فاطمة

موقع الكتابة الثقافي writers 46
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام
  
 أشرف الخريبي
فى هذا اليوم تحديدا يا سيدي. كنت أقف في منتصف الحزن،في أول الماء والنار، 
 أعرف أن المسألة تتعدى حدود عقلي، وتتشنج فوق لساني وتعصرني غمًا
-نعم
شكرا يا سيدي. شكرا لك.
أجلس 
نعم 
سوف أجلس… 
سوف أقول لك كل شيء 
سأشرح يا سيدي 
نعم..
 كانت المقاعد مرصوصة أمامنا – كانت لنا أنا وفاطمة تلك التي ظلت تتساند علىّ وأتساند عليها في الحارات والأزقة، وعَدتني أن تُنجب لي أبطالا، وعدتني يا سيدي، أن تنجب لي رجالا يعملون ويقفون بدلا منى على عربة الكشري 
-اسمعني يا سيدي..
-لا تلوح بيدك
-سوف أقول لك كل شيئا.
لا أعرف متى بدأ العراك، كانت الراقصة ترقص والناس تهيج وتقعد وتزيط، لما ذرت الريح، تناثر التراب وعلى، دار، لف وحط.  آه … أحد هذه المقاعد المرصوصة، طار فى الهواء مُستقرا فوق رأسي تماما،
لا أعرف من بدأ ومن هو الذى فعل. ولا متى بدأ، أنا لا أتهم أحدًا ولا أستطيع التخمين .. فنحن كنا فى منتصف الليل، والولد الأعرج قال لي: “هتحصل شكله” قبلها بدقيقة ..لم أهتم، ورجحت وقتها أن الموضوع بسيط أكثر مما أتوقع. لم أكن أعرف أن فاطمة 
لا \
لا تكتب اسمها يا سعادة البيه، فاطمة هذه دنياي ونعيمي وهنائي نعم هي، ستنتظرني هناك لا تقول لأحد أنها ستنتظرني يا سيدي 
-أي شك؟ و أي فعل يُعوضني الآن ؟
إنها فاطمة يا سيدي ألا تعرفهاّ !!!
لو سألت الطير والشجر، السواقي، فدادين الذرة، النجوع، القرى، كل أهل البلد يعرفونها. سيقولون لك عنها. سيحكون لك 
أنا لا أخفى شيئا أبدا يا سعادة البيه، هذا الرجل النتن الذى تتحدث عنه لا أعرفه.. لكني سمعت عنه من فاطمة كانت تذكر اسمه بتقزز، فأشعر برائحته العفنة وكم لعنته أمامي، ولعنت الزمان الذى فيه نعيش ، لعنت كل أهل القرية، كانت وحيدة يا سعادة البيه لا تعرف من حياتها غير بيع الجرجير والكسبرة الخضرة …..فاطمة بنت الشيخ إسماعيل عبد ربه. أمها زينب بنت عيد بائع الابائيب وأمشاط الشعر المصنوعة من العظم، قريتي المُظلمة كانت دافئة رغم لسعة الشتاء البارد، لما هجعت العيال وتفرقت، ثم تجمعوا عند الجامع الكبير، فوق شط الترعة الراكدة المياه وقفوا، خلعوا الغاب وشذبوه، حملوا الصفيح الملقى من الخرائب ومضوا يخبطون
” يا سيدنا يا بلال فك شنقة الهلال ” 
هكذا يا سيدي على دكة الشافعي شيخ الناحية، ظلوا صامتين وعيونهم تتعلق بالسماء يطرحون الأمر ويقلبون الحكايات القديمة والقمر محطوط فى المدار عند الساقية المهجورة جلس على أبو محمود مع زوجته الحامل فى الأشهر الأولى منتظرا أن تأتيه بالولد.والسماء كانت غائمة كأنها ستمطر       
” يا سيدنا يا عمر فك شنقة القمر “
