت هذا. وقام ليحلّ لي مسألة رياضيات عن انتقال السالب إلى طرف المعادلة، الانتقال الذي يحوّله إلى الموجب. كان واهنا، فصنعت له حساء، وجعل أبي يرسل دعوات بالرضا عليّ إلى يوم القيامة!

ظللت أحلم أن حبة الفراولة ستؤكل. أن في الإمكان مضغها على مهل. وأنني سأملك وقتها بيارة ضخمة. كل ليلة، أرفع قميصه، كل ليلة أتحسس مكان الفراولة، أنظر نحو لونها الأحمر، وأمضغها على مهل، وحين تصبح في فمي، يتأوه كما سمعته تلك الليلة، وينغمس في النور والعتمة، في الرغوة على رأسه، وفي الماء، يظهره نقيا. وحين تولد على جلده حبة فراولة جديدة، أكون استيقظت من نومي.

روائية وقاصة فلسطينية

من مجموعة “فراولة وكعك وشوكولاته” .. صادرة عن الدار الأهلية  بالأردن 2014

مقالات من نفس القسم