وقفت الكلاب على أقدامها الخلفية وهاجت القرية بالبسملة والتراتيل والدعاء ومعرفة الله \ زامت البيوت وتكدرت البهائم فى الأجران وناحت أطلت الضفادع من شقوق الماء فى المصارف والترع وسكنت، زحفت الثعابين والتفت فى دائرة جماعية كبيرة وبينهم الأقرع الكبير، خرجت النسوة لأسطح الدور لحلب النجوم. 
ونمنا عاريات على بطونهن ، فى المسجد الكبير تجمع أهل العلم والخبرة لفهم الأمر،الراديو فى قهوة خليل يذيع الإنباء الآذان مُتعلقة ولاهثة، مر رجال ملثمون لا أحد يعرف هويتهم يحملون البنادق ازداد اختناق القمر، اسودت الدنيا، وقفت العيال فوق الصفائح مشدوهين توقف صوت الشيخ عيسى فى منتصف الآذان أطلت عيون من خلف دهاليز وعيون من أمام مواخير الجاز. مصمصت شفاه وانداحت دموع. وتحجرت مآقي، ميكرفون البلد الكبير يأمر الناس بالتزام الهدوء والصمت والدخول إلى بيوتهم وغلق الأبواب على النسوة والأطفال الصغار، لم يعد أحد يعرف ماذا سيحدث بعد لحظة. 
كانت فاطمة تضحك وكانت يا سيدي المقاعد مرصوصة فى انتظار أهل قريتي يهنئوني أنا وفاطمة التي ظلت تتساند علىّ وأتساند عليها فى الأزقة والحارات ووعدتني أن تنجب لي رجالا\ أبطالا يا سعادة البيه لكن أحدا من هذه المقاعد لف ودار مستقرا فوق رأسي تماما. وكلوبات الجاز ترنحت وسقطت، الضوء كان خافتا ولم أر، عل صراخ \عويل، الدنيا كانت برد وطين، مددت يدي أتحسس فاطمة التي كانت فى جواري. لكن أهل القرية ظلوا صامتين، تصلبت في حوش الدار أبحث عنها، ألف قنديل أبحث به عنها…هي يا سعادة البيه كانت تنام رائحتها عفية، وجهها مالح، شعرها مُتهدل، 
سوف أقول لك كل شئ، نعم سوف أقول كل شيئا
ليلة شجية ممطوطة كضحكة صفراء هبت الريح بعنف، وتعكرت بالتراب، مالت الأشجار وزأرت، تذمر الذليل، وابن السبيل والسبع الأرعن والخائف والضعيف، همدت النار فى المواقد والأفران، من فوق المعسل القص طارت، نكشت شعور الرجال، 
عند أول الماء وقفت أنادى فاطمة.. فاطمة 
 أظافر مخبريك الأغراء لهفتنى وفاطمة فى الماء تضحك، أيدي رجالك سحبتني،توقف العرق قليلا عن التهام جسدي اليقظان، البوظة طبقة كثيفة من هواء رطب.والجواميس تحلب لبنا رائبا\ الأبقار تبقر بطون بعضها، تنطح أولادها. والبلد تحكي وتتحاكى.
فى هذا اليوم تحديدا يا سيدي، هجم الدود على لوز القطن وعلى ساق الرجل وعلى صدر المرأة ..غير أنه تزوج فاطمة غصبا، 
كانت ليلة مليئة بالشجن والسعال وصياح الديوك فى غير موعدها استعجالا للنهار، جسدي مكدود أغيب فى غياهب جروحي.يدكني الذعر وأنادى : فاطمة \ فاطمة  
لكني أعود يائسا بشكل محزن، أحصر الجماجم يصطف الرجال/ النساء /العاطلون/ الشحاتون /الأطفال والعيال، والغرباء على فم الترعة الراكدة المياه. أيدي رجالك تسحبني وميكرفون الجامع الكبير يعلن وفاة فاطمة يا سعادة البيه، و لا عزاء للسيدات.

مقالات من نفس القسم